ثقافة وفن

التواصل الفني بين المضمون والخامة

نماذج من التجريب التشكيلي العربي المعاصر

بشرى بن فاطمة

تشكل الخامة التي تجتمع في العناصر المادية للعمل التشكيلي جزئية مهمة من سيرورة العمل وتطويعه نحو الفكرة والمحتوى وعناصر المضمون تعبيريا من حيث التفعيل والتوافق والتضاد اللامعقول أحيانا. لذلك كانت العلاقة بين المضمون والخامة علاقة تواصل واتصال وتحامل وتصعيد وابتكار وتجريب، استطاعت أن تبلغ مدى الحرفية والاحتراف لدى الفنان وتخلق بدورها التفرّد في كل تجربة وبين كل عمل.
ولعل المسألة التي تُبنى عليها الأعمال الفنية تطرح تساؤلات كبرى من حيث التركيب والتفكيك والبناء والهدم والتخريب والتكامل والتماسك وهو بدوره ما يجعل المضمون عنصر الانطلاق في اختيار التكوين للحفاظ على المقومات الجمالية وعلى المتانة التشكيلية والثبات على التقنية.
فبين التجانس والاختلاط كانت العناصر المادية محور التكامل التجريبي بين كل العناصر التفاعلية الكبرى في خلق فكرة العمل منذ المرحلة الجديدة المبنية على الحداثة في التشكيل، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية التي أسّست منعرجا فنيا وبصريا وجماليا انطلق منذ تجريب مارسيل دي شامب وصدمة منجزه وخاماته الطيّعة التي استمرّت أبعد في التعبير الكاسر لحدود المعقول، وكذلك المسار التجريبي لفكرة المادة التي بنيت عليها التجربة الامريكية سواء مع جاكسون بولوك أوالألمانية التي أسّست لمدرسة لبيزيغ التي طوّرت مفاهيم الخامة وعالجت معها المحتوى الضمني داخل العمل لتصبح معبرا نحو الفكرة والموضوع .
ولعل مسألة العناصر المادية للعمل الفني يطرح السؤال الشامل عن ماهية هذه العناصر الفنية خاصة في المرحلة المعاصرة وبالخصوص التجربة العربية منها وتطورها نحو منعرج مرحلة ما بعد الحداثة في الفن والتطوّر السريع لفكرة المادي الحامل للمضمون والمحتوى أو الرسالة المقصودة سواء ذات التوجيه الفردي أو الجماعي.
تبنى العناصر المادية على المحمل القماش كونفاس في اللوحات أو الخامة النحتية في فنون النحت وهنا يكون التطويع المصاحب مبنيا على التخطيط سواء بالفحم أو الرصاص أو الألوان بين ألوان مائية زيتية أو اكريليك إضافة إلى الضوء وتفاعلاته معها وبالتالي يتكامل التطويع مع العناصر الأخرى الدخيلة التي تشمل الورق والخيوط والمواد الحديدية والبلاستيك وغيرها حسب المادة والتقنية وكذلك حسب التوجه المذهبي في الفن فأحيانا تكون المادة قابلة للتفاعل والتكوّن والتشكّل والتحوّل من دورها العام إلى دورها الفني والجمالي والاندماج مع المضمون الفني وهذا بالخصوص في الفنون المفاهيمية وفنون التدوير والكولاج وفنون الأداء وهنا نشير إلى أن التجربة العربية المعاصرة انخرطت بدورها في فكرة تطويع المادة لتشكيل المفهوم وتحديد الفكرة الموقف أو القضية الإنسانية ذات الاندماج الفكري الفردي أو الجماعي مثل التجربة التشكيلية الفلسطينية بثينة ملحم التي صاغت القماش والخيوط والصوف والدبابيس على محمل الثوب الفلسطيني وشكّلت الألوان من المطبخ من التوابل والقهوة والشاي والزعتر وغيرها لتعتمد فيها على خامة جديدة تفرّدت بها طوّعت عليها أفكارها وتواصلت بها مع فكرة الوطن.
أو تجربة اللبناني أيمن بعلبكي الذي طوّع السيارات القديمة والاطر المختلفة في تكامل كدّسها وكوّمها ليعيد للأذهان فكرة التشريد والبحث عن السلام ضمن توليفات مفاهيمية تبدأ من الذات الإنسانية وتنتهي عند الأمكنة والبحث الدائم عن الاستقرار وتحوّل الوطن إلى مجموعة من الاكداس القابلة للبعثرة والهدم.
وكذلك في تجربة الفلسطيني أشرف فواخري وتطويع فكرة الحمار في مجموعة من الأطر المصوّرة التي تكثّف الحالة وتدعم الخامة على الصورة “الورق” في مجموعة مؤطّرة عالقة في فضائها مستمرة في مقاومتها، هذا بخصوص تجارب المفاهيمية أما في التجريب التشكيلي للوحة فنذكر تجربة الحروفيين ومداها التعبيري قياسا على صياغة أسلوب الكولاج والدمج والوسائط المتعدّدة كما في تجربة خالد أبو الهول والبوب آرت كما في تجربة علي حسون خاصة وأن النضج العام بالخامة يتكامل مع التراكيب الخاصة لها في صياغة محتوى المنجز وهنا يكمن التفرّد وكذلك في تجربة سمر غطاس ورولا حلواني باعتماد الصورة الفتوغرافية وتواتراتها بين التعبير بالصورة ونيجاتيف الصورة بين الواقعية المفرطة والسريالية.
إن التكامل بين العنصر المادي الخامة والمضمون المفهوم أو المحتوى يستمر أبعد بالعمل الفني خاصة إذا ما كانت مواكبته للأحداث تعايش العصر وتتفق مع المعنى الجمالي والفني وتقدّم الرؤية البصرية بكثير من التعمّق الواعي والذوق المستشرف للابداع حتى لا يفقد الفن معناه الإنساني وحتى يكون هدفه الأول هو الانتصار للإنسانية.

*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من اجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
بثينة ملحم- أشرف فواخري- أيمن بعلبكي-أحمد الخطيب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق