
في ليل الشجن والشوق
عزيز التوم منصور
سخرَ ذات يومٍ الدكتور المفكِّر منصور خالد قائلاً: الترابي يريد أن يقيم الشريعة في بلادٍ يحفّزُ حفظة القرءان بشربة من البقنيّة يوم الشرافة.. وهو قولٌ فلسفيٌّ عميق يلخِّص الحالة السودانية التي يمتزج فيها العُرفُ بالتديُّن، لأن السماحة هي صاحبة الغلبة في تكوين الشخصية السودانية.. فنحن نصافح الحريم متسامين على الشهوات بطبيعتنا، “ونتونّس” مع بنات العمومة والخؤولة لأنَّ مفهوم (أوتزني الحُرَّة؟) هو الغالب.. قبل الدرء بالنصوص.. وفوق ذلك هي بلادٌ يبني النصارى فيها خلاوى لتحفيظ القرءان!! من سُرَّة بيئة التسامح الديني الاجتماعي.. أم درمان.. نقدِّم اليوم إحدى الفرائد من ديوان الشعر السوداني.. ونقدِّم علماً آثرَ مثقّفة السودان أن يرسموا خارطة مبدعيهم دون أن يوفوه حقَّه الذي يليق بمكانته.. فهو عزيز التوم منصور، أمدرماني الميلاد كالكثير من مبدعي بلادنا ومشكِّلي وجدانها السويّ..
عمل مديراً لمصلحة الثقافة، ومديرا لمكتب وزير الاعلام، وتوفي في أبو ظبي عام 1992م شاعرٌ سودانيٌّ مجيد ومغمور، قبطي نصراني حفظ القرءان الكريم في خلاوى مدينة الأبيض عبقرية بنات طلسم، البلابل، تناولت من كوثر أشعاره: في ليل الشجن والشوق، وقف مودِّعاً البابلية (الخمر) يوم دلقها أمير المؤمنين النميري في مياه النيل، وكتب واحدةً من أروع قصائد الخمريات في العصر الحديث. لا تتوفر هذه القصيدة على صفحات الانترنت كثيراً.. فأردت أن أقف على جميل صورها. والقصيدة أوردها الدكتور الراحل علي أبوسن في كتابه: المجذوب والذكريات. حيث قال مقدّما لها إنّ الشاعر: ” كتبها بعد قرار الرئيس نميري بإعدام الأعناب وسفك دمها فوق موج النيل”، وهي بعنوان عروس النيل.. إيماءً لما كانت تفعله الفراعنة من القرابين:
صفراءُ حيّا الله لمْع حبابِها رقصت نجومُ الليلِ فى أكوابِهــــا
صفراء صافيةٌ يكاد زجاجها من صفوِهِ ينساب بين حبابهـــا
ولدتْ مع الازهار في أكمامها ونمت ونثر الطلِّ في أهدابهــــا
وإذا الصباح الصحو حيا كرمَها خزنت شعاعَ الشمس في أعنابها
وإذا النسيم الرخو داعب غصنها جعلت عبير الزهر من أطيابهــا
حتى إذا ينعَتْ تولَّى أمرَها ذو خبرةٍ يـــجلو فتـــــون شبابـــهــا
ومشت مرنحة الدنان يديرها ساقٍ يدور بها على خُطّابـــــــها
عصرت لليلة متعة مشهودةٍ إنَّ العروس مُنىً بغير ثـــــــيابهــا
تتعدد الاوصاف فى ألوانها كتعدُّد الأسماء في أنســـــــــابهـــا
الراح من أسمائها والليل من ندمــائهـــا والخمر من ألقابهـــا
هاروت دسَّ السحر فى قطراتها وأشاع ألوانا على أترابهــــــا
نار المجوسيين فى أحشائها ولظى المجوسيات في تلهابها
ذابتْ هموم الناس فى رشفاتها وتعبَّد الشعراء في محرابها
صفراء راحلة بكى لفراقها أحبابُها وبكت على أحبابها
البابلية يوم قيل لها ارحلي ذهبت ليالي الانس يوم ذهابها
المحسنون الوصف من شُرَّابها والقارضون الشعر من طلاَّبها
والمازجون خيالهم بخيالها والكأس بين أناملٍ وخضــابها
باتوا وقد رحلت فجاءة (فاعل) ما كان ضمن حسابهم وحسابها
باتوا بيات الظامئين وأصبحوا يسعون خلف شميم مسك ترابها
وقفوا بشطء النيل يوم وداعها فى لوعة لعذابهم وعذابها
سالت وسال النيل وامتزجت به والموج مندفع على اعقابها
عادت لبابل في ثياب مذلّة ما كان أكرمها على أثوابها
ولرب نازحةٍ اضاف لشجوها مر الشكاة الغدر من أصحابها
ان الأُلَى سجد الرجال لبأسهم من بأسها سجدوا لدى أعتابها
تعطيهمُ الا الحقيقة فيهمُ والوهمَ من حلو المنى وكذابها
تمضي القرون وماتزال فتيةً سمراء يجرى الناس خلف سرابها
يهفو اليها القوم الا أنه شتان بين كتابهم وكتابها
البابليَّة طالما سامرتها ونعمت فى ليل الهوى برضابها
طارحتها شوق المحبِّ ووجده وجمعت ما بي في اللهيب وما بها
ان الرئيس أبى على وصالها واقام حُرَّاساً على أبـــــــوابها
وإذا الرئيس أبى أبيت وطاعتي لا ترتقي الشبهات في أسبابها
هذا زعيمي قد رضيتُ بحكمه وشريعة ما كنت من أربابها
إنّ الزعامة في الرجال مهابة والأُسْدُ تملك أمرها في غابها
نبحت كلاب دويلة مأجورة وأنا الذي يكفيك نبح كلابها
تعقيب
للشرح فتون قد يفسد المتون، لذا أدعكم في سكرتكم وسكرتنا هذه حتى أفيق ذات يومٍ لأحلِّلَ بعض ما ورد في هذه القصيدة الكنز.
وقد أودعتها صفحتي هنا على سبيل تيسير المرجعيّة لكي ألتقطها ذات يومٍ مستفيضاً في مكنون القيم التي حوتها وحقّاً كما قيل: الشعر ديوان العرب، فهذه القصيدة بمقام شاهدٍ على عصر التحوُّل من (دعوها فإنّها مأمورة) إلى عصر (قلبا قلبا).