ثقافة وفن

وطن وفن وموسيقا

د. نائل اليعقوبابي

*(عدّة طرق تقود إلى الله.. وقد اخترت طريق الرقص والموسيقى..)

     – جلال الدين الرومي–

  لم تخرج أوروبا من ظلمة العصور الوسطى إلى كل ما بتنا نحسدها عليه من حريات، إلا بعد حروب ومجازر هائلة، أنهت تسلط الدين على الدولة، وبنت دولة مدنية علمانية اتخذ فيها القانون صفة القائد في المجتمع.

   هناك من قال: إن بلدنا بدأت الدخول في العصور الوسطى الأوروبية، أي نحن متخلفون فكرياً وحضارياً عدة قرون عن ركب العالم التخريب، والقتل، والتطرف، والفتنة، والعنصرية، ونشر الكراهية وموت الحياة المدنية، واضمحلال الشعور بالمواطنة، والتأسيس على الولاء، والعودة إلى نظام القبيلة والعشيرة وغيرها هي أسس تحكم قبضتها على الدولة السودانية.

   ليس من المنطقي إغفال يد العالم الأقوى، وما تفعله في كل ما يبذر في مختبرات أفكار السياسة لاستنبات عناصر التخلف والجهل واستيلاد بؤر التوتر الطائفي، لكن ذلك لا يعني أيضاً تحويلها إلى مشجب لتعليق تقصيرنا عليه.

   اليوم وبعد كل ما دفعه السودان من انفصال جزء عزيز من أرضه، ومن دم أبنائه في دارفور وجنوب كردفان، وكي لا يكون ما دفعناه في بنك الدم بلا طائل، لابد من إجماع وطني على انطلاق صافرة البدء بإصلاح شامل، لتكن هذه فرصة استثنائية لبناء دولة مدنية يؤسس فيها القانون قيمة العدل، وتؤسس فيها الثقافة المدنية قيمة السلام الاجتماعي، وتؤسس فيها المواطنة قيمة المساواة.

  ترفض الدولة المدنية استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، تحوله إلى موضوع خلافي وجدلي وتفسيرات تنأى به عن عالم القداسة، لتزج به في خضم عالم المصالح الدنيوية.

   غاب تأثير الثقافة والمثقفين عن ساحة الحدث السوداني لأننا لم نؤسس لثقافة مدنية، وبات صوت كل ما عداها قوياً فاعلاً ويملك شيفرة حرف المسار عن الطريق الصحيح.

الأغنية الطربية الجديدة:

  يقول حكيم صيني: (لا يهمني من يحكم الناس طالما أنني أضع أغانيهم..)، ويقول ابن خلدون رائد علم الاجتماع العربي الذي يحُتفل بمناسبة مرور ستمائة عام على وفاته، يقول في مقدمته الشهيرة: (إن انحطاط الأمم يبدأ بانحطاط أغانيهم) .

   يدفعني إلي هذا الموضوع ملاحظة الانحدار الواضح في الذوق العام، والانحطاط الغنائي في الأغنية الشبابية السودانية، إذ لم يعد المرء يرى سوى إهلاسات سمعية وهلوسات جنسية، وركوب عربات وطلوع كباري ودخول حارات، كنت أتسأل هل هذه الموسيقى التي قال عنها الكندي إنها مرادفة للمعرفة؟!

   وأقول كما قال كوليردج: البجع يغني قبل أن يموت، بعض مطربينا الأفضل لهم أن يموتوا قبل أن يغنوا ، لان أبطال هذه الأغنية ما هم إلاّ أشباه رجال ومغارز ، وطراطير ..؟!

هيَّ، اكشْ.. المهم الأخلاق!

موسيقا:

   .. هل نستغرب أن تكون الموسيقا في مركز اهتمام معظم الفلاسفة – أرسطو، الفارابي، هيغل، أدورنو، طاغور…- ما يدعونا للتساؤل عن سر تلك العلاقة بين الفلسفة والموسيقا (لماذا كانت العلامات الموسيقية سبعٌ، والمقامات سبعة…؟!) وقيل: الموسيقا كلمة يونانية كان ينشدها داوود على أوتاره ال(48)- لماذا كان عددها48.

   صنف الفارابي الموسيقا ضمن علوم التعاليم السبعة، ورأى أن فلسفة الموسيقا وجه من وجوه التفكير في أشكال ظهور الحقيقة، وفي أشكال التواصل الإنساني فيها، وفي موسوعته الكبرى عن علم الجمال اعتبر هيغل الموسيقا ثاني الفنون الرومانسية بعد الرسم، وأنها أكثر الفنون تحرراً من ثقل المادة، لأنها تتعامل مع الصوت، والصوت مادة تتلاشى لأنه حركة اهتزازية، و رأى أن المهمة الرئيسة للموسيقا هي (موسقة الأنا الداخلي الحميم، وجوّانيته العميقة، وذاتيته الفكروية).

   ألهذا لا تخلو مكتبات وبيوت الأدباء أو الفنانين من عوالم الموسيقا الكلاسيكية؟

   الموسيقا تفاعل بين المادة والروح، ولذا رأى رسول حمزاتوف أن الألحان ليست من صنع الأوتار، بل هي رجع الكلمات التي ولدت في القلب! وأن الخنجر يلقي الإنسان على سرير الموت والقيثارة تبعثه حيا.

  في هذا العالم الذي اجتاحته لوثة الحروب والعنف والظلم، وعمل فيه الكل كوكلاء للموت، ما أحوجنا إلى أسرار القيثارة القادرة على ترويض حيواتنا الداخلية التي أفلتت من كل عقال!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق