سلايدرسياسة

تحديات ما بعد الجائحة

العقل والتقنية محددان أساسيات لعالم ما بعد كورونا

عماد البليك (كاتب وروائي سوداني)

على مدار التاريخ البشري، فقد كان العقل هو المحرك الأساسي المركزي والمحفز لحراك الحضارة والحداثة، وكانت التقانة أو التكنولوجيا من جهة أخرى وهي تجليات ذلك العقل، بغض النظر عن درجة تطورها من اكتشاف الآلة البسيطة إلى التقنيات المعقدة اليوم، هي التي تقود مع إعمال العقل – ذاته – حركة التحولات والتغيير في العالم، لينتقل الإنسان تدريجيا عبر العقود من عصور الاكتشافات الصغيرة كالنار، إذا ما نظرنا إلى فرك عودين لإشعال اللهب بوصفها عملية تقنية مبسطة أو بداية أشكال التكنولوجيا البدائية، إلا أنها تمثل نقلة كبيرة معروفة في التاريخ إذا ما جردّنا حجم هذا التحول الذي لا يقل عن اختراع الكتابة أو المطبعة أو الروبوت والحاسوب في العالم المعاصر. إلى أن وصلنا اختراعات عصر الزراعة فالصناعة، إلى العالم المعرفي الحاضر القائم على ما يعرف بالذكاء الاصطناعي والبيانات أو “الداتا”. وقد كان التطور الأخير في مجمله مرتبطا بشكل جلي في القرون الأخيرة بتبعات ما بعد الثورة الصناعية في أوروبا وما سبقها من عصر التنوير والانفتاح المعرفي الكبير في الغرب.

لهذا فالواضح أن العالم الحديث يراهن على التكنولوجيا “التقنية” من جهة والعقل من جهة ثانية على إحداث التغيير في كافة مجالات الحياة الإنسانية، وقد تعزز هذا الاتجاه فعليا مع الظروف التي يعيشها العالم اليوم مع جائحة كورونا المستجد “كوفيد 19” التي بدأت تعيد لفت الانتباه إلى بعض من مكامن القوى المهملة في الفكر الإنساني، جاء هذا جراء الضغوط الراهنة التي تحاصر على كل العالم تقريبا، من أجل البحث عن الحلول غير التقليدية لمواجهة المشاكل والتحديات الماثلة، بعد أن وجدت البشرية أنها أمام تحديات جديدة تتطلب تحريك الدماغ وملكاته بشكل غير ما هو مألوف. وهذه واحدة من طبائع العقل البشري أنه يعمل تحت الضغط والجوائح ليكون له توليد أفكار غير مسبوقة، بحيث أن هذه المعاناة هي التي تحرك الإبداعية والفكر الجديد، لهذا فسوف نرى فيما بعد كيف سوف يتغير جملة علم الطب والعلوم الإنسانية وحتى الأدب والفنون، بما في ذلك الإطار الأوسع لمفهوم الخيال بحد ذاته الذي لن يكون كسابق عهده.

لقد وجدت الدول والمجتمعات نفسها فجأة أمام العديد من الإشكاليات والمساءلات التي ربما لم يكن ليفكر فيها، لو لم يحدث ما يجري في العالم اليوم من استشراء هذا الوباء الذي أرعب الناس وغيّر نواميس الحياة المعتادة للبشر، حيث فرض على البشرية حصارا سريعا وعزلة قهرية، بدرجة واضحة كان قد جعل التقاليد والثقافات تخضع لاختبار وتحديات بما في ذلك نواميس العبادة وطقوسها الجماعية الخ.. كل ذلك يشير بجلاء إلى أننا أمام ضغط هائل على أدوات الفكر وأنظمته وتقنيات أداء الروح كذلك، في علاقتها مع مطلق الوجود والله وانعكاسات ذلك على مفاهيم العمل والإنتاج والإبداع.

في مقابل ذلك كان لابد من الاشتغال على التفكير البشري بأشكال غير تقليدية وطرق وأنماط معرفية جديدة لأجل طوي الزمن والمسافات وكسر التحدي، بهدف الوصول إلى أفضل الحلول الممكنة للتحديات والمعوقات التي تعترض المسار الإنساني في الراهن، غير أن ذلك لن يقف مع مجرد اللحظة بل سيكون له أثره الفاعل والفاصل على المدى الأبعد، وهذه سمة تاريخية، أن هذه النقاط الانقلابية تعمل بشكل مباشر على توليد بدايات المسارات المبتكرة لعالم مختلف في المستقبل.

عمليا فإن التحدي لا يقف مجردا أو وحده عند مجرد معالجة ما يتعلق بهذا الداء من حيث توفير لقاح له أو الاحتواء اللحظي وكبح الانتشار من هذه المسائل، إنما يتعدى ذلك إلى مجابهة تحديات الانعكاس الكبير الواقع على مجمل الأبعاد في العالم، الواضحة في توقف القطاعات الإنتاجية عموما، بحيث تضرر الاقتصاد العالمي والاقتصاديات المحلية ضررا غير مسبوق منذ عقود طويلة، ولا يمكن ان نشبه هذه الأزمة الراهنة بالأزمات الاقتصادية العالمية السابقة، فهي ذات أثر أبعد ومجال أوسع وهي عالمية بكل المقاييس، كما أنها أيضا ليست ذات بعد في المجال المالي أو الاقتصادي فقط، بل هي منعكسة على القطاعات ومناحي الحياة عامة من سياسة لفنون وثقافة ومعارف متعددة، ما يشير إلى أن مفهوم المعالجات يجب؛ وهو ما سيكون فعليا على أرض الواقع؛ مرتبطا بإيجاد كيمياء كلية وشاملة تعزز مراجعة أنماط التفكير في رسم المعرفة الإنسانية وفق مفهوم أشمل في الرؤية وتعريف التحدي بذاته، الذي سوف يستبعد التجزئة بين الحقول، وهي نظرة ما بعد حداثية بدأت فعليا في بعض الأفكار الفلسفية لفكر ما بعد الحداثة قبل الأزمة الحالية، في حين جاءت كورونا لتعجل بها إلى التطبيق العملي على ما يبدو.

من هنا فثمة همس وأصوات معلنة من قبل المفكرين وفلاسفة العالم الذين باتوا يتحدثون عن فكر إنساني جديد وفلسفة جديدة للعلوم والمعرفة عموما لمرحلة ما بعد كورونا، غير أن الرهان الأساسي في مجمل هذه الصورة يظل أو يقف عند البعدين اللذين تمت الإشارة إليهما من التقنية والعقل، اللذان هما محفزا المرحلة المقبلة في كيفية التحرك لما هو أكثر قدرة على احتواء مجمل التجربة الإنسانية عبر تاريخ متراكم وملئ بالفرص كما المعوقات، كما الاختبارات الملهمة.

اليوم يعيش العالم عولمة واتجاه لثقافة كونية واحدة تجعل القيم الاقتصادية بشكل خاص شبه موحدة، من حيث مفاهيم رأس المال ومحددات سوق العمل والإنتاج وغير ذلك، وهذا طبيعي في جراء توحيد مفهوم الرؤية للعالم والذات الإنسانية، أيضا مفهوم الطريق نفسه ما الذي تريد البشرية أن تنجزه في راهنها ومستقبلها، وهي القضايا التي طالما اشتغل عليها الفكر الإنساني على مدار العصور المتعاقبة، وكان يحركها بوجهات متعددة من لزمن لآخر بناء على المستجد في الفلسفة والفكر والعلم. كل ذلك يعني أن مواكبة ما يجري في العالم ليس ضرورة فحسب، بل هو أمر أساسي لكل الأمم والشعوب في هذا الكوكب من أجل إحراز التقدم والسير في الطريق إلى المستقبل الأفضل، فالدول التي تتأخر لن تجد لها مكانة في الغد القريب، بل سوف تنفى تقريبا حيث سوف تنشغل بالصراعات الداخلية المهينة والأمراض والأوبئة المحلية وغيرها من أسباب الفناء وسط همجية غياب القوانين والتخلف والجهل. ولن تعمل العولمة الحاصلة على إنقاذها في ظل سيادة قانون الرأسمال والعطش البشري للثراء وتراكم الثروات.

في الخلاصة فإن الإنسانية أمام طريق إلى المستقبل يقوم على إبداع النماء المستدام بالرهان على ثنائية العقل والتكنولوجيا، وأن الرهان على العقل البشري وقدراته يظل هو الحل الوحيد لأي من يرغب في سيادة واستعمار الغد، ومن الأبجديات هنا أن يتم الجمع بين التقنية والعقل ليكون الذكاء مضاعفا والأداء أفضل، ما يمكن قطعا من العمل على بناء الفرض الأكثر حيوية وديمومة في مواجهة مختلف التحديات المتوقعة وغيرها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق