ثقافة وفن

تشريع الاغتصاب!

"المرأة بين قوة المنع المدنية، وقوة التحريم الدينية"

جهان نجيب*

تتمثل وضعية القهر عند المرأة بشكل كبير في جنايات الشرف التي تكشف لنا عن مرض خطير جدا تعاني منه المرأة عموما وهو ازدواجية التصرف، فمن جهة يفسح لها المجال ولو ضيق لحياة جنسية تحت وصاية الأهل والزوج، وقبل ذلك العشيرة، ومن جهة أخرى لا تعطى لها هذه الحرية الضيقة إلا تحت وصاية غيرها، وهذا ما يؤزم الوضع، بل تصبح هذه الحرية ضيقة خانقة أحيانا حينما يتطفل عليها وصاة، لذلك فجناية الشرف هي بكل بساطة فعل لردع المرأة التي حاولت البحث عن ذاتها وإعادتها إلى وضعيتها كأداة تمتلكها العشيرة وتنتقل ملكيتها لقاء مصلحة أو لقاء مقدار من النقود من الأب والأخ…إلى الزوج.

هذا على مستوى الجانب القبلي من المجتمع المتخلف، أما على مستوى الجانب الحضري من نفس هذا المجتمع فيمكن الوقوف مع ثلاث مستويات هي على الشكل التالي:

وضعية المرأة في الطبقة الكادحة، وضعية المرأة في الطبقة المتوسطة والمثقفة ووضعية المرأة في الفئة ذات الامتياز ونلاحظ كل هذه المستويات عموما في الأوساط الحضرية، أما في الأوساط العشائرية المغلقة، فوضع المرأة أكثر إفصاحا وتخلفا في تعبيره عن الواقع الحقيقي، حيث يختصر كيانها كله في جسدها الذي يتم تحويله إلى مجرد أداة للتفريغ وإنجاب الأولاد، وإلى مجرد لحم قيمته في مدى إثارته للرجل السيد، وإلى مجرد رقم قيمته في درجة خصوبته وتحديدا في قدراته على إنجاب الصبيان، إلا أنه عندما يستنزف وتنتهي مدة صلاحيته، تهمل هاته المرأة ويذهب الرجل السيد للبحث عن قاصر مهما كان عمره وشيخوخته، فهو يبقى صاحب سلطة ورجل فحل في نظر العرف وعادات المجتمع.

بالإضافة إلى التضخم المفرط في أدوار الأمومة، تعمل المرأة على تعويض نرجسي من خلال مثلنة جسدها كموضوع جنسي مرغوب فيه، وتتضخم هذه المثلنة خاصة حينما يحرم الرجل جنسيا من خلال ما تحيطه المرأة بجسدها من ممنوعات، وكل ممنوع الرغبة، “الرغبة الجنسية”، يتعرض لتضخم قيمته في اللا واقعيته، وتعتز المرأة بهذا التضخم لقيمة جسدها، وتشعر برضى زائف لذاتها. من خلال اعتقادها أنها تملك شيئا ثمينا، تمنعه من الرجل، كما تملك إمكانية جذبه إليها وربطه بها، من خلال نذرة أمل الذي تبعثه في نفسية الرجل.

فمنذ البداية حرمت المرأة في المجتمع المتخلف، من كل فرص الارتقاء النفسي والذهني وكل فرص التقدم المهني من خلال سجنها في البيت وفرض مهمات الخادم عليها، كنس، مسح…إلخ.  بينما احتفظ الرجل بالأعمال ذات القيمة مترفعا عن أعمال المنزل التي تستنزف كيان المرأة بحجة أنه كاسب القوت ومعيل الأسرة وأن له حق الخدمة على زوجته التي ستجوع وتموت من دونه.

هذا التشريط أدى إلى خمول المرأة وطمس طاقاتها الذهنية وغرس في نفسها دونية ذهنية ومهنية من الصعب علاجها، جعل من الرجل المتسلط يتخذ من هذا التبخيس حجة وسلاحا يحاربها به ويطمس كيانها أكثر فأكثر في التبعية.

لماذا الزواج كحل لمشاكل اجتماعية في مجتمع متخلف محافظ؟

في البداية هناك اختزال للمرأة إلى حدود جسدها، واختزال لهذا الجسد إلى بعده الجنسي: المرأة مجرد جنس أو أداة الجنس ووعاء المتعة، هذا الاختزال يؤدي مباشرة إلى تضخيم البعد الجنسي لجسد المرأة بشكل مفرط، وعلى حساب بقية أبعاد حياتها، إنه يمحور المرأة ويركزها حول المسألة الجنسية، يركز كل قيمتها في هذا البعد من حياتها كما يفجر كل مخاوفها الوجودية حول كارثة ما تعصف بوجودها، فهاجس المرأة قبل الزواج، يتحول إلى قلق حول غشاء البكارة وسلامته، وإلى قلق حول قدرات الجسد على حيازة إعجاب الرجل بضمان الزواج، هذا التركيز يفجر عند المرأة أشد الرغبات وأعظم المخاوف في آن معا، إنها نفس التربية التي تتسرب لعقلية القاصر المعرضة للزواج المبكر قبل سن الرشد القانوني معتبرة ذلك بعض الدواوير القبلية بالمنطق المغربي، )بالبايرة(

تلك هي المعضلة الأولى التي تتعرض لها المرأة في الاستيلاب الجنسي خصوصا أنها تعيش كيانها بشكل مهدد، تتهدد رغباتها الذاتية، وتتهدد رغبات الرجل خارج الزواج وتتهدد الحوادث على اختلافها، ) تشويه الجسم، إصابته بعاهة، فقدان البكارة لسبب ما..إلخ)

يقابل التركيز الجنسي المفرط والاختزال لجسد المرأة قمع له، يبلغ أقصى درجات الشطط والقسوة. فالممنوعات التي تفرض على جسد المرأة، في حركية هذا الجسد وتعبيراته، ورغباته المختزلة إلى بعده الجنسي، هو عورة يجب أن تستر وتصان وتحصن، وهو قبل ذلك ملكية الأسرة ومن ورائها المجتمع. أسرة الأب في البداية ثم أسرة الزوج فيما بعد، ليس للمرأة سلطة على جسدها، ) جنايات الشرف تشهد على ذلك بشكل صارخ وفادح والمرأة أيضا أصبحت تحث قيودها، وليس ذلك بسبب الفروق التشريحية بينها وبين  الرجل ولكن بسبب القهر الاجتماعي الطويل، وخوفها الدفين الآن من أية حركة أو حرية. “حيث يعتبر الجسد التابع للمرأة ما يزال مادة غنية التشريع وتحديد المسموح والممنوع من تحركات الجسم وتعبيراته ومتطلباته تبعا لأنماط مقبولة اجتماعيا أي تبعا لأنماط تخدم مصلحة المتسلط التي يمتلك هذا الجسد”.

هناك قوة المنع المدنية، وقوة التحريم الدينية التي تقتل جسد المرأة بقيود الخطيئة ومشاعر الإثم الحركية الحرة للجسم جنسيا التي هي أساس معنى العيب، وضبطها المقنن أساس معنى الشرف، فالخلاصة، أن جسم المرأة مقيد تاريخيا، إنه جسد مؤسس، بكل قوانين التحريم والمنع التي تهدف لاحتواء هذا الجسد ووضع مفاتيحه في يد الرجل وهذا ما يدفع أغلب الأسر بتزويج الفتيات دون سن الرشد القانوني..

وهكذا يمتلك الرجل جسد المرأة، أي يمتلكها بعد اختزال كيانها ضمن حدود جسمها في أغلب الأحيان، لا من خلال رضى وتوافق متبادلين، بل من خلال قوة القانون، فالعلاقة على هذا الأساس حقوقية قبل أن  تكون عاطفية، ولكن حقوقية العلاقة لا تترك المرأة أي حق تقريبا، بينما تعطي الرجل كل الحق مما يدفع به إلى الأنانية حتى في المتعة، إذ إنه لا يراعي حاجاتها ووثيرة الإثارة والمتعة عندها، بل حتى الجماع يتحول في معظم الأحيان إلى فعل سيادة الرجل على جسد المرأة من خلال إثبات القوة القضيبية في العلاقات الجنسية المتخلفة المتسمة بالقهر، بدل أن يكون وسيلة للمتعة المتبادلة.

وفيما عدا هذه الحالات، فإنه عندما تقمع الحياة الجنسية للمرأة كليا في حالة من التنكر الاجتماعي الصريح لها، تتحول المرأة إلى كائن متزمت، وتتحول الطاقة الجنسية إلى مسارب نزوة العدوان متخذة شكل الحقد، والتزمت، يفتح السبيل أمام التعصب على اختلاف أشكاله، تغرسه المرأة بدورها في أطفالها، حيث تنشأ على يديها نماذج بشرية تحمل بذور الفاشية.

والنتيجة تكون هي مساهمة هذه النماذج في قمع حياتها الجنسية وطاقة الحب لديها.

وهكذا فالمرأة التي قُهرت في جسدها، سوف تساهم دون أن تدري بتنشئة رجال فاقدين للقدرة الجنسية، والقدرة على الحب والمتعة، حيث كلما كانت المكانة الاجتماعية العاطفية للمرأة ضمن ثقافة ما، هي مكانة خصاء، كلما زاد ميلها اللاواعي إل خصاء طفلها الذكر أي القضاء على رجولته الجنسية وقدرته عل المتعة، تلك هي كارثة الاستيلاب الجنسي، بمعنى أن الثقافة الذكورية تعطي للمرأة فرصة في المساهمة في إنتاج نفس البضاعة الذكورية الذي أخذتها من الزوج ومن أبيها قبله. هناك عامل آخر مهدد لكيان المرأة هو الاستيلاب العقائدي وهو أخطر الاستيلابات، حيث تتبنى المرأة كل الأساطير والاختزالات التي يحيطها بها الرجل، كما أنها تجتاف أحكامه الجائرة بصددها فتتقبل مكانتها، ووضعية القهر التي تعاني منها كجزء من طبيعتها عليها أن ترضى بها وتكيف وجودها بحسبها، ولاشك أن خطورة الاستيلاب العقائدي يكمن في كونه ضد كل تغيير، فهي لا تتصور لنفسها وضعا مغاير عن وضعها الذي تجد نفسها فيه.

الاستيلاب العقائدي هو أن تقتنع المرأة بدونيتها تجاه الرجل، وتعتقد جازمة بتفوقه وبالتالي يسيطر عليها، وتبعيتها له، حيث لا يسمح المجتمع للمرأة بالعمل إلا بشرط ألا يتعارض عملها مع واجبها الأول في الحياة، زوجة-أم، وإذا تعارض فلا بد لها أن تعود فورا إلى البيت ودورها الأول، بل إن خروج المرأة للعمل ليس، في منطق المجتمع، من أجل أن تنمي قدرتها الفكرية وترضى طموحها الإنساني والفكري وإنما من أجل أن ترفع المستوى الاقتصادي للأسرة الأبوية.

الاستيلاب العقائدي هو في النهاية أن تقتنع المرأة في أعماقها أن من واجبها الطاعة للزوج وللأب قبله، وأن لها عليهما حق الستر والحماية والإعالة وأن طبيعتها تتلخص في جسد يلبس، وقوام يجذب ورحم ينجب، ولسان يشكو ويتطلب ويكذب، وأيد تطهو وتغسل وتمسح.

من خلال هذا الاستيلاب يصل القهر أقصاه، لأن المرأة تعتز عندها بمظاهر قهرها، وتعرف نفسها من خلال استيلابها، وبالتالي فإن هذا الاستيلاب يطمس إمكانات الوعي بوضعها ويطمس الرغبة في التغيير، كما يطمس القدرة على التحرير، وهكذا تفتح أبواب استغلال المرأة على مصراعيها، وتكون هي المتواطئة الأولى على مصالحها الحقيقية.

المهم أن الاستيلاب العقائدي للمرأة، وما تتلقاه من تعزيز دائم من الخارج ومن الذات في آن معا، يحكم عليها بالبقاء رهينة وضعية القهر، لا هي تعيها ولا هي تقبل أن تغيرها، إنها تتمسك بها باعتبارها طبيعة الأنثى وقدرها، وينعكس ذلك لا محالة على التغيير الاجتماعي بأكمله فيكبحه لا محالة. لا تطوير دون تغيير وضعية المرأة، ولا تغيير لوضعيتها دون تمزيق حجب الاستيلاب العقائدي التي تمنع عنها رؤية ذاتها، ورؤية العالم على حقيقته.

ما يمكن قوله حسب آراء مناضلات المجتمع المدني أنه على العقلية المغربية بشكل خاص والعربية الشرقية عموما أن تتغير إلى الانفتاح الفكري أكثر وبدل التفكير في الزواج كوضعية اجتماعية في واقع صعب ومحيط هش تعاني منه الفتاة، يجب في مقابل ذلك الدعوة إلى خلق فرص الشغل ومساعدة الفئة القاصرة على إتمام دراستها في حالة انقطاع أو التكوين المهني، أو توفير مؤسسات الرعاية، والطرق بالمناطق المنعزلة، مع ضرورة تحديد النسل لتجاوز فكرة اختصار العلاقة الزوجية فقط في الإنجاب الذي تكلف به القاصر وتطلق أحيانا به دون دعم مادي ومعنوي مساعد، فعامل تحمل المسؤولية هو جد مهم من طرف الدولة والمجتمع المدني في خلق فرص التشغيل، بمعنى شغل نفسها وإعطاء أهمية لذاتها كذات، مع اعتبار الزواج مسألة اختيارية وليس مستقبل منشود، لذلك على الدولة تحمل مسؤوليتها في توفير شروط التمدرس في المناطق النائية التي يكثر فيها زواج القاصر، فالزواج بالنسبة لفتاة قاصر هو اغتصاب الطفولة حيث يصعب أن تكون منبع حنان واهتمام لأبنائها في حين ينعدم لها، فحل الزواج بالتالي يكون بمثابة إعادة تكريس جيل مغتصب وغير واعي ومكرس لثقافة الزواج القاصر في أبعاده المجحفة.

* (أستاذة باحثة – المغرب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق