ثقافة وفن

سحب مسافرة

شهادة الفيزياء

تماضر كريم

كلّ صباح أراها تزداد إشراقا أكثر، كانت في أول العمر، خفيفة الحركة مثل فراشة، ملامحها هادئة وبشرتها لامعة، في صوتها شجنٌ غريب، بدا لي انها تعاني من شيء ما في الحبال الصوتية، لكنها كانت هكذا بكل بساطة.

عندما تصل للمدرسة، تدخل الى الحمام، تخلع ملابسها الأنيقة البسيطة وحذاءها ذا الكعب المتوسط و تعلق حقيبتها الحمراء التي لم تحمل يوما غيرها، ثم تخرج مرتدية ملابس داكنة فضفاضة خاصة بالعمل، بيدها المكنسة و سطل غسيل و بعض المساحيق..

كان شيئا غير ما اعتدنا عليه، كل العاملات في المدارس كُن على طراز واحد من العمر و الكسل و اللامبالاة، كيف لعاملةٍ بهذا العمر أن تسير بكلّ هذا الكبرياء، و تلك الثقة التي تتجلى في طريقتها بمسك أدوات التنظيف، و العمل و الحركة،

وفي صمتها وابتعادها عن غرف الأساتذة، كأنها غير عابئة بمن حولها.

في الصباح كنت احضر في وقت مبكر، أجدها قبلي تتحرّك مثل نحلة.. ترفع الستائر، تحرّك المقاعد لإزالة الغبار من تحتها، تنفض الشراشف، تفتح الشبابيك، وجهها كأنه يغازل الشمس، و يغمز للنسيم، بعد أن تكمل تنظيف الغرفة، تأتي بالمعطر الذي أظن أنها تشتريه من حسابها الخاص و ترش منه بضعة رشات في فضاء الغرفة، ثم تجمع أغراضها، و تحلّ قطعة القماش التي ربطت رأسها بها، و تمضي بعيدا، تجلس في مكان قصيّ، يبدو انها تفكر أو تحلم..

رغبتُ كثيرا في الاقتراب منها، ربما رغبت ايضا في التعرف إليها، لكن يا للهول! انا أستاذ أحمل شهادة الماجستير في الفيزياء ! هذا عنوان كبير، أما هي فبلا عنوان.. محض منظفة في ثانويتنا القصيّة، لكن ربما معرفة بعض التفاصيل ترضي فضولي، في النهاية لا معنى لهذا العالم من دون فضولنا نحو الآخر (لماذا انت هنا)؟ صمتت قليلا، لم يبد عليها الارتباك، لكن بدا انها تفكر من أين تبدأ، خرج صوتها هادئا منخفضا (إنهم ينادونني أستاذ.. عن إذنك). كان ذلك الغموض كفيلا بجعلي أرغب في معرفتها أكثر، لكن ليس بوسعي المحاولة، فأنا أحمل شهادة عليا!

الصباحات تتوالى، وهي تواصل ذلك الجري المحموم مع البلاط، والشبابيك، تلاحق ذرات الغبار وتطارد النفايات، لكن وجهها يزداد بهاءً، وروحها تزداد بعدا و انغلاقا. انها ليست فتاة عادية، هل تعرف هذا عن نفسها، لزاما أن تعرف أنها قديسة،

عندما جئت لأخبرها كانت قد غادرت بكلّ بساطة وبهدوء، في المدرسة تركت فراغا هائلا، وفي القلب غصة، ليتني فقط اخبرتها،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق