
محمدالمنتصر حديد السراج
في الجزء السادس وقفنا عند الصرخة الصهيونية الأولى للمطالبة ببراءة تمنحها مساحة من الأرض والتي تدل على الضرورة في حصول الحركة الصهيونية على موطئ قدم.
وبذلك انقسمت الحركة الصهيونية باكرا الى من سعوا عمليا لضمان الحماية السياسية قبل الانتقال الى الأرض وتزعمهم هرتزل، وآخرون عرفوا بالصهيونيين العمليين والذين سعوا للاستيلاء على الأرض بكل الوسائل، وعبر عنهم الصهيوني العملي (نوسيغ) خلال المؤتمر الصهيوني السادس حين قال :(اما فيما يتعلق بالمسألتين التاليتين: الاستيطان في فلسطين أو البراءة، فإن الرئيس هرتزل يعتبر البراءة أكثر أهمية. أعترف بأنني أنتمي الى أولئك الذين يعتبرون الاستيطان في فلسطين، حتى بدون براءة، أكثر أهمية. .. قد تقولون بأنه لا يمكننا أن نستعمر دون براءة إلا عن طريق الاستعمار الصغير وأن الاستعمار الصغير يمثل وجهة نظر البرجوازية الصغيرة. .. غير أنني أود التشديد على أن هناك استعمارا صغيرا وسياسيا، ألا وهو الاستعمار الجماعي).
يعبر الفكر الصهيوني العملي عن واقعيته بواسطة الاستيطان المباشر في فلسطين. والبديل لذلك فيما لو تبينت صعوبة الاستعمار في فلسطين، هو بناء المستوطنات اليهودية في جوار فلسطين، ثم الانتقال الى الهدف المباشر عندما تسمح الظروف بذلك. ولم يكن البديل الثاني كناية عن موقف تكتيكي للحركة الصهيونية فقط … أي استخدام المناطق المجاورة كنقاط للقفز منها الى الغاية المنشودة. .. بل تضمن أيضا الاعتقاد الصهيوني العملي ب (فلسطين الكبرى). فهناك أمثلة على ذلك في كل من مشروع (العريش) وأفكار هرتزل الصامتة حول استعمار(قبرص). غير أنه يجدر بنا أن نلاحظ بصورة خاصة السعي الذي قام به (ديفيس تريتش) لشراء الأرض وتوطين المهاجرين اليهود في قبرص. وبينما كان تريتش المذكور يسعى لبدء عملية استعمار في قبرص، كان يحارب في الوقت نفسه لاستصدار إعلان صهيوني بتأييد فلسطين الكبرى. فقد قال :(يجب أن يتضمن برنامج (بال) عبارة فلسطين الكبرى أو فلسطين والأراضي المحاورة لها. .. وإلا فهو هراء. فلا يمكن حشر عشرة ملايين يهودي في أرض مساحتها 25 ألف كيلو متر مربع).
ولقد برر العدد المتزايد من الرواد اليهود المهاجرين الى فلسطين الموقف الصهيوني العملي تجاه الحركة القومية. وكرس بالواقع جوهر الحركة ومادتها العملية. فالمهاجرون الرواد اعتبروا عملهم بمثابة براءة بارزة لاستملاك الأرض. لذلك نجد التوراة تقوم بدور البراءة الأولى، والعمل يشكل البراءة الثانية. وقد عبر بن جوريون عن هذه النظرة في نيويورك، أيلول سبتمبر1915 عندما تحدث عن (كسب موطن) بقوله:(إن أرض إسرائيل سوف تكون لنا ليس عندما يتفق الأتراك والإنجليز أو مؤتمر السلام القادم على ذلك ويضعون تواقيعهم على معاهدة بهذا المعنى، بل بالأحرى عندما نبنيها نحن اليهود بأنفسنا. الملكية الثابتة لن نحصل عليها أبدا من الآخرين وبواسطتهم. بل عن طريق عملنا نحن وحده. ولا يبني البلاد إلا (الهالوتزيم) فقط، أي الرواد).
وشدد أيضا على أن (الرائد.. هي هالوتز.. هو المختبر الخلاق للثورة اليهودية في انتصارها بالعمل، وللبعث القومي).
لذلك نلاحظ أن شرارة الثورة اليهودية جاءت بالواقع نتيجة لتفاعل العمل والأرض. وأصبحت الحركة القومية اليهودية مشحونة بخصائص الثورة البروليتارية، بينما راحت زعامتها تفاوض للحصول على الاعتراف السياسي. فقد كان حاييم وايزمن، مثلا، يقوم بإجراء المفاوضة بشأن وصاية استعمارية بريطانية على فلسطين. وها هو يعترف في سيرة حياته الذاتية.. التجربة والخطأ.. بثقته في الخبرة البريطانية بالاستعمار. ويقول: (الانجليز يتفوقون على الفرنسيين كمستعمرين وفي إدارة المستعمرات). ثم يتابع قوله: (لذلك كان اليهود هم الذين أضفوا على فكرة المحمية البريطانية جوهرها وواقعها … وقد اتخذت فيما بعد شكل انتداب على فلسطين).