سياسة

هل ثمة مخرج من هذا النفق؟

الفاضل عباس محمد علي

  نحن في حالة ثورة منذ نيف وعامين، لكن مع وقف التنفيذ والركود stagnation في الغالب الأعم، إما بتخطيط وتأمر من الجهات المعادية – أي الفلول والمكون العسكري وبعض أصدقائه المكتسبين من قوي الحرية والتغيير، أو بالتسلسل العفوي العشوائي للأحداث حسب الظروف وتوازن القوي الموجود. ولقد مرت بنا سيناريوهات من هذا القبيل عقب ثورتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985 – عندما نصّبنا حكومات انتقالية حرصت على السير تحت ظل الحائط، وعلى تأجيل كل شيء لما بعد الانتخابات. وقد ترأس حكومة أكتوبر (أفندي) تكنوقراطي بلا أي انتماء سياسي، هو الراحل سر الختم الخليفة الحسن، الذي انهار أمام التهديدات sabre rattling (مظاهر عنف البادية، أي الأنصار الذين أحضروا من الجزيرة أبا ودارفور لإرهاب جلابة العاصمة)، وأمام ابتزاز القوي الرجعية ممثلة آنئذ في حزب الأمه وتابعه الإخوان المسلمين، بموافقة حزب الوسط – الوطني الاتحادي، وقام بعملية (تصفير) طرد بموجبها وزراء جبهة الهيئات الثمانية، وممثلي المزارعين والعمال بالحكومة، المرحوم الرفيق الأمين محمد الأمين والشهيد الرفيق الشفيع أحمد الشيخ، وجاء في مقاعدهم بممثلي الأحزاب المذكورة، لننتهي بديمقراطية معطوبة، كان لا مفر من أن يعقبها انقلاب عسكري آخر في مايو 1969.

وحدث نفس الشيء على إثر انتفاضة أبريل 1985 التي جاءت بالدكتور الجزولي دفع الله رئيساً للوزراء، فيما ظن الثوار أنه خطوة متقدمة على سلفه رئيس حكومة أكتوبر غير المنتمي، إذ كان الجزولي بالمعتقل حينما اندلعت الانتفاضة، وكان رئيساً لنقابة الأطباء المنافحة للنظام المايوي في أواخر أيامه. وإذا بالجزولي يطلع كوزاً مندساً وضع يده في يد سوار الدهب رئيس المجلس العسكري الانتقالي المتماهي مع الإخوان المسلمين، والفريق تاج الدين عضو تنطيم الإخوان، وعمل هذا الحلف اليميني على فرملة ثورة إبريل وتكسير مجاديفها، وعلى التلاعب gerrymandering في الانتخابات مما تسبب في فوز الإخوان بأكثر من خمسين مقعداً في الجمعية اتلتأسيسية، وهم حزب أقلية طلابية لا تتعدي عضويته بضع مئات من أنصاف المتعلمين.

ومرة أخري يشرع الإخوان المسلمون في التآمر والبلبلة وخلط الأوراق وعرقلة مسار الثورة وإرباك المشهد السياسي برمته حتى يسهل الانقضاض على السلطة للمرة الثانية خلال اربعين سنة، خاصة وأن كوادرهم ما زالت متمكنة من جهاز الدولة، وبالذات في قطاع الشرطة والأمن والجيش، ومهيمنة على السوق وممسكة بعصب الاقتصاد ومتحكمة في معاش الناس. وبلا أدني شك تناهي المدد للإخوان aerial refueling من تلقاء اتفاقية جوبا الكارثية التي جاءتنا بإخوان مسلمين كاملي الدسم، مثل جبريل ابراهيم وجماعته ومني مناوي المشايع لهم. وما كاد جبريل هذا يستوي على مقعد المالية حتى كشف عن كل نواياه العدوانية ضد جلابة العاصمة وضد ثورتهم العملاقة التي أطاحت بأعتى نظام إسلاموي في الشرق الأوسط منذ الخلافة العباسية.

وللمزيد من تشخيص الحالة الجبريلية فإنني أحيل القارئ الكريم لأخر مقال خطه قبل يومين صديقي فتحي الضو عن هذه الظاهرة.

وبالطبع نحن لا نشخصن القضايا ولا نتوقف عند الأفراد. ولكن من المؤكد أن أعداءنا سدنة النظام البائد موجودون ومتحركون ومنهمكون في تشبيك التحالفات، ولا يفوت على فطنة المراقب أن فلول النظام البائد قد سرت في عروقهم روح جديدة منذ مجيء الشراذم المسلحة الدارفورية، تماماً كما حدث من عنف البادية في أعقاب ثورة أكتوبر؛ ومن الواضح أن بلادنا تسير بخطي حثيثة نحو القاع الاستبدادي الرجعي مرة أخري. وفي الواقع فإن مجرد المواقف السلبية المشبعة بالجرجرة والتحايل على مطلوبات الثورة: مثل العدالة الانتقالية والمجلس التشريعي وتنظيف جهاز الدولة والإسراع برد المظالم واسترداد الثروات المنهوبة – هي غاية المني بالنسبة للفلول وأصدقائهم القادمين عبر بوابة جوبا. إنها نفس عقلية الصهينة و(الدغالة) والحران وال procrastination التى عانت منها حكومتا أفندية أكتوبر وأبريل حتى قضي الله أمراً كان مفعولاً. وهذا ما يسميه الشارع (السواقه بالخلا).

وبينما يعاني شعبنا الأمرّين من شظف العيش، بل المجاعة، والأسعار المنفلتة والشح في المواد التموينية وانقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة، في خضم الحر القائظ وداء الكرونة الذي استوطن بلادنا، ينهمك القادة السياسيون في جدل سفسطائي: هل المخرج في وصفة البنك الدولي وصندوق النقد العالمي، أم في الاعتماد على الذات والبحث عن البدائل المحلية. وفي رأيي الذي عبرت عنه في المؤتمر الصحفي بدار الحزب الشيوعي قبل بضعة أيام هو لا هذا ولا ذاك. فالبنك الدولي وصندوق النقد ليسا دواءاً مراً لا بد من تناوله، وما عاد ميزان القوي الاقتصادي الدولي كما كان قبل هذا القرن الحادي والعشرين، فقد عفا عليهما الزمن وتخطتهما كثير من الدول الجادة الساعية للخروج من مربع الفقر وللولوج في التنمية المستدامة والحوكمة الراشدة والتقدم الاقتصادي والتحول الاجتماعي. وفي حقيقة الأمر لا مفر من التعاون مع الدول المتقدمة، ولكن ليس بالضرورة رأس رمح الإمبريالية التقليدية – الولايات المتحدة ومؤسساتها المالية. فهناك قوي أخري ظهرت خلال العشرين سنة المنصرمة تسمي دول البريكس BRICS وهي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب افريقيا، ولقد أضيفت لها مؤخراً اندونيسيا. ولقد ساهمت هذه الدول في استنقاذ العديد من الدول الصديقة المتعسرة، بشروط أفضل من شروط البنك الدولي، وعلى سبيل المثال، طلبت نيجريا قرضاً بخمسة ملايين دولار من البنك الدولي لبناء خط للسكة حديد، فوضع البنك شروطاً تعجيزية عديدة منها الاقتصادي والسياسي وما يعتبر تدخلاً في شؤون الدولة. فذهبت نيجريا للصين التي منحتها تسعة ملايين دولار قرضاً يكاد يكون حسنا بشروط سهلة ومتساهلة وإنسانية.

ولقد فعلها جمال عبد الناصر قبل ذلك بعشرات السنين، عام 1958، عندما طلب من البنك الًدولي تمويل السد العالي، ولما بالغ البنك في شروطه، ركلهم وفضحهم أمام الجماهير، سارداً لشعبه تفاصيل المفاوضات التي تمت مع البنك الدولي وما احتوت عليه من محاولات لتركيع بلاده وجرها من انفها، كما حدث في عهد الخديوي اسماعيل باشا الذي حفر قناة السويس وانتهي به الأمر إلى تسليمها وتسليم بلاده للاحتلال البريطاني والفرنسي. ولما سمع الاتحاد السوفيتي بموقف عبد الناصر التحرري البطولي، سعي إليه بنفسه وعرض عليه بناء السد بشبكته الكهربائية التي ما زالت مصر تنعم بها حتى اليوم، بشروط سهلة ومتساهلة، ولقد خرجت مصر ليس فقط بذلك السد، إنما برخاء اقتصادي وتحول اجتماعي استمر حتى نكسة يونيو 1967 التي كانت عبارة عن انتقام لاحق من محاولات مصر التمتع باستقلالها، ورفضها الانصياع للإمبريالية الغربية.

وهنالك العديد من الدول في عالم اليوم التي رفضت الاستسلام لشروط البنك الدولي واختطت لنفسها طريقاً مستقلاً، مثل كرواتيا ورواندا، ومثل إثيوبيا التي شيدت سد النهضة وسدود أخري وعبدت الطريق البري لجبوتي وبنت خطوط السكة حديد الحديثة بالتعاون مع الصين ومثيلاتها. هذا ولقد تكفلت السعودية بحل جميع مشاكل لبنان المالية مع المؤسسات الأمريكية. وكنا نظن أن السعودية والإمارات دول صديقة وحافظة للجميل، وكنا نتوقع أن تقفا مع السودان مثلما وقفتا مع مصر بعد الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين في يونيو 2013، حينما قدمتا لمصر ودائع وإعانات نقدية وعينية وبترولية بعشرات مليارات الدولارات. ولكنهما في حالة السودان استمسكا بالمراقبة عن بعد؛ وربما الحق معهما، فلا زالت دولتنا وكراً للإخوان المسلمين، وها هم قد زادوا استنصاراً بالجندرمة المسلحة القادمة من الأتون الليبية حيث كانت تلعب دور الميرسيناريز (البندقية المأجورة) لصالح الإخوان المسلمين الليبيين ومن خلفهم الأتراك والقطريين وتنظيم الإخوان المسلمين العالمي.

إننا الآن في محنة اقتصادية شائكة، وفي أزمة سياسية تحيط بنا من جميع أقطارنا؛ فما عادت الحاضنة السياسية – قحت – بالتماسك الذي قادت به ثورة ديسمبر حتى سقوط النظام في أبريل 2019، إذ غادرها أهم مكون وهو الحزب الشيوعي، وخلي الجو فيها لأحزاب أقلية يتحكم فيها حزب الأمة، ثم جاءت جماعات (السلام) فرجحت كفة القوي الرجعية في المعادلة الحاكمة التي تتألف من قحت والمكون العسكري بما فيه مليشيا الدعم السريع. وأصبحت المعادلة مختلة تماماً ولا تمثل ثورة ديسمبر بأي حال من الأحوال. ولو تمخضت المعادلة الراهنة عن مجلس تشريعي يطالب به الشارع، فسوف يكون مجلساً رجعياً مملوكاً للمكون العسكري والدعم السريع والمليشيات الجديدة. وهذه كارثة كبري. ولذلك، لا بد من استعادة التوازن الذي يمثل الشارع الثائر، ولا سبيل إلا بالاستعانة بالشارع نفسه (فالشوارع لا تخون). ولكن أعداء الثورة من المكر بمكان، فهم سيندسون وسط الجماهير ويتظاهرون بالتماهي مع شعارات الثورة، حتى يتمكنوا من إفشال الحراك، بجره للعنف والتفلت الفوضوي والاعتداء على المواطنين وممتلكاتهم. وفي العاصمة جيوش جرارة من المليشيات التي يمكنها أن تتمنطق بالزي المدني وتعيث فساداً في الشارع. ما الحل إذن؟

لا بد أن تلتئم القوي التي فجرت الثورة: تجمع المهنيين والشيوعيين والاشتراكيين وكافة القوي الموجودة في باطن لجان المقاومة، ممن ليس بهم شبهة الانتماء للنظام البائد، ولا بد من مؤتمر جامع لهذه القوي ليعمل على تصحيح مسار الثورة عبر:

• إلغاء اتفاقية جوبا.

• الدعوة لمؤتمر سلام داخل البلاد.

• إلغاء كل التعديلات التي طرأت علي الوثيقة الدستورية.

• تشكيل حكومة جديدة اكثر تعبيراً عن ثورة ديسمبر.

• تقليص مجلس السيادة لرئيس مدني وثلاثة أعضاء رابعهم عسكري بالمعاش.

• تشكيل مجلس اقتصادي من عشر شخصيات كمستشارين دائمين لوزير المالية الجديد.            

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق