سياسة

رحيل الطيب مصطفي وقضايا الهوية في السودان … لماذا جعلوه حمال وجه القَبـَاحة؟

أتيم قرنق

رحل الطيب مصطفي و ترك قضايا معقدة و عويصة لم تحل بعد في السودان و قد قال وجهة نظره عن تلك القضايا و دون رأيه في تصنيف هوية أهل السودان و جنوب السودان. رحل الطيب مصطفي و هو احد الشخصيات السودانية الذي يعتقد الكثيرون من المثقفين السودانيين بانه اتي بنافل القول لا يقبله اَي شخص و حتي الشيطان الرجيم. صحيحاً، كان الطيب مصطفي يمتلك كمّاً هائلاً من اللغة المنحطة و البذيئة ترتقي لدرجة الفحشاء لان آراءه و لغته و كتاباته تمتلئ بما هو ذميم و قبيح و يكتب ما يرتقي للدرجة الدعوة لإحياء و (بعث) من الجديد ثقافة الرق و العبودية التي كانت سائدة في سودان القرن التاسع عشر و النصف الاول من القرن العشرين؛ في حين يعتقد الكثيرون من مثقفي دولة جنوب السودان بان الطيب مصطفي شخص منبوذ و مروج للعنصرية و يصنف المجتمعات السودانية الي سادة و توابع وينظر الي سكان جنوب السودان من منظور عنصري اعتماداً علي جنوب القرن التاسع عشر الذي كان المصدر الاساسي للرقيق و الجواري و كان الاقتصاد السوداني يعتمد عليه و ترسخ في مخيلة الأجيال القديمة و صار قصصاً تروي للأجيال السودانية الحديثة و منها جيل الطيب مصطفي. إن منتقدي الطيب مصطفي لم يشخصوا تشخيصاً دقيقاً الداء الذي اصابه و أتراب جيله و الجيل الذي من قبلهم. كما ان بعض السودانيين يحملونه وزر جريرة لم يرتكبها الطيب مصطفى؛ (انفصال الجنوب)

لكن بنسبة لي شخصياً، فان المشكلة ليست الطيب مصطفي. إنما الطيب كان مجرد بوق مشحون بالإقدام و الشجاعة يقول ما تربي عليه و ما تتداول في الأمسيات داخل البيوت السودانية و لكن مسكوت عنها! فمن أية مدرسة في السودان تعلم فيها الطيب كل هذه الكّم الهائلة من مفردات الاذلال و تبخيس الآخرين؟ الطيب مصطفي كان سودانياً مقدام قال المستور و المكتوم المباح في المجتمع السوداني. الطيب مصطفي كان صريحاً و قال بوضوحٍ ما تشبعت به روحه و عقله الناقد منذ طفولته.

ان الحروبات التي دارت في جنوب السودان ١٩٥٥-١٩٧٢ و ١٩٨٣-٢٠٠٥ قد عكست عملياً الشخصية السودانية الحقيقية و المسكوت عنها و هي تلك الشخصية التي كان يعبر عنها الراحل الطيب مصطفي و قبله عبر عنها شعراً الدكتور عبدالله الطيب في ديوانه (أصداء النيل) و طبقه ادارياً علي بلدو، و عبر عنه سياسياً الازهري و المحجوب و الصادق و تطبيقياً و عملياً من خلال الحرب و الدمار و الموت عبر عنها الجيش السوداني (ابراهيم عبود، جعفر نميري و عمر البشير). و الحروبات هذه اتسمت بعنف و قسوة و لا إنسانية لا مثيل لها إلا حملات و غزوات القرن التاسع عشرة التي كانت ترسل لاستصياد العبيد والرقيق. الطيب مصطفي لم يقتل أسيراً جريحاً و لم يحرق قرية و لم يقصف المدن بالطائرات و لم يغتصب جنوبية سودانية قط؛ كم من مواطني جنوب السودان كانوا يقرأون له و تأثروا بحقده و كراهيته؟ و يا ترى كم من مواطني جنوب السودان الذين لا يعرفون و لم يكتووا بقسوة و حقد و كراهية الجيش السوداني؟ و اليوم يجعل بعض الناس الطيب مصطفى حمال وجه القَبـَاحة. الطيب مصطفي لم يكن شريراً و لا أظن انه سيذهب الي الجهيم، لأنه كان يعبر عما في نفوس أفراد الجيش السوداني؛ كان يعبر و يكتب نيابة عن ابراهيم عبود و عن الجنجويد و عن الدفاع الشعبي. كان يكتب عما كان و مازال يعشش في عقول كل من شارك في حكم السودان منذ ١٩٥٦ حتي يومنا هذا. و الحديث عن دوره و مساهمته في انفصال جنوب السودان هو حديث ساذج و كلام سطحي لا تسانده اَي حقائق تاريخية و (نافخ البوق ليس هو قائد المعركة)

كل الحروبات التي دارت بين (الجنوبيين) و الجيش السوداني و التي امتدت لفترة تزيد عن الثلاثة عقود، لم يحتفظ خلالها الجيش السوداني بأسير واحد و لو كان جريحاً. لماذا لم يحتفظ الجيش السوداني و لو بأسير واحد؟ الجواب يكمن فيما كان يقوله و يكتبه الطيب مصطفي هو الحقد و الكراهية و اعتبار الجنوبيين السودانيين مجرد أناس من الدرجات المنحطة في تصنيف البشر و لذا لا يستحقون الحياة. و لو ليس هذا؛ فما هو التفسير الاجتماعي و النفسي لهذه الظاهرة الشاذة (القسوة المفرطة و تلذذ بقتل الناس) و التي لم يجرؤ احد علي سبر غورها لاستنباط العبر منها.

ان الطيب مصطفي لم يكن لوحده فكل أساطيل الانقاذ كانوا معه يمولونه و يحمونه و يشجعونه و كان يعبر عما يعتبرها الهوية السودانية الحقيقية و الأصلية. و ان سألتَ “من أين جاء هؤلاء”؟ فالجواب: إنهم جميعهم أتوا من صلب و دم الشعب السوداني من اباء سودانيين و امهات سودانيات، و تعلموا علي أيادي معلمين و شيوخ سودانيين (شرفاء) و في خلاوي و مدارس سودانية منهجاً و توجهاً. نعم و بصيغة اخري من أين اتي أفراد الجيش السوداني الذين لم يبدر منهم ذرة رحمة و لم ينهلوا شيئاً من مبادئ دينهم المقام علي قواعد الرحمة و المغفرة. كيف كانت تفكر قادة الجيش السوداني و هم يخوضون (حرباً أهلية) خالية من اَي رحمة و شفقة ثم ناتئ ننعت الطيب مصطفي بكل ما هو ذميم في حين انه كان مسالماً يكتب و يجادل و كان الناس يردّون علي أضاليله، و هل هناك من يرد علي الجنجويد و الجيش السوداني عندما ينفذون الحقد من خلال (مجزرة بيت الضيافة) و (مجزرة القيادة العامة) و في دار فور و من قبل جنوب السودان؛ انها الهوية السودانية التي تعتنقها الصفوة و كان الطيب مصطفي (الناعق) بها.

الطيب مصطفي (له الرحمة إن شاء الله ) لم يكن ظاهرة اجتماعية سودانية غريبة او شاذة و إنما كان يعبر و يجتر من رواسب اجتماعية دفينة في الثقافة السودانية الموروثة من عمق التاريخ. فقط الفرق هو انه كان اكثر صدقاً و إقداماً ليعبر عما يجيش في نفوس و ما يعتقده الكثيرون من السودانيين عن بعضهم البعض و عننا نحن أهل جنوب السودان. لقد مات (حمال الحطب) فهل سيتوقف الحروبات التي تقتل فيها الآلاف من السودانيين الأبرياء؟ هل سيشعر أهل دار فور و نساء الجنينة بالأمان لان صانع و مروج الشر قد ترجل و رحل؟ و هل سوف تقوم حكومة السودان بنشر السلام و العدل الاجتماعي في ربوع السودان؟

صحيح أيضا، يجب ان نوجه نفس السؤال لمن شمتوا في رحيل الطيب مصطفي من مثقفي جنوب السودان؛ هل يا ترى الحرب و تشريد الناس من مساكنهم في جنوب السودان ستتوقف لان صانع الشر و بوق الانقاذ قد مات؟ أبداً، الطيب كان مجرد بوق و لم يكن مصدر مشكلات جنوب السودان او السودان.

الطيب مصطفي لم يكن شريراً إنما كان صريحاً يعبر عن عقلية قومه باستخدام القلم و الكتابة؛ و عن هذه العقلية، يعبر عنها الجنجويد و الجيش السوداني باستخدام السلاح و العنف. ان عقلية كل من يحكم السودان ماضياً و حالياً هو صورة طبق الأصل لعقلية الطيب مصطفي.

هل لدي الجيش السوداني الشهامة و الإنسانية و يعتذر عما ارتكبوها من المجازر في جنوب السودان و نترك الطيب مصطفي بين يدي ربه الغفور الرحيم.

أما انا فقد سامحتك أيها الشيخ (الطيب مصطفي) و اتمني ان يغفر الله كل جريرة قد تكون اقترفتها اثناء حياتك، و لأسرتك العزاء الصادق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق