سياسة

بيل جيتس … أسطورة حقيقية

الفصل الأول من الكتاب (5)

عماد البليك

ثمة إشارتان هنا، تتعلق الأولى بتوضيح أن الحواسيب كعلم كانت مجالا نادرا، لأنها لم تكن متاحة أصلا، وفي الوقت نفسه كان الكثيرون، حتى العلماء، يرون فيها مجالا معقدا غير قابل للتوسع في مدى زمن يسير.

أما الإشارة الثانية فتتعلق بفكرة (التطفل) التي يرفضها جيتس، فهو يريد ما يستند عليه ذاتيا ويطوره بنفسه، لا ما يجده سهلا من الآخرين.

ومن هذا يمكن أن نصل إلى نتيجة مفاداها أن جيتس قَبِل التحدي بأن يدخل ذلك المجال الذي يتسم بالندرة والغموض نوعا ما، وهو كذلك مجال قابل للتوسع إذا ما اشتغل عليه الذهن بشكل مكثف، فإذا كانت مساحات التطفل لن تكون إلى الأبد، فالمعني أن جيتس قرر أنه سوف يقدمه إضافته في هذا المجال، وهو ما حدث فعليا في مستقبله وبشكل أذهل العالم.

ومن خلال مقتضيات الواقع ومن تجربة مدرسة “ليك سايد” فإنه لم يكن ثمة خيار أمام جيتس سوى أن يدخل عالم الحواسيب، يذكر (فيرنون هارينجتون) من تلك المدرسة، في خطاب توصية بعثه إلى جامعة هارفارد بشأن جيتس: ” كان بيل وهو في الصف العاشر مشهورا بأنه معجزة الحاسوب في مدرسة ليك سايد، ذلك الولد العبقري الذي تفوق في الحسابات الرياضية على مدرسيه، والذي تعاقد واثنان مع أصدقائه على تأسيس جدول مرتبات مؤسسة بورتلاند، وقد أتمّا المهمة، وقد دفعت لهما الشركة أجرهما الذي يعادل خمسة آلاف دولار كوقت استخدام حاسوب تابع لها”. وكانت النتيجة الطريفة أنهم استخدموا (الوقت/ الأجر) في حوسبة جداول المدرسة. وصديقاه المقصودان هما: بول ألن و كانت ايفانس.

لكن هذا الاهتمام بالحوسبة، لم يكن هو كل عالم المراهق الشقي، الذي كان حلمه يتحرك، ويقفز بسرعة إلى أن تبلور نهائيا، فخلال سنوات “ليك سايد” ومع الانشغال بالحواسيب والبرمجة كان جيتس يبدي ويضاعف اهتماما بالسياسية أيضا كما أشار هارينجتون في الخطاب السابق، وذكر أيضا “أن جيتس واصل القراءة في كل ما تقع عليه يداه”.

فإلى درجة كبيرة فتحن أمام شخص نهم للمعرفة، يقرأ كل ما يقع أمامه، يحاول معرفة كل شيء. لا يتوقف عن السؤال. إنه ليس مجرد شقاء مراهقة كما وصفناه من قبل، بل شقاء رغبة في إضافة شيء مهم لهذا العالم. أن يقول ذلك الإنسان أنا هنا، هذا هو طريقي المختلف والمتفرد. إنه الإختلاف وحده، حيث لا شيء غيره يجعل الإنسان يشق طريقه الذي لا يُشبه في كوكب الأرض.

وإذا كان جيتس من القائلين: “إذا كنت ذكيا وتعلم كيف تستخدم ذكاءك، بإمكانك أن تحقق المستحيل”، فسوف نفهم أن قدرات الإنسان وحدها لا تكفي لكي يكون ناجحا في الحياة، تلك القدرة الفطرية المختزنة في الذات كما يحاول البعض تفسيرها والتي تولد مع الإنسان، فيما يعارض آخرون هذا الاتجاه في التفكير ويرون أن الإنسان يطور مهاراته، وحتى ذكاؤه مع تقدم علاقته مع الحياة وزيادة خبراته، حيث لا يتعلق الأمر بأية إطار فطري، وفي هذا يتساوى الناس، وتصبح موضوعة “العبقرية” مجرد أسطورة لا قيمة واقعية لها.

ويبدو أن جيتس من التيار الذي يؤمن بأن العبقرية والذكاء كامنان في النفس البشرية، لكن ثمة تفاصيل أخرى في حياته تشيئ إلى العكس تماما، أن الرجل يفكر بناء على فرضية، كل شيء يمكن أن يُنمى ويُطور وأن الإنسان هو الذي يوجد ظروفه وفرصه في الحياة، ولا توجد أية قوة في العالم تقدر على توقيفه إذا ما كان يمتلك الشجاعة الكافية والثقة بالذات التي تجعله يسير دائما إلى الأمام ولا ينظر إلى الوراء.

مثلا في طريقة تفكيره التي تلخص في: “أنك إذا لم تبذل قصار جهدك في العمل فلن تنجح” سوف نستشف نمطا مغايرا لطريقة التفكير الأولى التي تضع النجاح على مجرد وسادة الذكاء، فالمطلوب هنا قصارى الجهد في العمل، أي النزيف المستمر الذي يجعل الإنسان يفهم أن العمل قيمة جوهرية في حياته، وأنه إذا أراد أن يكون متفوقا على الأقل، دعك أن يكون مميزا على شاكلة جيتس، فينبغي عليه أن يعمل ويعمل دون توقف، وفي الوقت نفسه لا يكتفي بمجرد فكرة العمل، بل يطور مهاراته فيه ويعمل على اكتشاف العلاقات الخفية داخل منظومة العمل الذي ينتمي له، وهذا ما نجح فيه جيتس، الذي لم يتوقف عند حد اكتشاف تلك العلاقات في مجال الحواسيب، بل ذهب إلى ابتكار علاقات خفية من نوع جديد تأسيسا على ما هو قائم وبعيدا عن شروطه أيضا.

ولكي نختتم هذا الفصل الذي استعرضنا فيه “سنوات التشكُّل” في حياة جيتس، ينبغي أن نُذكِّر بأن أمبراطور الحواسيب ظلّ دائما يركز في معتقداته الشخصية والتي تتبدى من خلال نظام حياته المنعكس فكرا وتطبيقيا وتفاعلا مع الآخرين، على موضوع العمل. بوجه خاص ومحدد: العمل الشاق، حيث تشير هذه المفردة “شاق” إلى سياق الهدف والنظر إلى البعيد، فالذي يستثني مفردة “شاق” من سؤال الحياة اليومية لن يحقق أي شيء، فليس أمر التميّز بهذه البساطة كما أنه لا يتعقد إلى درجة التخويف. ويربط جيتس “الشاق” مع “قدر المستطاع” بتأكيده على أن العمل الجاد والشاق يجب أن يقوم جنبا إلى جنب مع “محاولة النجاح قدر المستطاع”، أي أبذل ما بوسعك حتى تقترب من هدفك في الحياة، من الحلم الذي ترغب أن يكون في مستقبلك.

أيضا يُركِّز جيتس على مبدأ الروح التنافسية في الوجود، فالكلُّ في سباق دائب ودائم، لا يتوقف.  هذا هو ناموس الكون، والذي يكون البشر جزءا منه، فالبشر الناجحون يستوعبون جيدا أن الذكاء العالي فحسب، لا يكفي، إذ لابد من تلك الروح التنافسية التي تجعل الإنسان يدخل محيطا من الصراع المستمر مع الأفكار وتطبيقاتها وبالتالي مع النتائج التي يمكن أن يصل إليها بناء على تأجج الصراع واحتدامه.

قبل ذلك ثمة قاعدة جوهرية في مبادئ جيتس التي اكتشفها منذ تلك السنوات المبكرة، وهو يشكّل رؤاه تجاه العالم، وهي “المكان المناسب.. الوقت المناسب”، وبشرح مبسط فالمعني أن كثيرا من الناس قد تتوفر لهم الشروط الأولية للنجاح وتتهيأ لهم الفرص التي بتوظيفها يمكن أن يصلوا إلى غاياتهم، إلا أن مشكلهم يقع في إطار معرفة شرطية “المكان.. الوقت.. المناسبين”، فكل أمر لابد أن تتوفر له استعدادات معينة لكي يكتمل ويؤتي ثمرته، غير أن الاستعداد يجب أن يقع في “الزمكان” المناسب لكي يكون التحقق.

أما النقطة الأخيرة والتي هي بمبلغ كبير من الأهمية فتتعلق بمفهوم “الحظ”، فكثير من الناس ينتظرون أن تنفتح كوة في بوابة السماء، لكي يطل السعد وتولد البشارة، وهو أمر لا علمية له ولا يحمل منطق الكون الذي يكافيء الإنسان بقدر ما يسعى ويجتهد.. “وأن سعيه سوف يُرى” – قرآن كريم -..

وفي إطار مفهوم “الحظ” فقد كان جيتس واضحا بإصراره القولي والعملي بأنه “لا يؤمن بالحظ، ولكن يؤمن بالعمل الشاق ورح المنافسة”، المثابرة.

إن أبرز ما تكشف عنه سيرة جيتس أنه نموذج للإنسان العصري الخارج عن سلطة الأمس بكل وضوح، أنه أبرز تجليات الرأسمالية وأبرز تجليات العمل الإنساني الخيري. كل هذه الأمور هي التي صاغت في مجملها كائنا بشريا ما يزال يرفد العالم بإسهامه.

وإذا كانت هذه الشخصية مثيرة للجدل في تجربة حياتها ذات القراءات المتعددة ومثيرة لاستغراب عام، فإن مصدر ذلك هو العجز في مقابل المعرفة، الإرادة والهيمنة.

والمعرفة هنا في إطار هذه السيرة مرتبطة بالعلمية البحتة، تلك القدرة على تحريك العالم وإعادة إنتاجه من خلال المعلومات، التخصصية، ومن خلال إدراك الطبائع السرية للأشياء، حيث أن بُنى العالم تقوم على طبقتين: طبقة خارجية مرئية ملاحظة للجميع، ينظر إليها أغلب الناس على أنها الحقيقة، وطبقة داخلية مركبة ومعقدة وغير ملاحظة بالتالي لأغلب الناس، تلك هي التي يكون للخواص من الناجحين و”العباقرة” طاقة القدرة على رؤيتها، تشريحها واستخلاص الجديد منها، برغبة الإبداع والابتكار، وحتى لا يظل العالم نمطا واحدا لا يتغير. وهذه الطاقة هي التي تدفع الحياة نحو مزيد من الجاذبية وما يشبه الحلم في تشكلاتها اليومية وعبر قرون طويلة.

إن الناجحين يتعلمون من خصومهم أكثر مما يتعلمون من أصدقائهم ومحبيهم، ربما كانت هذه الحكمة هي التي تغذي بيل جيتس وهو يستلهم طاقة تبصر البنى الداخلية لعلاقات الأشياء في العالم، فدائما ما يقول: “زبائنك غير الراضين هم أعظم مصدر لتعلمك”، أي تعلم من الضدي والسلبي والغير مباشر، ولا تتعلم من الإيجابي والموافق لتطلعاتك لأنه لا يقدم لك جديدا، ولا يضعك أمام خيارات صعبة، مستحيلة. فالتحدي الجاد ينرسم من خلال اليقين بأن الخطوة القادمة ستكون أكثر مشقة، أصعب، وعلى المرء أن يبحث عن البدائل والحلول الأكثر بساطة لكي يحل مسائل أكثر تعقيدا، فالكون ينتفح من خلال البساطة التي تواجه التعقيد اليومي لكافة مظاهر وأشكال الوجود، وكأنما علاقة الكائن مع العالم بتبسيطها هي علاقة الألم والمغامرة من خلال البحث عما هو سهل وآني وسريع لفهم الحياة وإدارة الأعمال وتصريف كافة الأمور اليومية.

أما الجانب الثاني من فكرة الاعتماد على العكسي، المضاد، في الفهم والإدراك ومن ثم توسيع دوائر الإدراك، فيقوم على ما يعرف بإحِكام الرؤية، وهي أشبه ببوصلة تُرِي الإنسان الشمال الحقيقي لسير حركة نواظمه الداخلية غير المرئية، فثمة هدف ما في حياة الإنسان حتى لو أنه لم يكن يراه، وهناك من يتعرفون عليه بالطبع فتكون فرص نجاحهم أكبر من أولئك الذين ما زالوا يبحثون عنه، أو أنهم لم يجهدوا أنفسهم أساسا، واعتادوا على دوائر الروتين بدلا من دوائر الإدراك وتنمية الحواس الجديدة، غير الحواس المعتادة والمألوفة، فثمة عدد لا متناهٍ من الحواس علينا أن نكتشفه كل يوم.

لقد مارس جيتس هذا الاكتشاف اليومي، فكان كائنا نادرا فريدا في عصره، واستطاع أن يجعل من الرؤية شعاعا مضيئا لا يتوقف عن السير إلى الأمام، حيث الضوء لا يتوقف، أما كل جسم معتم سيمتص طاقة النور والضياء فيجب أن يتعطل وعلى الإنسان أن يتوقف ليرى ما الذي يحدث بالضبط؟ ولماذا حدث هذا الشيء الآن، في هذه اللحظة بالتحديد؟!.. وهي بالطبع ليست أسئلة سهلة ولا عادية، حتى لأولئك الذين على شاكلة جيتس الذين تعودوا الإجابة على الصعب، لكنهم وبنفيهم للاستجابة للأولى للفشل، يمارسون المحاولات تلو المحاولات حتى يصلوا إلى الحل البسيط والنهائي تقريبا.

إن رؤية مثل: “جهاز حاسوب على كل طاولة في كل منزل”، تلك التي تأسست عليها مايكروسوفت في سنواتها الأولى، ربما أيامها الأولى، كانت ذلك الشعاع الذي لا تمتصه الأجسام المعتمة، وربما بدأت في اللحظات الأولى من بزوغها فكرة “مستحيلة”، لكن النفوس الكبار لا تعرف الاستحالة، لا تتذرع بقاموس يحمل مفردات مثل: “لا”، “أبدا”، “لن يكون هذا”، “إنه لن يحدث”، الخ… هذه المفردات التي تعمل ضد رفد الذات بالتفاؤل ومحبة الكون التي تؤدي دورها كعامل من عوامل تحقق الرؤى في الحياة. ولو سيطرت مثل هذه المفردات لما انبنى شيء في هذا العالم، فكل ما نراه أمامنا من شوارع جميلة، بنايات عالية، سيارات، محلات راقية، وغيرها ما هي إلا صور ذهنية كانت في عقول البشر قبل أن تكون على أرض الواقع، فالعالم هو تصوراتنا نحن.. لكن التصورات إذا لم تتحول إلى رؤى قوية تصل إلى عتبة التحقق، لا قيمة لها، ولن تشكّل أي إضافة لأنها لم تكن أصلا.

وفي الفصل التالي سنرى كيف أن مايكروسوفت كانت مجرد حلم/رؤية، تعزز بالمزيد من الحلم والطموح حتى أصبح واقعا تدركه كل الكرة الأرضية تقريبا، ليصبح ذلك الحاسوب في كل منزل تقريبا. هذه الثنائية الحلم والطموح كانت ضرورة لابد منها، مثلما هي جزء من الجانب الساحر لمعادلة النجاح في العالم، لأي كائن بشري وفي أية مجال نتصوره.

نقول أخيرا: الحياة تمنح الفرص للجميع بدرجة متكافئة، الذكاء يوزع على الجميع في لحظة مولد كل منهم بدرجة متساوية واحدة أيضا.. هناك ثمة من يعملون ويجتهدون ليكونوا قادرين على تجاوز الألم والرهق وعنف الحياة، يكون بإمكانهم الوصول إلى أهدافهم في الحياة، بعد أن يكونوا قد حددوا ماهية هذه الأهداف. وهناك من يتعثرون في أول الطريق، يتوقفون، لأنهم لم يكونوا قادرين على الصمود في رحلة شاقة. فالأساس أنه لا “نجاح حقيقي” يكتب للإنسان ما لم يرهق ذاته، يتعب، كثيرا.. كثيرا جدا، وأن يؤمن بأن النجاح سوف يكون حليفه.. 

وإذا كانت الحروب والمعارك تتطلب الاستعداد ورباطة الجأش، فإن معارك الإنسان في الحياة من أجل تحقق مغامرة النجاح، لا تتأتى إلا عبر استعداد كثيف جدا، ورؤية، وقبل ذلك الإيمان وثقة الإنسان بالله وبنفسه، تلك الثقة العارفة لا المؤسسة على الجهل.

فإذا لم تكن عاملا وبدرجة “شاق” لن تقدر على بلوغ المرام، وكما يقول المتنبي:

وإذا كانت النفوس كبارا – تعبت في مرادها الأجسام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق