ثقافة وفن

الطيب صالح … الركن الشديد (١-٢)

بدر الدين العتاق

حتى ونحن نقرأ الإلياذة وهميروس والكوميديا الإلهية لدانتي ومسرحيات شكسبير وشعر تي إس إليوت وشيلسي ورابندرات طاغور الشاعر الهندي وشعر بوشكين أبو الأدب الروسي وقوة الأرض لإيكهارت بول الفيلسوف الوجودي الألماني وكتب الجاحظ في بيانه وتبيينه مروراً على الأدب العربي الجاهلي وصدر الإسلام ونقد العميد الدكتور / طه حسين، لكل الشعر العربي القديم واستنكاره له وكذلك فولتير مما علمنا إيَّاه العميد لنقرأ زيادة عليه لسارتر وبول فاليري وأن نهتم بمقدمة بن خلدون لأنَّه نال الدكتوراه بها وأشهر ما جاء فيها: ( من بعد عن السياسة فقد سلم ) في ثمانية أجزاء ويعرفنا العميد كذلك كيف نفهم الأدب ونعرف النقد والتذوق أداة الفهم وأن نحد شفرتها بميزان اللغة وميزان العقل والحس والذوق وما فهمناه من صنَّاجة العرب وعميد الأدب العربي الدكتور / عبد الله الطيب، الذي حيَّا أستاذه العميد قائلاً:

عصتني الطيعات من القوافي

فما أدري وحقك ما أقول

وأعياني البيان، وكيف يجزى

جميلك أيها الشيخ الجليل

عرفتك في الصبا، وغبرت دهرا

وحبك في الجوانح ما يحول

عرفتك في صحائف مشرقات

كأن سوادها الطرف الكحيل

بلوتك أريحي القلب شهما

له الغايات والسبق الأصيل

يخلد في كتاب العرب فردا

كما خلد المبرد والخليل

وبهذه المناسبة لم يبايع المجذوب على أن يكون عميداً للأدب العربي قال: ” لإرتباطه بالسياسة ” وعرَّفنا هو الآخر على لون جديدِ غير الذي نهلناه من العميد طه حسين وهو الأسلوب العلمي والأدبي في قراءة النصوص والتعليق عليها ثم شخصيته المتواضعة التي حببتنا فيه وقد سمعت ممن لا أشك فيه بأنه لاقى يوماً الأستاذ الكبير / الطيب صالح، في المربد العربي بالعراق فسئل الأخير عن الأول فقال: ذلكم العلم يمشي على قدمين،  وقد سُئل المجذوب لِمَ لَمْ تكتب رواية فقال: هذا من الترف الذهني ومضيعة للوقت، ثم قال أخرى: نافذة القطار، عمل روائي لكنهم لم يصنفوه كذلك، قلت: لكي يفسح لهم المجال في الرواية أو لأنهم خافوا على أنفسهم المنافسة حتى على مستوى الرواية أو لكي لا يتغلب هو عليهم في كل أبواب الأدب.

أذكر اللقاء التلفزيوني الذي بثه تلفزيون السودان في أوآخر الستينيات من القرن الماضي والذي أجراه الأستاذ الكبير المرحوم / حسن عبد الوهاب، مع الأديب والفيلسوف الوجودي المرحوم / أنيس منصور، رحمهما الله رحمة واسعة، فعلَّق هو فيما بعد على هذا اللقاء فقال: أنيس منصور، مثقف من الطراز الأول وإجراء حوار معه يتطلب معيناً مُعَيَّناً! أو هكذا قال أي من الثقافة، وكذلك أستاذنا المرحوم عميد الرواية العربية والعالمية / الطيب صالح، في لقاء تلفزيوني أُجري معه عن روايته منسي: إنسان على طريقته! قال: هذه الأحداث حقيقية! وفي تقديري يجب أن تؤخذ كما جاء على لسان صاحبها.

هذا! الطيب صالح، هو ذلكم المثقف من الطراز الأول والأوحد الإنسان المنسي الذي يعيش على طريقته الخاصة ولا يبالي حيث يبالي بالحياة والناس فهو نسيج وحده، وأذكر لقاء أيضاً كان معه قبل وفاته بقليل (1929 م – 2009 م) أجراه الأستاذ / هيثم كابو، ولم تكن الأسئلة المطروحة على قدر المقام والكبرياء فكانت الأسئلة ترثي صاحبها كابو، قال الشاعر:

كناطح صخرة يوماً ليوهنا * فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

وتمنيت أن ألقاه ففاتني.

الأديب / الطيب صالح، يحب المتنبي وشعره، بدا ذلك في أكثر من عمل كتابي له وأشهد له أنَّه أول من أدخل الشعر العربي في الأعمال الروائية في الوطن العربي إن أسعفتني الذاكرة وهو أجودهم بلا ريب وإدخال الشعر في الأعمال الروائية مما يقوي النص ويقوِّم إعوجاجه من ناحية الفن القصصي وهو رجلٌ حكَّاي بلا ريب، وكان أول عهدي به وأنا في العشرين من عمري أقرأ له وأفهم شيئاً وأجهل أشياء ولكن حببني إليه وإلى كتاباته بجانب تواضعه الجم هو طريقة حكاه في النص المكتوب وصادف هوى تمنيته هو أن أعيش مع جدي أو جدتي [ راجع روايته موسم الهجرة إلى الشمال وخطاب بت مجذوب، أنا أعني هذه الفقرة بالتحديد، قرأتها سنة: 1995 م ] أو في القرى وأنا في مقتبل الطفولة أو أول الصبا حيث لم أكن من ذلكم الجيل الذي تربى على أسرته الكبيرة أو قل: الحوش الكبير لأنني من مواليد العاصمة القومية البندر – بندر شاه – ومما شدني إليه هو البيئة القروية التي خرج منها إلى المحلية والعالمية وصار يحكي عنها بلسان الحال لا بلسان الوصف وهي النقطة التي كنت أفتقدها من ذلك الزمان.

إذاً! في كتاباته الأدبية عموماً تجد هذا الحس الغير متكلف والغير متعالي لا في اللهجة المكتوبة ولا في الأسلوب السردي فأنت واجدٌ السلاسة والبحبوحة والأريحية كيفما اتفق، فلا تشعر بالملل زد على ذلك تمكنه من ناصية اللغة والبيان وساعده في ذلك التجويد صناعته الإعلامية في إذاعة أم درمان أولاً ثم الــــــــ بي بي سي ثم وزارة الإعلام القطرية ثم اليونسكو، وكنت أستمع له منذ عهد قريب في إذاعة البيت السوداني أو إذاعة أم درمان الأم وهو يقرأ بلا لحن أو تكسير في النحو – حاشا لله لست أنا من ينظر لحنه أو هفوته – ولا في الصرف من كتاب السيرة النبوية لابن هشام، ولك أن تعرف أنَّ بن كثير وهو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي المتوفي بدمشق سنة 774 هــ صاحب كتاب: السيرة النبوية من أربعة أجزاء طبعة سنة 1985 م، قد أخذ من بن هشام – عبد الملك بن هشام – وهو أول من أخذ تدوين السيرة النبوية وعليه اعتماد المسلمين بعامة فيما ذهب إليه من التدوين وقد أخذ منه الواقدي نصيباً وافراً من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تبعهم من بعد بن حجر العسقلاني في شرح بلوغ المرام للإمام الصنعاني من جزأين وهو الذي شرح صحيح البخاري في كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري، ثم توالت كتب الفقه والتفسير والشرح كالقرطبي والطبري والجلالين في مجلد ضخم وتفاسير بن عباس قد جاءت متأخرة ولعلَّها بعد تدوين السيرة بقليل أو في وقت واحد هي وتدوين الصحيح الذي لحقه فيه مسلم النيسابوري / مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري، أبو الحسين، (206 هـ – 25 رجب 261 هـ) / (822م – 6 يوليو 875م )، هو من أهم علماء الحديث النبوي عند أهل الســــــــنة / في صحـــــــــــــــــيحه ” صحيح مسلم ” وكان على شرطه باختلاف الشرطين أستاذه الإمام البخاري رحمهم الله أجمين.

  ولا أدري لماذا لا تبث إذاعاتنا المحلية نحو العالمية مثل هذه الذخائر السودانية ففيها الخير الكثير، وقد انتبهت له من بعد – أي: صالح – فأخذت أقرأ له كل كتبه التي أسطاعها فإن الجيب خالي والعقل خاوي فكان عرس الزين ودومة ود حامد وضو البيت ومريود وموسم الهجرة إلى الشمال ونخلة على جدول ثم منسي إلى جانب مجموعة قصصية من ضمنها نخلة على الجدول، وكذلك كتاباته في مجلة الدوحة القطرية وقد أشار فيما أشار – راجع كتابه أو روايته ” منسي ” – إليه من محاولة دولة قطر لتأسيس أكبر مشروع وآلة إعلامية في الوطن العربي ضمن توصيات إعلام جامعة الدول العربية أسوة بنظيراتها العالميات من أمثال البي بي سي وصوت أميركا وأن يكون للعرب نافذة إعلامية محايدة تتبنى المشاريع القومية العربية وتصحح المسار الوحدوي أو قل المسار الخطأ في الإعلام العالمي وصورة العربي في بلاده من إشانة سمعته إلى جانب تشويه الصورة لدي المتلقي العالمي وقد كانت قناة الجزيرة اليوم وهي من أكبر المشاريع الإعلامية في العالم وتجاوزت المحلية والوطن العربي ومنسي أيضاً، ومن لا يقرأ للطيب صالح فكأنَّه قرأ للمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذكيتم و ما ذُبِح على النصب واستقسموا بالأزلام فذلكم الفسق.

[ كان أكثر ما يطربه فيها أنَّه كان يعلم الإنجليز لغتهم ] ص: 45، من كتاب “منسي “، هذه العبارة لا أستبعد فيها محاولته تعليم بلاد ويلز وإسكفورد وبيرمنجهام وشيلسي الثقافة العربية باللسان السوداني من طريق مايكل بسطاوروس أو قل: هو يحكي سيرته الذاتية من طريق صاحبه / منسي يوسف بسطاوروس، لاحظ قوله من ذات الكتاب ص 78: [ كنا في مقتبل العمر، عندنا، كما عند الشباب، قدرة عظيمة على التسامح وأيضاً كما عند الشباب، استعداد كبير للتضحية والفداء إلا أنَّ أحداً لم يطلب منَّا فعل شيء ]، وإن كان يشير إلى قادة العمل السياسي آنذاك من تكلسهم وتقوقعهم في الذاتية المحضة بعيداً من الحس الوطني إلا أنَّه في ذات الوقت يشير إلى مقدرته على العطاء في كل المجالات وقد بان إذ قال من ذات الكتاب: [ ولو لا دولة قطر التي أتاحت لي الفرصة لأرى العالم ما كنت لأراه ].

هل الطيب صالح وطني غيور؟ الإجابة: نعم! حتى الثمالة! لأنَّه لم ينس السودان في المخيلة العربية ولا العالمية إذ ترجمت كل مؤلفاته إلى أكثر من ثلاثين لغة عالمية منها غير الإنجليزية: الروسية والإيطالية والفرنسية، يحمل جواز سفر سوداني صلاحيته عامان إثنان فقط للأسف الشديد – على حسب تعليقه هو على مسألة الجواز ومدة صلاحيته / نفس المرجع السابق – جال به أصقاع المعمورة في حين كان يمكنه أن ينال الجواز البريطاني أو الإيرلندي لكنه لم يفعل ثم هو من بعد أرسل مادة قيمة تناولتها الأسافير الإلكترونية تحت عنوان: من أين أتى هؤلاء؟ ويقصد بهم حكام ثورة الإنقاذ الوطني النظام السابق، فإن لم يكن ظاهراً بأنَّه معارضاً سياسياً فقد كان يحمل معه هم الوطن والمواطن السوداني ” محمد أحمد ” المغلوب على أمره يكون معه حيثما كان في أنحاء المعمورة.

في حقبة الستينيات من القرن الماضي لوحظ مستوى التعليم والثقافة العاليتين للمواطن السوداني وهي من أخصب فترات السودان الثقافية والفكرية لا أقيسها بالعملة الأجنبية مقابل المحلية ولكن قياسها على مستوى الاندياح والانفتاح العالمي للسودانيين بعامة وعلاقة البلد الخارجية فأذكر دعوة أحد الإخوة السودانيين بأميركا ( أظنه الأستاذ الشاعر / كمال الجزولي ) لأصحابه من السودان مشاهدة فيلم ” دكتور زيفاجو ” للمثل العالمي عمر الشريف، تأليف الأديب الروسي / بوريس باسترناك سنة: 1965 تقريباً، ونفس الأمر في لندن دعوة الأستاذين / كرار أحمد كرار وحسن بشير، للأستاذ / الطيب صالح ” ومعه منسي / مايكل / أحمد، فيما بعد ” لسماع محاضرة يلقيها البرفيسور / توينبي، آرنولد جوزيف توينبي، على طلبة جامعة أكسفورد عن القضية الفلسطينية والتي حضرها لفيف من العرب واليهود وقبلها يقول صالح: [هل يُعقل انَّ هذه الفتاة الجميلة اللطيفة تذهب إلى الحرب وتحمل السلاح وتحارب مع الأعداء وتقتل العرب ؟ ] المصدر السابق، ص: 78، وقراءة كثير من الكتب مثل: يوتوبيا لتوماس مور وكتاب: رجل لكل العصور لروبرت بولت ومسرحيات وكتابات صمويل بكت، وإدراكهم للقضايا العربية والإفريقية مثل قضية نيجيريا وقتل الساردونا أحمدو بللو ( 1910 م – 1966 م ) لمناهضته الاستعمار بعد مقتل أبي بكر تفاوة بليوة، ونشر الدين الإسلامي قبل ان تظهر جماعة بوكو حرام اليوم في كانو بشمال نيجيريا ومن بعدهم نقل وانتشر الإسلام على يد الشيخ عثمان بن فوديو ومن بعده ذيوعه في غرب السودان وأثر التعليم في أفريقيا بعامة والذي تناوله المرحوم المجذوب في إحدى محاضراته الحسنية بالمغرب العربي حرسها الله، وذكر الطيب صالح الأستاذ المرحوم / جمال محمد أحمد ‭{‬ (1915- 1986)، أديب ومؤرخ ودبلوماسي سوداني، يُعد أول من حلل المكونات الثقافية السودانية، وأول سفير للسودان في كلًا من العراق، لبنان، سوريا، الأردن، ‭}‬ وهو من السفرة المثقفين ثقافة عالية وكذلك الصف الأول من كلية غردون التذكارية – جامعة الخرطوم فيما بعد 1902 م – التي أعقبت الاستعمار البريطاني على بلاد السودان ومنحهم فرصاً أكبر للتعليم في نظام ما يسمى بالسودنة أوSudanization ، كل ذلك وأكثر أسهم في صفوية النخبة المثقفة من السودانيين لتأثرهم بالثقافة والحضارة الإنجليزية كما تأثر الشعب المصري بها والفرنسية أغلب الظن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق