ثقافة وفن

قراءة في رواية … أسنان الرجل الميت للكاتب فؤاد يازجي

أحمد الونزاني

في هذه الرواية الشيقة يحاول الكاتب معالجة ظاهرة الهجرة بطريقة واقعية بحيث يضعنا أمام مرآة تعكس حقيقة هذه الظاهرة الإنسانية، والتي تحولت إلى قدر بالنسبة لكثير من أبناء العالم الثالث والعالم العربي. وهو يحاول معالجتها من حيث الدوافع لها ومآلاتها المأساوية في كثير من الأحيان.

تعددت الأسباب والموت واحد. بعد الحرب العالمية الثانية التي دمرت أوروبا، وبتبني خطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا وتأهيلها، كان من اللازم استقدام العمالة من المستعمرات لإعادة بناء وإنشاء البنية التحتية لتأهيل أوروبا اقتصاديا واجتماعيا  ووضعها على سكة قطار التنمية المستدامة الحقيقية. وبالتالي كان تدفق العمالة الأجنبية شيئا ضروريا ومقبولا للحاجة الماسة إليه حينها. وكانت أحلام هؤلاء المهاجرين الأوائل صغيرة ولا تتعدى رحلة الصيف والشتاء، التي تنتهي بالعودة إلى أرض الوطن مع الرضى بقليل من المال ومن ثم بداية حياة جديدة بين الاهل والاحباب، أو التفكير في الزواج وإقامة مشروع صغير يقي من  ظروف الحياة القاسية.

إلا أن هذه الهجرة ستصبح قدر كثير من أبناء المستعمرات في العالم العربي والإسلامي بعد ما حازت هذه البلدان على استقلالها الوطني وبدأت في تأسيس وبناء اللبنات الأولى لأوطانها.

وانطلقت بذلك هجرة منظمة بحسب احتياجات الدول الأوروبية. هجرة بعقود محددة، لكن الحاجة الماسة لليد العاملة حولت هذه العقود إلى عقود دائمة، وبدأت تنشأ أحياء على الهوامش للطبقة العاملة من المهاجرين الجدد. أحياء عشوائية تفتقر إلى أساسيات الحياة الضرورية كالماء والكهرباء وظروف العيش الكريم.

ويضعنا الكاتب أمام صورة تراجيدية للهجرة بحيث يمثلها في صورة ذلك الرجل الذي خرج من بيته ليشتري بعضا من الدجاج  وفي الطريق يجد جماعة من الشبان ينوون السفر والهجرة إلى البرازيل فيذهب معهم متحمسا إلى هدفهم ثم يعود بعد أربعين سنة إلى الديار خاوي الوفاض ، حاملا معه بعضا من الدجاج .

وهذا أدق تعبير عن معنى الهجرة، فمن لم يستطع تحقيق ذاته في وطنه، يصعب عليه ذلك في بلاد الغربة. لأن الغربة تقتل الأحلام وتقتل الإنسان.

يرسم لنا الكاتب صورة تعلن بصراحة عن برودة العلاقات الإنسانية في الغربة عامة. ك  برودة الطقس القاسي بالرغم من جمالية المكان وروعته والخضرة المنتشرة في كل مكان. وتدفق المياه في أركان المكان عبر الجداول النهرية التي تقسم المدينة ك  لوحة تشكيلية محكمة تتوزعها الألوان وجريان الماء عبر نهرها الكبير. كأن المدينة واحة أو جزيرة تحيط بها المياه وتقطعها بشكل بديع يسحر الزوار.

كان وصول البطل في فصل الصيف، لكن الطقس الممطر أسرع به إلى النزل في إحدى القرى المجاورة للمدينة، كانت برودة الطقس تشبه برودة الإنسان، بالرغم من ذلك الجمال الأخاذ للمكان بخضرته الداكنة وبجمال بيوتاته بسقوفها القرمدية. دخل البطل إلى غرفته وانزوى بنفسه قبل أن يفتح نوافذ غرفته لينبهر بجمال تلك التلال والمروج وأسقف البيوت وبرودة الطقس، والصمت المريب الذي يعم المكان. كانت لحظات تذكر فيها الوطن وجمال الوطن ودفىء الوطن في مثل هذه الأيام الربيعية. وتذكر كيف تذيب الشمس ما تبقى من الثلوج من على رؤوس الجبال والشجر. كانت مغامرة البحث عن عمل، صادمة ومخيبة للآمال، فكل هذا الشباب العربي المثقف، والذين منهم الطبيب والمهندس والأستاذ، والمتعلمين عموما وغالبيتهم يتكلمون أكثر من لغة، كل هؤلاء لا يعملون إلا في أعمال لا تليق بمستواهم التعليمي. فهم يعملون في المطاعم والحانات والمقاهي وفي المزارع وفي أعمال لا يقبل عليها الآخر، ومنهم من يمتهن السرقة كوسيلة للتنفيس عن عقده النفسية والاجتماعية وكرد فعل على هذه المجتمعات التي تتعامل مع المهاجرين بشيء من عنصرية وإقصاء من الحياة.  كل الشخوص عربية فمنهم السوري والمصري والجزائري والمغربي والسوداني والإفريقي وغيرهم من قارات أخرى. كان البؤس هو المشترك بين كل هؤلاء. بؤس اجتماعي وفقر يؤدي في بعض الأحيان إلى الباب المسدود.

خبز وملح وحيث تكون المحبة، خير من ثور معلوف مع الخصام.

فهنا يتحول الشر إلى خير هناك في الوطن.

لقد استطاع الكاتب أن يلامس عمق المأساة لشخصيات الرواية.

المهاجر الذي يعاني من الضياع الكلي. والذي فقد كل لذة للحياة، فهو لم يعد يفكر أو يحلم أو يحب حتى. مهاجر بلا روح، حزينا ومتبلدا ومنعدم الإحساس والشعور. المهاجر المعذب المحاصر والمطارد والمضطهد بسبب كل أشكال التمييز العنصري والاجتماعي. المهاجر الساقط في متاهات الزمان والمكان. المهاجر الذي تحول إلى مجرد زاحفة لسقوطه بين مخالب العصابات التي تتاجر في المخدرات والممنوعات والذي تحول إلى سارق محترف مطارد من الشرطة والإنسان.

إنها تراجيدية عندما تجد نفسك بعد أعوام، تعيش من غير هدف وتنسى نفسك، تنسى أنك مجرد إنسان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق