ثقافة وفن

كيف أصبحت حياتنا “ردة فعل” تفتقر للمبادرة

ياسمين فلاحي

تعيش اليوم مجتمعاتنا العربية على وقع إكراه شديد الخطورة تتآكل بمعيته كل الأسس المجتمعية التي تشكل الأعمدة لبناء مستقبل زاهر يحمي الحقوق و يلتزم بالواجبات، لا يقف الأمر على المشاكل التي تناور الشعب لتعرقل مسيرته الفردية داخل المؤسسة، إنما الأمر أعمق من ذلك بكثير و اليوم سنواكب هذا الموضوع “لنهمس به الوصل”.

المشكلة هنا تتعلق بما آل إليه حالنا في هذه الآونة و الوضعية التي اتخذناها و ألفنا عليها حتى صار الخروج عن مسارها ضربا من التهور و اختلافا لا سبيل لقبوله، ببساطة غدت حياتنا “ردة فعل” على مستويين مختلفين.

فمن ناحية، كل المعيقات التي تحول دون نجاحنا، كل الأخطاء التي جبلنا على اقترافها، كل المساوئ التي فرض علينا الوقوع تحت إمرتها و كل الإساءات التي أصابتنا من الغير، صرنا ردة فعل لها، لا نستبق الأحداث لنتجنبها و نحفظ بذلك حالتنا النفسية و المادية الملموسة، بل جعلنا الجمود الذي أصابنا ننتظرها بدم بارد حتى تطء بقدمها حياتنا و تعكر صفوها و تودي بنا للهلاك، ثم نفكر في معالجتها و احتوائها و كثير من الندم يطوف في الأنحاء و رغبة بالعودة بالماضي للوراء تنزفنا من كل صوب و حدب، فتضيق الحياة و يختفي الشغف، و تخلق على إثر كل هذا دوامة من التكرار المزري.

و من ناحية أخرى اعتدنا أن نكون “ردة فعل” للمشاعر التي تصلنا ممن حولنا، و تترجم لنا على شكل ابتسامة، حركة، فعل خير، هدية، رسالة، شكر، اعتراف، امتنان، تقرب، جميل، نترقبها من الجميع على أحر من الجمر و نسعى دائما لأن تصلنا أولا لا أن نصنعها بأيدينا.

هالة من التوقف المخيف تتلبسنا دون أن نشعر، و كأننا في قمة جبل عال يحاول الجميع أن يصل إلينا لكننا لا نطوي نصف المسافة بل نتركهم في غياهب آخرها الانسحاب، و الانسحاب وليد اليد التي تمسك و لا يمسك بها.

و لعل هذه الوضعية البائسة نتيجة لعدة أسباب ارتأيت التطرق إليها بناء على رأيي الشخصي و تحليلا لما سبق، و تأتي في مقدمة هذه الأسباب انعدام مفهوم التنازل لدينا، فهذا الأخير مثال حي لصرف النظر عن كل ما قد يعيق الحياة في المستقبل و امتداد لمفهوم ” الفعل” بحد ذاته لا الرد عليه.

كما يشكل هذا الجمود خرقا لمبدأ تقوم عليه علاقاتنا الاجتماعية و تنعدم دونه سبل الحوار و الفائدة المتبادلة و الاستمرارية في سلام، ألا و هو مبدا الأخذ و العطاء، فنحن بتلك الوضعية نأخذ و لا نعطي، نستفيد و لا نفيد، نتزود بما نحتاج لكن لا نمنح ذلك لغيرنا، ننتعش بغبطة في حين أن لا غبطة تتملك الأخر الذي بفطرته يكون انتظارات، يرغب في مقابلات تحفزه على مزيد من العطاء، و يعيش على أمل أن يصادف اهتماما بما يقدمه، نحن بخرقنا لهذا الأساس المتين نخلق سعادتنا على حساب تعاسة غيرنا ما لا يوافق الماهية الاجتماعية.

و لعل ما سبق ذكره يقودنا لصفة أخرى و هي الأنانية التي تختلجنا، فنعيش على أعقاب ما بناه الغير بسعادة و انتشاء دون أدنى رغبة في أن نخلق ذات الأحاسيس لمن كان له يد في الحبور الذي نعيشه، و بجانب الأنانية  يقف “دور الضحية” منتصبا في شخصياتنا فنختلق الأعذار ونعتبر أنفسنا معصومين من الخطأ بل و نبحث بلهفة عن المبررات للعزوف عن أي مبادرة.

نعم…المبادرة إنها الكلمة السحرية التي تقف حاجزا أمام فوبيا “ردة الفعل” تلك، المبادرة اللامشروطة التي ليس هدفها الأساس رد الجميل بل خلق جو من الامتنان و السرور الجماعي الذي به يعم هذا الأخير فرديا، أن نبادر لفعل الخير قبل أن نتلقاه و أن نتقدم خطوة بأن نفرض جوا من الحذر و الوقاية قبل أن تكتسحنا المشاكل و نهلك على مخلفاتها، أن نتخلص من العجز الذي يكبل أيدينا و يمنع عنا التآزر الأخوي، و أخيرا أن تكون يدنا أول من تمسك باليد الأخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق