سلايدرسياسة

السودان … القيادة العسكرية غير مؤهلة أخلاقيا

الضباط المعاشيين أيقونة الوطن وشمعته التي لا تنطفي

مصطفى يوسف – لندن

هم أيقونة الوطن وشمعته التي لا تنطفئ، وإن أراد لها الآخرون ذلك، حملوه في الأحداق والمهج، تغنوا بحبه وعزفوا من أجله نشيد الأمل، بذلوا الروح فداءً له، وقدموا الغالي والنفيس من أجل رفعته ونهضته وتماسكه كياناً واحداً لا يعرف الجهوية ولا يؤمن بالعنصرية، معيار الانتماء إليه واحد، آمنوا بالعمل في القوات المسلحة عن عقيدة وإيمان راسخين، بأنها الحامي وحائط الصد المنيع  وصخرة الدفاع عنه، صانوا شرف وعقيدة الجندية، مجسدين أرضاً وجواً، في كل الوهاد التي عملوا فيها، والجبال التي اعتلوها، والأحراش التي وطأوها، وخبرت بأسهم وشدتهم وقوتهم وشجاعتهم، والمدن التي حرسوها وصانوها، أن الانتماء دائماً ما يكون للأرض والتراب لا التنظيم ولا الكيانات ولا الأشخاص.

أتحدث عن الضباط المعاشيين .. احتياطي الوطن وعزمه الذي لا يلين، ورصيده الذي لا ينتهي، رموز تعرف معنى الانضباط العسكري، وقيم الجندية، وكيف تزود عن حياض الوطن، وتتعبد في محرابه، هم البوصلة التي كانت تضبط الأداء في القوات المسلحة وتوجهه نحو الغايات القومية العليا، لا الحزبية الضيقة، التي حُشر فيها هذا الصرح العظيم، فنزعته عن تاريخية قوميته، بفعل شيطاني خبيث، لم يرضهم، مثلما لا يرضيهم بكل تأكيد ما يتراءى في المشهد اليوم من استمرار تغول الحزبي على العسكري وارتهان القوة العسكرية خدمة لأجندات القوى الاقليمية.

جمعتني نقاشات فكرية عميقة ومطولة مع قيادات رفيعة المستوى من هؤلاء الضباط، تسنمت أرفع المناصب، عن جدارة واستحقاق، منهم من طالته يد الاقصاء والفصل التعسفي والبعض ترك الخدمة العسكرية بمبررات واهية من نظام الانقاذ العقيم، الذي عبث بالقوات النظامية جميعها، بشكل لم يشهده التاريخ البشري، فوجدتهم طاقات نادرة ، تمكنوا بحكم الانتماء للوطن والتقوقع في حضن معانيه النبيلة من حفظ رمانة التوازن، ولهذا حاربتهم الانقاذ، ومن بعدها من آلت إليهم مقاليد الأمور في القوات المسلحة من كوادرها وسدنتها، معتنقي سياساتها في التشريد وشنق الآخر على مقاصل متنوعة تنصب، وفق المزاج والهوى والغرض.

لهؤلاء قضايا متعددة، تحتاج لمعالجات جذرية، لترفع الظلم عنهم، وتعيد لهم جزءاً من الحقوق المسلوبة، وترد لهم شرف العودة للحضن الدافئ، لكنهم -ولأنهم جبلوا وتربوا على حب الإيثار وتقديم شأن الوطن- فإنهم مشغولون الآن بقضية الوطن وهمه الكبير، يغلون كالمرجل تحرقاً للمشاركة في بنائه وتعلية بنيانه، والمساعدة في تضميد جراحه، وان تعود القوات المسلحة لسيرتها الأولى، صرحا قومياً مثالياً، بعد أن صار حزبياً جهوياً، لا يعبر عن الوجدان القومي، بفعل السياسات الرعناء، التي لم تكن ترى أبعد من أرنبة أنوف من صاغها ووقف خلفها بالتنفيذ.

القوات المسلحة لم تعد قومية، وهذه ثالثة الأثافي، ومعضلة، يبدو أن الجميع يدفنون الرؤوس في الرمال، حتى لا يرونها، وهي أم القضايا التي ينبغي توجيه العمل الجاد لإيجاد حلول عملية لها، إن أراد الوطن التعافي، وإيجاد موطئ قدم في خارطة المجتمع الدولي، فاعلاً كما كان، عاملاً كما ينبغي، كما ان هذه القوات لم تعد مهنية كما كانت، بسبب الانتهاكات والاختراقات التي استهدفتها، فعبثت بجينات عقيدتها القتالية، وبقيم الجندية فيها، شوهت ثوابتها العتيقة، ومبادئها التي لا تحيد عنها، وتحولت بالتالي إلى مسخ مشوه، إلى الدرجة التي ارتضت معها ان توجه البندقية لصدور مواطنيها، تنفيذاً لتوجهات ضيقة وتحقيقاً لمآرب من اختطف الوطن عنوة في ليل بهيم.

لقد سيقت القوات المسلحة إلى التطوع قصداً والدخول في حروب إقليمية بالوكالة، في توقيت حساس ودقيق، تخدم أجندات، ليس من بينها أجندة الوطن، وإن حاولت قيادتها إيهام الرأي العالم المغلوب على أمره بذلك، رغبة في الالتفاف حولها، وهو شعار حق أُريد به باطلاً، مررت عبره حيلتها التي انطلت على الكثيرين، لكنها تناست التاريخ، الذي لا ينسى أن القضية مثار النزاع لم تكن وليدة اليوم، ليبقى السؤال، لماذا هذا التوقيت؟

كان التنظيم والدقة والضبط والربط هو ديدن هذه القوات، المشهود لها عبر التاريخ وفي كل الأزمان ببسالة جنديها ورباطة جأشه وترفعه عن الصغائر، إلا أن الثابت الآن انغماس هذه القوات في أدوار هي ليست من صميم مهامها، ولا كان ينبغي أن توجه لها، لولا أن أمر إدارتها بات بأيدي نفر لم يتربوا في حضنها، إنما قادتهم الصدف إلى أن يتبوؤوا مواقع لم ينالوا من التأهيل العسكري ما يخولهم لها.

لو كان هؤلاء المعاشيين في العمل أو لو اعيدوا للخدمة، تحت أي مسمى، لوقفوا بالمرصاد لكل هذا وأفشلوا المخطط الجهنمي الرامي إلى النيل من هذه القوات بشرذمتها، وقد كانت في الأصل جسماً واحداً، لاتعرف الشللية ولا التخندق إلا تحت راية الوطن الواحد، ولمنعوا تسلل المليشيا إليها، وهذا ما تأبه العقيدة العسكرية ولا تقبل به أبداً، وهو أمر في غاية الخطورة، لم تعرفه إلا في سنوات الانقاذ العجاف، التي كان يهمها بذر بذور الشقاق وتكثير بؤر الصراع، حتى لو أدى ذلك لضياع الوطن برمته.

يرى هؤلاء المعاشيين القابضين على جمر القضية أن القبول بتسريب هذه المليشيا، كجسم موازٍ، لا يقره العرف العسكري، وما تؤديه من أدوار في المشهد، يخصم من أدوار القوات المسلحة، وما ينتظمها من تزويد بالعدة والعتاد حتى تبدو في حالة تنافسية، أمر غير مهني وليس أخلاقيا، وأن القيادة العسكرية التي ارتضت ذلك، أصبحت غير مؤهلة أخلاقياً لعملية القيادة، وهي بهذا تقود البلاد إلى مجاهل الظلمات وتتوغل بها في أتون تقنين الحروب والاقتتالات الداخلية.

وصلت هذه القيادة- الغارقة في مستنقع السياسة الآن- مستوى من الخنوع والرضوخ والإذعان في تبادل للمواقع مهين، أن طلبت من رئاسة هذه المليشيا موافقتها للمضي قدماً نحو خطوة التغيير وهذا يؤكد ضعف أو انعدام السمات التي يجب توافرها في الشخصية القائدة، وإلا لكانت أقدمت على ذلك من تلقاء نفسها!

إن الشجاعة والشرف العسكري يتطلب من القيادة العسكرية، التصدي – وهي ليست قادرة بالطبع – لإيقاف هذا العبث ومعالجة أمر هذه المليشيا، لتصبح القوات المسلحة جسداً واحداً، مبرأً من الأمراض، أو الاستعداد من الآن لسيناريوهات لا قبل للوطن بها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق