سياسة

سفينة بَوْح

لا مُجاملة ولا خوف ولا انكسار!

هيثم الفضل

ارتضينا أن تحكُم الظروف العامة والاستثنائية الكثير من آمالنا وتطلُعاتنا لما يمكن أن يحدث من تغيير بعد الثورة ، تارةً تحت ستار مصطلح (الوضع المُتأزِّم) ، وتارةً تحت ستار مصطلح (لابُد من ما ليس منه بُد) ، وأخرى تعاملاً مع مبدأ (التأقلُم مع الواقع الذي لا فكاك منه) ، كل تلك الذرائع هي محاور أساسية  للكثير من الإحباطات التي أصابت شارع ما بعد الثورة ، وغالباً ما يتم التعامل معها نفسياً ومادياً فقط لأجل عيون الديموقراطية ولأجل آمالٍ لا تنقطع في أن تنعم البلاد ويتمتَّع العباد بحُكمٍ عادلٍ ورشيد يستوعب كل اختلافاتنا وتبايُّناتنا الثرية ، فالإمكانيات بعد ثلاثون عاماً من حُكم عصابة الإنقاذ البائدة لا يتغالط إثنان في كونها ضئيلة ومُنعدمة على كل المستويات بما فيها الاقتصادية واللوجستية والإدارية والتنظيمية والقانونية ، غير أن بعض أحلامنا في التغيير لما بعد ثورة ديسمبر المجيدة ، لا يحتاج تطبيقها ومثولها في واقعنا المُعاش إلى إمكانيات ولا قدرات ، ولا يستطيع فلول النظام البائد ولا حتى الدولة العميقة أن يعيقوا مثولها ، تلك الأماني هي باختصار كل ما يمكن أن تحتضنهُ وترعاهُ حكومة الثورة من قيَّم ومبادي ديموقراطية تأتي في مقدمتها حماية حقوق الإنسان وبسط حرية الرأي والتعبير ، خصوصاً في أجهزتنا الإعلامية الإستراتيجية كالتلفزيون القومي وإذاعة أم درمان الرسمية ، فحُرية الرأي والتعبير لا يحتاج بسطها وإتاحتها في أحضان نظام ديموقراطي ما زال يتلَّمس طريقه في سُتَر الظلام ، إلى إمكانيات ولا دفاعات ولا ترتيبات بقدر ما تحتاج إلى الإيمان العميق بها كمبدأ ، وإرادة وعزيمة لا تقبلان الانكسار أمام الضغوط والمُغريات.

على مدى عامان ظللنا ندافع  ونزودُ عن سياسات حكمنا الانتقالي ، بلا تردُّد رغم تحفظاتنا على الكثير من هذه السياسات ، والسبب دائماً هو النظر بعين الاعتبار (لسوداوية) كل السيناريوهات التي يمكن أن تكون بديلاً لما يحدث الآن ، وأيضاً يظل الأمل يحدونا على الدوام في أن تُصلح العثرات الخُطى ، ويبدأ نبضُ الحياة في بث بُشاراته لأجل أرضنا الطيبة وإنسانها الشامخ الذي يستحق كل الخير ، لكن أن يصل بنا  وفي عهد التضحيات التي قدمها هذا الشعب الجسور من أجل الكرامة والحرية أن يتم إيقاف حلقة برامجية بتلفزيون السودان القومي لأن متحدثوها تطرَّقوا إلى الاحتجاجات التي عمت المدن السودانية بعد إعلان رفع الدعم الأخير عن الوقود ، وعبر مُهاتفة المخرج الذي قام بدوره بإبلاغ مقدم البرنامج عبر ورقة ، أمرتهُ بقطع الحلقة قبل وقتها المُحدَّد ، فذلك ما لن ندافع عنهُ ولا نتغاضى عن فضحهُ ، باعتباره رِدة لا تقبل الشك عن المنهج المقدَّس الذي بُذلت من أجله الأرواح وسالت دونه الدماء ، وتفجَّر من أجله ينبوع النضال الذي لم ينضب معينهُ حتى يومنا هذا.

من أين تأتي مثل هذه الأفكار المُجهضة للمباديء والقيَم الديموقراطية ؟ ، وكيف لا ينظر إليها المسئولون على أعلى قمة الهرم السياسي على أنها أفتك (سلاح) يمكن أن تُحارب بها الثورة ؟ ، ولعمري فإن كل ما يقوم به فلول النظام البائد من مُحاربات للثورة على النطاق الاقتصادي والسياسي والأمني والاجتماعي (أهون) بكثير من أن تُحارب الثورة في مبادئها وقيَّمها الأخلاقية التي لا يستوي رفعها كشعارات دون وجودها الفعلي في الواقع المُعاش ، والأنكى أن يكون ذلك بأيدي قياداتها ونافذيها ، فحرية التعبير وحق الإعلام والجماهير في انتقاد الحكومة ومعارضتها في سياساتها وقراراتها حق ٌ يكفلهُ الدستور والقانون ولا وصاية على أحد في فكرهِ ورأيه ورؤيتهُ ، وإن كان يعمل عبر منبر إعلامي تابع للدولة ، فتلفزيون السودان له الحق في وضع كل اللوائح والشروط والمحاذير التي تحكم (شكليات) العمل فيه ، أما مضامين الأفكار وطبيعتها وفحواها تظل مُنتمية لمبدأ الملكية الفكرية لمُعد البرنامج وصاحب فكرته ، خصوصاً إذا كان مبدأهُ الذي ينطلق منه هو (المهنية – الحقيقة – المصادر الموثوقة –  واللا مُجاملة ولا خوف ولا انكسار).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق