
لم الأكاديميون سيئون في الكتابة؟ (2)
ستيفن بينكر / ترجمة: حميد يونس
-4 علامات التنصيص الخجولة
غالبًا ما يستخدم الأكاديمي علامات التنصيص في المصطلحات العامّية الشائعة وكأنه يترفع عن ذكرها، كما في (وهذه الرسالة ليست بـ «السوقية»)، أو (إنها «حرّيفة تعلّم»، فعلى ما يبدو أنها تستطيع تعلّم أي شيء في أي مجال تريد). وكأنه يقصد «لا نستطيع التفكير في طريقة أكثر كياسة لصياغة الجملة، لذا أرجوك لا تؤاخذني وتسيء الظنّ بي فأنا لا أعبث حين اتحدث بهذه الطريقة، بل أنا باحث جاد حقًا».
لا شكّ أن علامات التنصيص تفيد في عدد من الاستخدامات المشروعة، مثل اقتباس كلمات شخص آخر (ثم قال: «عيدان الكمنجة!»)، أو ذكر الكلمة بوصفها كلمة وليس الغاية من معناها (تستخدم صحيفة التايمز مصطلح «الألفية» وليس «آلاف السنين»)، أو للإشارة إلى عدم موافقة الكاتب على معنى الكلمة في هذا السياق (وقاموا بذبح أختهم من أجل الحفاظ على «شرف العائلة»). ولا نجد الحشمة والترفع عن اختيار كلمات الآخرين من بينها.
-5 التحوّطات
يتخم الأكاديميون نصوصهم بحشوٍ من الحديث الفارغ بلا هوادة، وكأنهم يأخذون مسافة شخصية من عبارة هم ليسوا مستعدين لدعمها والدفاع عنها. مثال على هذا الحشو «كما يقال، على ما يبدو، إلى حدٍّ ما، إلى درجةٍ ما، بصورة ما، نوعًا ما، تقريبًا، جزئيًا، نسبيًا، بالمقارنة، بافتراض، في الغالب، بدلًا من ذلك، إن جاز التعبير، لعلّي أجادل هنا…».
لو أعدت النظر في النصّ (إنها «حرّيفة تعلّم»، فعلى ما يبدو أنها تستطيع تعلّم أي شيء في أي مجال تريد) وتمعنت في المصطلحات المذكورة أعلاه: هل يقصد الكاتب أنها شغوفة في عدّة مجالات لكنها لم تكلف نفسها عناء تعلمها، أو قد حاولت تعلّم هذه المجالات لكنها تفتقر للكفاءة؟
يستخدم الكتّاب هذه التحوّطات من أجل التملّص من المسؤولية، أو تبني أقلّ قدر منها حين يثبت النقّاد خطأ ما توصلوا إليه. وعلى النقيض من ذلك، يعتمد الكاتب الكلاسيكي على الحسّ السليم common sense والفطرة الاعتيادية، وكأنه يجري محادثة يومية. فلو أخبرك أحد أن فلان يريد مغادرة سياتل لأنها مدينة ماطرة، لن تفترض أنه يقصد سياتل تمطر على مدار الساعة طيلة أيام الأسبوع، لمجرد أنه لم يضف كلمة «نسبيًا» أو «إلى حدٍّ ما». ولن ينفع خندق التحوّطات، التي يحاول الكاتب تحصين نفسه بها، لو أراد ناقد عديم الرحمة أن يهاجم الكاتب بكل الأحوال.
قد لا يبقى خيار أمام الكاتب في بعض الأحيان إلا التحوّط في إدلاء التصريحات. والأفضل أن يتلون حسب الظروف فلا يتمسك برأيه، بل يدع لنفسه مجالًا للتهرّب أو التظاهر بالحراجة لو اضطر إلى قول أنه يعني حقًا ما يقول. لو اساء القارئ النصّ وعدّ الإحصاءات قانونًا مطلقًا، سيتوقع الكاتب الحصيف السهو والخطأ ويقيّم التعميم وفقًا لذلك. العبارات التي تقول «الديمقراطيات لا تفتعل الحروب»، أو «الرجال أفضل من النساء في المشكلات الهندسية»، أو «تناول البروكلي يقي من السرطان». لا تحتكم إلى حقيقة أن هذه الظواهر لا تمثل في الاحصاءات إلى أقل القليل. ونظرًا لوجود عواقب وخيمة في إساءة تفسير هذه التصريحات على أنها قوانين مطلقة، يجدر بالكاتب أن يدرج شيء يضمن المعادلة أو شيء يجعل من الأشياء متوسطة ومتساوية. أفضل ما يستطيع أن يقوم به أن يذكر حجم التأثير ودرجة اليقين بصورة صريحة وبدون تحوّطات «كانت أغلب ديمقراطيات القرن العشرين عرضة لخوض الحروب بصورة تشبه الحكومات الاستبدادية». لا أقصد أن الكتّاب الجيدين لا يستخدمون التحوّطات البتّة في مثل هذه الادعاءات. لكن التحوط خيار، وليس تملّصًا.
-6 الميتا-مَفْهمة Meta-conceptualization واختراع الأسماء nominalizations
نجد في أحد البحوث القانونية: «لدي شكوك جدّية في محاولة تعديل الدستور، ربما تصحّ المحاولة على المستوى الفعلي. أما على المستوى الطموح، بكل الأحوال، فأن استراتيجية تعديل الدستور قد تكون ذات قيمة أكبر». ماذا تضيف كلمتي (مستوى) و(استراتيجية) إلى جملة تعني «لديّ شكوك جدّية في محاولة تعديل الدستور قد تصحّ فعلًا، لكن من المفيد التطلّع لها»؟ يطلق على هذه المصطلحات المفرغة من محتواها باسم الميتا-مفاهيم، أي مفاهيم حول المفاهيم، مثل مصطلحات «النهج، والمنهج، والافتراض، والمفهوم، والشرط، والسياق، والإطار، والقضايا، والمستوى، والنموذج، والمنظور، والعملية، والتوقع، والدور، والاستراتيجية، والتوجّه، والمتغيرات».
من السهل أن نرى لماذا تنساب الميتا-مفاهيم بإفراط من بين أصابع الأكاديميين. يفكر الأكاديميون فعلًا في «القضايا» (ما يقومون بإدراجه في الصفحة)، و«مستويات التحليل» (ما يجادلون فيه حول الأنسب)، و«السياقات» (ما يستخدم لاكتشاف السبب الذي يجعل الشيء يعمل في مكان وليس في مكان آخر). لكن تصبح هذه المصطلحات المجرّدة بعد وهلة حاويات تخزن فيها أفكارهم ويستخدمونها إلى أن يصلون إلى مرحلة يعجزون معها تسمية أي شيء باسمه الحقيقي «الحدّ من العنصرية» يتحول إلى «نموذج الحدّ من العنصرية» و«استدعاء الشرطة» يتحول إلى «مقاربة الموضوع من منظور تنفيذ القانون».
مشكلة القواعد في اللغة الإنجليزية أنها تساعد على عادات الكتابة السيئة في مصطلحات مجرّدة وغير الضرورية لأنها تمتلك الأدوات الخطرة لإنشاء مصطلحات مجرّدة في عملية نطلق عليها اختراع المسميات nominalization، إذ نأخذ فعلًا عاملًا ونحنطه في صيغة اسمية (نحوّله إلى جثة هامدة) بعد أن نضيف إليه لاحقة «-ance أو -ment أو -ation». لذلك بدلًا من قول تأكيد الفكرة affirming، نقول مَأْكدة الفكرة affirmation، وبدلًا من قول تأجيل الشيء postponing، نقول مؤاجلة الشيء postponement. تطلق هيلين سوورد Helen Sword على هذه الأسماء بـ «الزومبيات» لأنها تتجول في المشهد بدون أن يوجّه تحركاتها أي عامل واعي، فيتحوّل السرد الحيّ إلى ليلة حافلة بالموتى الأحياء.
يتضح ما أشرنا إليه في العبارة «الوقاية من التوالد العصبي يساعد في التقليل من التهرب الاجتماعي» أو يمكن القول «إذا استطعنا منع التوالد العصبي، لن تعود الفئران تتجنب فئرانًا أخرى».
تساعد نظرية التناقض بين اللغة الأكاديمية والأسلوب الكلاسيكي في تفسير مفارقات الكتابة الأكاديمية؛ إن كثير من الكتّاب ذوي الأسلوب والذين يتحدثون إلى جمهور العوام هم علماء (أو فلاسفة شغوفون بالعلم)، في حين نجد محترفي أسوأ أسلوب كتابة هم أساتذة اللغة الإنجليزية! ذلك لأن أسلوب السرد الكلاسيكي يناسب العلماء. وعلى خلاف اللغط الشائع الذي يفترض أن آينشتاين أثبت أن كلّ شيء نسبي، أو أن هايزنبرغ أثبت أن المراقبين يؤثرون دائمًا في ما يراقبونه، فإن غالبية العلماء يعتقدون أن هناك حقائق موضوعية في العالم يمكن أن يكتشفها المراقبون غير المعنيين.
وعلى المنوال نفسه، نجد صورة السرد الكلاسيكي هذه غير بعيدة عن النظرة العالمية للأيديولوجيات الأكاديمية النسبية مثل مدرسة ما بعد الحداثة، وما بعد البنيوية، والماركسية الأدبية، اللائي استولت على أقسام العلوم الإنسانية في السبعينيات. إن نصوص أغلب الفائزين في مسابقة دوتون Denis Dutton كانت عبارة عن ميتا-مفاهيم: (مثل أطروحة جوديث بتلر Judith Butler «التنقل من الأطروحة البنيوية التي يُفهم فيها رأس المال عبر هيكلة العلاقات الاجتماعية بطرق متجانسة نسبيًا إلى وجهة نظر مهيمنة تخضع فيها العلاقات إلى قوة التكرار والتقارب وإعادة الصياغة مما تدفع للسؤال الظرفي في تفكير البنى….»)، لاحظوا كيف النصّ متخوم بالميتا-مفاهيم.
يظلّ الأسلوب الكلاسيكي، رغم صوره المباشرة، أشبه بالوضع الشكلاني الذرائعي. ولا يستثنى من ذلك العلماء، الذين التزموا برؤية العالم كما هو، والذين نجد أسلوبهم ما بعد حداثي قليلًا. هم يدركون صعوبة تقفي الحقيقة، ويدركون أن العالم لا يكشف عن نفسه لنا فقط، لكننا نفهمه من خلال نظرياتنا وهياكلنا، والتي هي أقرب بالاقتراحات المجرّدة، لذا لا بدّ من التدقيق في طرائق فهمنا للعالم باستمرار، والحذر من التحيّزات غير المرئية. فإن الكاتب الجيّد لا يتباهى بهذا القلق في كلّ فقرة يكتبها، لكنه يخفيها ببراعة سعيًا لمزيد من الوضوح.
أما المساهم الرئيس الآخر في اللغة الأكاديمية فأنها النقطة المعرفية العمياء التي يُطلق عليها «لعنة المعرفة»، أو (صعوبة تصوّر أن هناك أشخاص آخرين لا يفقهون شيئًا عن موضوع تتقنه أنت). جاء هذا المصطلح من علم الاقتصاد، وكان يعني عدم القدرة على تنحية شيء تعرفه أنت ولا يعرفه الأشخاص الآخرين، وهي سمة مستدامة في النفس البشرية، إذ يواصل علماء النفس اكتشاف نسخ مقاربة من لعنة المعرفة بمسميات جديدة مثل: الذاتوية egocentrism، وتحيّز الإدراك المتأخر hindsight bias، الإجماع الخاطئ false consensus، الشفافية الخادعة Illusory transparency، العمى العقلي mind-blindness، فشل التأمل failure to mentalize، وفقدان نظرية العقل ToM. ويمكن أن نفهم نظرية العقل في المثال الآتي: (تخبأ لعبة أمام طفلة ذات الثلاث سنوات في حين يخرج بالغ ثانٍ من الغرفة، لذا تفترض هذه الطفلة أن البالغ حين يعود سيبحث عن اللعبة في موقعها الفعلي وليس في المكان الذي شاهده آخر مرّة). وعندما يكبر الطفل يتجاوز عدم القدرة على فصل ما يعرفه هو وما يعرفه الآخرين، لكن ليس تمامًا. لأن البالغون يشطحون كذلك في تخميناتهم قليلًا في نظرية العقل. وتجدهم يفترضون بالخطأ أن معرفتهم والمهارات التي اكتسبوها غريزة ثانوية عند أي شخص آخر أيضًا.
لعنة المعرفة سبب أساسي في رؤية علماء عباقرة يكتبون سردًا بائسًا، والأمر ببساطة أنهم لا يدركون أن القراء لا يعرفون ما يعرفونه، هؤلاء القراء لا يتقنون لغة العلماء، ولا يستطيعون اتباع الخطوات التي تبدو سهلة، ولا يتخيّلون حدثًا يبدو للكاتب واضح وضوح الشمس. ومن ثمّ لا يهتمون بتفسير المصطلحات العلمية، ولا يبحثون عن تفسير للمنطق خلف التفاصيل الضرورية.
لا يستطيع الأكاديميون بالطبع التخلي عن المصطلحات التقنية كلّها، لكن يستطيعون أن يحذفوا قدرًا هائلًا من هذه المصطلحات، ولن يشعر شخصًا بغيابها. العالم الذي يستبدل مصطلح نموذج القوارض murine بكلمتي الفئران rats والجرذان mice لن يختلف معه عدد الصفحات ولن تكون مقالته أقلّ علمية. يصير الفلاسفة متزمتين حين يتعلق الأمر بالتعابير اللاتينية مثل ثبات باقي العوامل ceteris paribus، من بين أشياء أخرى inter alia، وفي حدّ ذاتها simpliciter، ويكتبون ما يقابلها من اللغة الإنجليزية.
يعمد الكتّاب غير المبالون إلى استخدام المختصرات في مسعى إلى توفير النقر على لوحة المفاتيح، لكنهم يغفلون حقيقة أن الثواني القليلة التي يخسرونها من حياتهم تأتي على حساب دقائق عديدة تُسرق من قرائهم. أحيانًا أتفرج إلى جدول الاختصارات في بداية البحوث والكتب وأقرأ أعمدة تحمل حروفًا مثل DA، DN، SA، SN، ثم أقرأ التوضيح في المقابل وأجده Dissimilar Affirmative (إيجابي التباين)، Dissimilar Negative (سلبي التباين)، Similar Affirmative (إيجابي التشابه)، Similar Negative (سلبي التشابه)، وكلّ اختصار موضوع في سنتمترات داخل مساحة فارغة بيضاء، ثم أقول في نفسي: ما السبب الذي يدفع المؤلف إلى عدم نطقها كما هي؟
أما الكاتب الحصيف فأنه لن يتوانى عن إضافة بعض الكلمات التوضيحية إلى المصطلحات، مثلًا في يذكر الرشاد Arabidopsis، نبتة الخردل المزهرة، بدلًا من مصطلح الرشاد وحده (وهذا ما أجده في أبحاث علمية كثيرة). حقيقة لا أرى هذا الشرح التوضيحي مجرد شهامة من الكاتب، لأن الكاتب السهل يضاعف عدد قرائه ألف مرّة على حساب حفنة من الشخصيات، وقد يكون القراء شاكرين أكثر إذا استخدم الكاتب أمثلة كثيرة، فالشرح بدون مثال توضيحي يعادل عدم وجود شرح بكل الأحوال.
وإن لم يكن بدّ من الاستغناء عن المصطلحات الفنية فلا ضير، ولماذا لا يكون اختيار المصطلحات محصور في التي يسهل على القراء فهمها؟ من المفارقات أن تخصّص اللغويات من بين أسوأ المجالات ارتيادًا، مع وجود العشرات من المصطلحات المحيّرة، والثيمات التي لا علاقة لها بالثيمات، والكلمات التي تتشابه في النطق لكنها تختلف في الدلالات، والمصطلحات النحوية المربكة والقواعد المعقدة.
وليست المصطلحات غير الشفافة وحدها تعوق اللغة الاكاديمية. خذ هذا النصّ مثلًا من مجلة تنشر مقالات في علوم الإدراك المعرفي لقراء كثيرون:
«يتم تأكيد الطبيعة الدؤوبة والمتكاملة للإدراك الواعي سلوكيًا من خلال ملاحظات مثل «وهم الأرنب» Rabbit Illusion ومتغيراته، إذ تتأثر الطريقة التي يدرك بها الحافز بأحداث ما بعد التحفيز وتنشأ بعد الحافز الأصلي بعدة مئات من الملي ثانية».
لو لاحظتم فأن المؤلف يكتب كما لو كان الجميع يعرف «وهم الأرنب»، رغم أنني اشتغل في هذه الوظيفة أكثر من أربعين عامًا ولم أسمع به مطلقًا. إذن كيف يفترض بنا تخيّل «الحافز»، أو «أحداث ما بعد التحفيز»، و«الطريقة التي ندرك بها الحافز في نهاية المطاف»؟ وما علاقة أي من هذه الأمور بالأرانب؟
عندما بحثت قليلًا وقرأت عن الوهم الجلدي للأرنب Cutaneous Rabbit Illusion وجدته: لو أغمضت عينيك وقام أحدٌ ما بالنقر عدّة مرات على معصمك، ثم على المرفق، ثم على الكتف، سيبدو الأمر عبارة عن سلسلة من النقرات التي تمتد على طول الذراع مثل الأرنب المتقافز. حسنٌ، فهمت الآن! التجربة الواعية للشخص في ما يخصّ شعور النقرات الأولى يعتمد على موقع النقرات اللاحقة. لكن لماذا لم يذكر المؤلف هذه الجملة والسلام؟ ألا يتطلب ذلك كلمات أقل من تعقيدات الحافز وأحداث ما بعد التحفيز؟
يفقد الأكاديميون سطوتهم على الأرض بتأثير عاملين من عوامل الخبرة التي وثقها علم النفس المعرفي: يطلق على العامل الأول التجميع أو التكتّل chunking للتغلب على عقبة الذاكرة قصيرة الأمد، إذ يعمل العقل على تحشيد الأفكار في مجموعات أكبر وأكبر، وصفها عالم النفس جورج ميلر بـ «التكتلات» chunks. إننا حين نقرأ ونتعلم، نتقن عددًا كبيرًا من المفردات المجرّدة، وكلٌ منها يتحول إلى وحدة عقلية يستطيع العقل استدعاءها في أيّ لحظة ويشاركها الآخرين. يعدّ عقل الشخص البالغ المتخوم بهذه التكتلات محركًا فاعلًا للتفكير العقلاني، لكنه يأتي بتكلفة: لأن هذا العقل يفشل في التواصل مع عقول الآخرين الذين لم تتقنوا التكتلات ذاتها.
إن مقدار المفردات المجرّدة التي يمكن أن يفلت الكاتب منها تعتمد على خبرة قراءاته. لكن إتقان القارئ النموذجي للتكتلات تتطلب موهبة استبصار لا ينعم بها إلا القليل منا. عندما نكون خبراء في تخصصاتنا، ننغمس في التخصص بحيث يبدو لنا الجميع يفهم الأشياء مما نعنيه! وبينما ننغمس في التخصص أكثر، يصير عالمنا، وننسى أنه مجرد كويكب صغير في كون من التخصصات. لذا حين نتواصل مع فضائيين من الأكوان الأخرى ونرطن معهم بلهجتنا المحلية، لن يستطيعوا استيعاب ما نقول بدون مترجم لغات الكواكب!
الفشل في استيعاب أن تكتلاتي لا تشبه تكتلاتك قد يفسر لماذا نربك قراءنا بالمصطلحات العلمية، والرطانة المطوّلة، ومختصرات الحروف المبهمة. لكن هذه ليست الطريقة الوحيدة التي نربك بها القراء. قد تكون الصياغة ضبابية أحيانًا بدون حاجة إلى مصطلحات تخصصية.
الطريقة الأخرى التي تسهم فيها الخبرة في استصعاب مشاركة الأفكار: إننا كلّما نألف معرفة ما، نفكر فيها من حيث الاستخدام أكثر من الشكل الذي تبدو عليه ومن أي شيء صنعت. يطلق على هذا الأمر بـ «الرسوخ الوظيفي» Functional Fixedness: إليك أحد الأمثلة، لديك شمعتان، وعلبة عيدان ثقاب، وعلبة مسامير تثبيت الورق. الآن، باستخدام هذه العناصر فقط، حاول تعليق الشمعة بالجدار بحيث لا يلوث الشمع الحائط. كيف يمكنك تحقيق هذا؟ يبدأ الكثير من الأشخاص فورًا باستخدام مسامير تثبيت الورق لتثبيت الشموع على الحائط. لأنهم يفكرون بطريقة واحدة ومباشرة للعناصر. هناك حل آخر، أن تذيب الجزء السفلي من الشمعة ثم تستخدم الشمع الساخن لإلصاق الشمعة، وتضع غلاف المسامير حاجزًا بين الشمع والحائط. الغالبية لا يقومون بذلك لأنهم يعتقدون العلبة حاوية للمسامير وليست أداة بحدّ ذاتها. يشبه «الرسوخ الوظيفي» بالنقطة العمياء لأن الفرد تترسخ في عقله وظيفة المادة ويغفل عن تركيبها.
يتعاون عاملي الرسوخ الوظيفي ونظرية التكتلات لتعليل السبب وراء استخدام الأكاديميين هذا القدر الجبار من المصطلحات التزامنية، فضلًا عن الألفاظ المجرّدة، والميتا-مفاهيم، والأسماء الزومبيات. إنهم لا يحاولون التباهي ولا إيهام القراء، لكنها طريقة تفكيرهم ليس إلا. فلم يعد الأكاديميون يفكرون (ومن ثمّ يكتبون) حول الموضوعات الحسّاسة، وباتوا يتحدثون عن الدور الذي تلعبه هذه الموضوعات في مشكلات حيواتهم اليومية.
وفي الطريقة نفسها، صار النقر على المعصم «محفزًا» والنقر على الكوع «حدث ما بعد التحفيز»! إنهم يكترثون بحقيقة أن الحدث يتلوه حدث آخر، ولكنهم لا يكترثون بأن الموضوع عبارة عن نقر لا أكثر ولا أقل. مشكلتنا نحن القراء نكترث، لأنه بخلاف ذلك ليس لدينا أي فكرة عما يحدث فعلًا. يؤدي الالتزام بالصرامة إلى أكثر من مجرد تسهيل التواصل؛ بل التفكير بطريقة أكمل. والقارئ الذي يدرك ما معنى «وهم الأرنب الجلدي» Cutaneous Rabbit Illusion يستطيع تقييم هل التجربة الواعية تنتشر بمرور الوقت أو تفسّر بطريقة أخرى.
في استيعابنا هذه العوامل (لعنة المعرفة، ونظرية التكتّلات، والرسوخ الوظيفي)، قد نفهم مفارقة الصعوبة في إتقان الأسلوب الكلاسيكي، والصعوبة في التظاهر بفتح عينيك وكبح جماحك والتحدث بكلّ سهولة. عندما تختصّ في موضوع وتتحدث عنه، ربما تأتيك الأفكار بصورة التكتلات المجرّدة، وقد أصبحت المسمّيات الوظيفية غريزة ثانية لديك، لكنها لا تزال غير مألوفة لقرائك للأسف، وأنت آخر من يعلم.
أما التفسير الأخير للسبب الذي يجعل الأكاديميون يكتبون بنحو سيء، فقد جاء من طرف ثالث، لا يتعلق بالتحليل الأدبي ولا علوم المعرفة الإدراكية، بل جاء من الاقتصاد الكلاسيكي وعلم النفس السلوكي: هناك حوافز قليلة للكتابة بصورة جيدة.
في الكاريكاتور الذي تحدثنا عنه في بداية المقال، يقول كالفين الطفل للنمر هوبز «مع القليل من الممارسة، قد تصير الكتابة ضبابًا مخيفًا لا يسهل المرور من خلالها واختراقها»، يبدو أنه أدرك الأمر بالمقلوب. الضباب يأتي للكاتب بيسر وسهولة، لكن الوضوح يتطلب الممارسة. هذه الواقعية المستساغة والحوارات الخفيفة ذات الأسلوب الكلاسيكي الخدّاع، حيلة تكتشف من خلال الجهد والمهارة. فليس من السهل التغلّب على لعنة المعرفة، بل تتطلب أكثر من مجرد التعاطف مع القارئ الاعتيادي. ولأن قدراتنا على التخاطر وقراءة الأفكار محدودة، فإنها تحتاج أن تمرّر مسودة لعدد من القراء وتسألهم عن مدى فهمها، ثم تعيد قراءتها بنفسك بعد مضي وقت كافٍ بحيث لم تعد المسودة مألوفة إلى عينيك، ثم تضعها في مسودة أخرى (ومثنى وثلاث ورباع). هناك حيل أخرى تكتسب مع الوقت: ذخيرة من الكلمات العامية المفيدة والمجازات tropes، والاستخدام الدقيق لأدوات الربط بين الجمل مثل: مع ذلك، وعلى أية حال، وعلاوة على ذلك، علاوة على ما سبق ذكره، وغيرها. فإن لهذه الاستخدامات القدرة على إصلاح الجمل المعقدة والمسارات المشوشة، وغير ذلك الكثير.
لا يحتاج الأمر جهدًا جهيدًا لتدرك أن الأكاديميين لا يعبئون بالتحسين الذاتي إذا كانت الوظيفة لا تكافئهم على ذلك. واللغة الأكاديمية، وإلى حدٍّ كبير، لا تعبأ أيضًا. ربما أفلت من الأمر القليل من برامج الدراسات العليا التي تهتم بتعليم مهارات الكتابة، والقليل من المجلات الأكاديمية التي تشترط السهولة والوضوح في معايير قبول المقالات والأوراق البحثية، وأقل من ذلك قد نجد محررين ومراجعين يرفضون هذه الكتابات. في حين لا يعترف أي أكاديمي بالكتابة الرديئة والقراءة الصفراء، لكن الغالبية لا يكترث بعدم الكفاءة والاحتراف في كتاباتهم.
يكفي تغافلًا، إن عدم الاكتراث في كيفية طرح ثمار جهودنا ومشاركتها هي الخيانة لمسعانا الأعظم الذي يهدف تعزيز انتشار المعرفة. ولو بقينا نكتب على هذا النحو السيء، نكون قد أهدرنا وقت بعضنا بعضًا، وزرعنا البلبلة، وعمّمنا الأخطاء، وحوّلنا مهنتنا الرصينة إلى محض أضحوكة صفراء.
(نقلا عن مجلة حكمة)