ثقافة وفن

متعة الحياة البسيطة … هل البساطة ممكنة اليوم؟

زهراء طاهر

تُرى لو لم يكن تولستوي نبيلاً ثرياً من عائلة أرستقراطية، هل كان بوسعه أن يترك حياته الزاخرة بشتى صنوف الفحش والثراء والإسراف ليعيش حياة أكثر بساطة وزهداً؟ لا أريد هنا الخوض في نزاعاته النفسية التي أفضت إلى ما أصبح عليه فيما بعد، ولكن السؤال الأهم بالنسبة لي هو ما الذي يجعل الحياة البسيطة التي تبناها فيما بعد ممكنة؟ أم ينبغي أن نعرِّف أولاً ما هي الحياة البسيطة؟

هل يجب أن تكون الحياة البسيطة مقترنة بالطبيعة بالضرورة؟

يتساءل جان جاك روسو في “أصل التفاوت بين البشر” قائلاً: “كيف يتوصل الإنسان إلى مشاهدة نفسه كما كان يوم بَرَته الطبيعة، رغم جميع التغييرات التي أحدثها في أصل تكونه تعاقبُ الأزمان والأشياء؟” لنا أن نتخيل أن “حالة الطبيعة” التي تحدث عنها روسو أسست لظهور الكثير من الدعوات إلى العودة إلى الطبيعة والعيش فيها من قبل أدباء الحركة الرومانتيكية الذين كانوا يجدون أن براءة الإنسان الأصلية وحالته الأولى التي خُلق عليها في الطبيعة قد بدأت تتلاشى بفعل التطورات السريعة للثورة الصناعية. ولكن صعوبة الأمر تكمن في أن مجتمع الطبقات الجديدة الذي نشأ مع التحول الصناعي جعل أمرًا مماثلاً عصيًّا على الطبقات الكادحة التي تجد نفسها مرغمة على ترك الزراعة وحياة الريف والاتجاه إلى العمل في المصانع، إلى جانب طبقة البرجوازيين التي كانت تتزايد أرباحها ومنافعها من الوضع الاقتصادي الجديد، مَن إذن يمكن أن يستجيب لمثل تلك الدعوات؟ الألاستقراطية التي لا تحترف المهن والتي تذهب بإرادتها واختيارها للتنعم بجمال الطبيعة وهدوئها، وهنا لو شاء أحدهم أن ينعم بحياة بسيطة ستكون حياته خيارًا من بين خيارات كثيرة متاحة.

ألم يكن البشر أكثر قرباً من الطبيعة فيما مضى؟ إن انفكاك حياة الإنسان وابتعاده التدريجي عن الطبيعة والاتصال بها والعيش في كنفها مرتبط بطبيعته الإنسانية بالدرجة الأولى، وهي الطبيعة التي تجعله ينزع إلى خلق نوع من أنواع الاجتماع الذي بالإمكان أن يعيش في كنفه ضمن حدود معقولة من الاستقرار والأمان.

إن الصعوبة الكامنة في العودة إلى حياة بسيطة أكثر ارتباطاً بالطبيعة تكمن في الطبيعة البشرية نفسها كما يرى توماس هوبز وغيره من المفكرين الذين تبنوافكرة العقد الاجتماعي (بمن فيهم روسو أعلاه) فالإنسان في الحالة الطبيعية يرتكز إلى نفسه وما يمتلكه ليحافظ على بقائه وهو بذلك قد يبذل أي شيء ويتخذ أي وسيلة لأجل تحقيق هذا الأمر، وفي ظل هذا الشعور بالأحقية الذاتية تنشب الصراعات بين البشر فيما يطلق عليه هوبز مصطلح “حرب الجميع مع الجميع”، وفي هذه الحالة تبرز أهمية أن يتوحد البشر تحت قانون أو “عقد” يكون الاتفاق فيه ضمنياً على اتباع مجموعة من التشريعات أو القوانين حتى تتحول حياة البشر من البداءة إلى شكل أكثر مدنية وتنظيماً، يقول هوبز :

    علينا اعتبار أن السعادة المتعلقة بالعيش معاً في هذه الحياة لا تكمن في راحة البال. فإنه لا وجود لشيءٍ مثل الغاية القصوى ولا مثل الخير الأكبر على النحو الذي يرد في كتب فلاسفة الأخلاق الأقدمين. كما أن إنساناً انتهت رغباته لا يمكنه أن يعيش، تماماً كالذي توقف خياله وحواسه. إن السعادة هي انتقال مستمر للرغبة من موضوع إلى آخر، حيث لا يكون بلوغ الموضوع الأول سوى طريقاً نحو الثاني… بالتالي فإن أفعال كل البشر الإرادية وميولهم لا تتجه فقط نحو امتلاك الحياة السعيدة، بل كذلك نحو ضمانها.

إذن كما يرى هوبز ليس بإمكان البشر أن يعيشوا بمنأى عن الصراع، أو على الأقل يكونون مستعدين دائمًا له حتى يضمنوا ما يمتلكونه بأيديهم من أسباب البقاء وسبل العيش. وحتى يتمكن البشر من التخلص من هذا الوضع الذي يجعلهم تحت تهديد القتل والفوضى بسبب الاستعداد الذي لديهم للحفاظ على حقهم الطبيعي، ينبغي أن يتم الاتفاق على شكل من السلطة التي يترتب على الانقياد تحت لوائها أن يتخلى الناس عن حقهم الطبيعي ذلك، حتى يضمنو لأنفسهم الأمان والاستقرار، وهذا الاتفاق كما يراه هوبز ضمني يتفق عليه جميع أفراد المجموعة الواحدة. وهنا ينتقل الإنسان كما يرى روسو: “إلى الحرية الأدبية التي تجعل، وحدَها، الإنسان سيد نفسه بالحقيقة، وذلك لأن صولة الشهوة وحدها هي العبودية ولأن إطاعة القانون الذي نُلزم به نفسنا هي الحرية” (العقد الاجتماعي)، كيف يؤثر هذا الأمر في سعي الإنسان إلى حياة بسيطة؟ ولنكن أكثر تحديداً إنسان القرن الحادي والعشرين.

في عالمنا اليوم الذي يتيح لنا رؤية كل شيء من شاشة صغيرة مضيئة، تبدو بعض الصور المتداولة هنا وهناك لكوخ صغير في بقعة نائية تحيط به طبيعة غنّاءة بعيداً عن ضجيج العالم كما لو أنها التجسيد الأمثل للحياة البسيطة. بالنسبة لنا نحن الذين نعيش في القرن الحادي والعشرين وفي عصر التكنولوجيا الرقمية والنظام الرأسمالي والنزعات الاستهلاكية فإن ما يعتبر الشكل الأبسط للحياة هو الابتعاد عن أية مظاهر ترتبط بهذه الأنظمة المستحدثة، وأن خيار الرجوع إلى الطبيعة حيث كان الإنسان أول الأمر هو عودة إلى البساطة القديمة المفقودة. ولكن كيف يعرف هذا الإنسان المولود في عصر التطور الصناعي والتكنولوجي المتسارع ما الذي تشتمل عليه الحياة البسيطة؟

منذ أيام دار أمامي حديث بين شخصين من ميسوري الحال الذين بإمكانهم اقتناء مزرعة بعيدة عن الضوضاء بسبب توفر المال الكافي لديهم، كانت تصوراتهم عن شكل الحياة البسيطة لا تختلف كثيراً عن الشائع، منزل معزول وبضع دجاجات وبستان شجر وساقية ماء، خطر لي حينها، لو لم يكن هؤلاء يمتلكون المال هل كان بوسعهم أن يحققوا هذا الشكل من الحياة الذي ينعتونه بالبسيط؟ لو قُدّر لنا أن نسأل فلاحاً يعيش في مزرعة يربي بعض الحيوانات التي تمنحه احتياجه من الغذاء ويعتاش على ما تمنحه الأرض من محصولات، ويشرب من مياه النهر غير المصفاة، لو قدر لنا أن نسأله عن حياته هل سيقول أن حياته بسيطة؟ مع أنها لو قيست بالصورة النمطية الشائعة لبدا أن حياته تطابق معايير البساطة تلك، ولكن هذا الفلاح نفسه قد يخبرك عن مشكلات الحصاد والمناخ وشحة المياه أو صعوبة الحصول على الدواء عند المرض وقد لا ينتهي من تعداد مشكلاته، فهو لم يختر هذا النمط من الحياة الذي يبدو حلماً وردياً لدى الكثيرين، بل إن حياته هذه ببساطتها الظاهرية أمرٌ مفروض عليه.  وهو ما يؤدي بنا إلى سؤال آخر هل الحياة التي تُدعى “بسيطة” هي خيارٌ متاح لي أستطيع اللجوء إليه متى ما أردت، كيف يمكن الفصل بين ما أصبح عليه عالمنا اليوم وبين أي شكل مختلف من الحياة نطمح إليه؟ وما الذي يجعل أي حياة يختارها الفرد “بسيطة”؟ هل هو مظهر واحدٌ يتفق عليه الجميع أم أنه نسبي يطلقه كل شخص على ما يراه الشكل الأمثل؟

إن الحياة البسيطة التي ينشدها البعض في عالم الدول ذات الأنظمة الرأسمالية وفي ظل حياةٍ تسيّرها التكنولوجيا بشكل كبير يكاد يبتلع كل شيء، قد لا تتحصل إلا بمساعدة هذه الأنظمة الرأسمالية والتكنولوجية نفسها، وهذه هي المفارقة في الأمر كما يبدو! هل يستطيع أي فردٍ اليوم أن يختار الانعزال في أي بقعة على وجه الأرض دون تدخل من أي نظام اقتصادي أو اجتماعي؟ كان الإنسان في وقت قديمٍ جدًا يحمل متاعه على ظهر دابته ويسافر في أرض الله وينتقل هنا وهناك، ولكن هذه الإمكانية المغرقة في القدم غير متوفرة في يومنا هذا.

لا يقتصر الأمر على كون حياتنا المعاصرة مادية أو لنقل قائمة على أسس مادية واستهلاكية بل إن طبيعة هذه الحياة التي تحولت إلى تعقيدٍ بالغ جعلت الرجوع إلى الوراء إلى أشكال أكثر بساطة للحياة أمراً صعباً ومعقداً، يصعب على الإنسان الذي استأنس بالراحة التي توفرها له الأدوات والوسائل الحديثة أن يفهم كيف بالإمكان العيش على موارد محدودة أو ضرورية، لعله يمتدحها أو يعجب بها عندما يرى أمثلة لها بعيدة ولكنه لا يستطيع الامتثال إلى متطلباتها إن كان عليه ذلك، كثيرون ربما سيعجبون بنمط الحياة البسيط الذي اتخذه سقراط لنفسه، ولكن قليلين الذين يستطيعون تبني ذلك الشكل من الحياة!

هل البساطة مفهوم ذاتي؟

لا بد إذن أن ننظر إلى الحياة البسيطة على أنها مفهوم يحدده كل شخص بما يتفق وقناعاته وتصوراته. أو ربما لا تعني البساطة هنا إلا شكلاً من أشكال القناعة والرضا بحالة معينة أيًّا تكن هذه الحالة، بشرط أن تكون نابعة من إدراك الإنسان وتجربته الفردية. وإن عدنا إلى تولستوي مرة أخرى ولكن هذه المرة مع شخصية بارزة من روايته الشهيرة “آنا كارنين”، وأعني هنا شخصية قسطنطين ليفين الذي يشبه إلى حدٍ كبير تولستوي نفسه. يشكل ليفين حالة مميزة فهو شخص يقف في منطقة ما بين عالمين محاولاً أن يجد ما يساعده في الحياة دون أن يخسر نفسه. لا يتمتع ليفين بمهارات اجتماعية خارقة ولكنه صاحب رؤيا مستقلة حول ما يجري حوله، لا يتبنى أية أفكار عابرة بل يفضل أن يشكل أفكاره بنفسه حتى وإن كانت غريبة ومختلفة وحتى إن جعلت منه شخصاً لا يحظى بالقبول في أوساط معينة. وقد كان بجانب كونه أحد ملاك الأراضي يهتم بالعمل في أرضه بنفسه إلى جانب عماله وهو ما أكسبه إدراكاً مختلفاً للكثير من المسائل التي كانت تشغل فكره. إلا أنه كان يعاني من وطأة التساؤلات الوجودية عليه التي عمل جاهداً على إيجاد إجابات عنها في كتب الفلسفة واللاهوت بعدما وجد أن التفسيرات المادية لا ترضيه.

يتحدث تولستوي عن الصراع الداخلي لدى ليفين: “عندما كان يحاول قديماً… أن يتصرف تصرفاً ينفع به الناس جميعاً، والإنسانية، وروسيا وقريته لاحظ أن هذا النمط من التفكير سائغٌ جداً لكن النشاط الذي ينبع منه يظل غير مرضٍ: كان ينقصه اليقين بأنه يقوم بعمل ضروري وكان نشاطه الذي بدا له في البداية شديد الاتساع يضيق شيئاً فشيئاً ويتلاشى، وحين أخذ الآن، منذ زواجه، يقتصر على أن يعيش لنفسه، كان على يقين من أنه يقوم بعمل ضروري يعطي نتائج مرضية أكثر فأكثر، عمل يتسع يوماً بعد يوم، هذا مع أنه لم يكن يشعر بأي حبور عند التفكير بنشاطه.” وما نعرفه في نهاية الرواية أن شخصية ليفين تترك وراءها جميع تلك التصورات المادية والتساؤلات الوجودية والفكرية الكبيرة ليدرك أنه كان يعيش “عيشة حسنة” ولكن تفكيره رديء وبذلك يتوصل إلى الرضا والإيمان الذي تمنحه “المُتع” البسيطة في الحياة من الاهتمام بالعمل ودفئ العائلة “سأظل أغضبُ على الحوذي إيفان وأناقش وأعربُ عن أفكاري في غير أوانها، سيظل هناك جدار بين أقدس أقداس نفسي ونفوس الآخرين، حتى نفس امرأتي… لكن حياتي بأسرها منذ الآن، كل لحظة من حياتي، بغض النظر عما سيقع لي، سيكون لها معنى، سيكون لها طابع  بوسعي أن أسبغه عليها: ألا وهو طابع الخير.” 

في النهاية قد تبدو الحياة البسيطة هدفاً أساسياً يدعي الكثيرون السعي وراءه أو رغبتهم ببلوغه إلا إنه قد يتكشف للإنسان في لحظة استبصار أنه في بادئ الأمر يترك هذا الشكل من الحياة وراءه عندما يسعى إلى أمور قد تكون أكبر وأثقل عبئاً على نفسه، وفقط عندما يتحرر من هذه الأعباء يدرك أنه لا يصل إلى الحياة البسيطة بل يعود إليها وأن السعادة قد تكون نتيجة لمثل هذا الإدراك وقد لا تكون ويحل محلها قناعة وغبطة ورضا على نحو ما، سواء عاش هذا الإنسان في كنف الطبيعة أو وسط ألوف من الناس.

جاء في العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي: “قال زياد لأصحابه: مَن أغبطُ الناس عيشاً؟ قالوا: الأمير وأصحابه! قال: كلا، إن لأعواد المنبر لهَيْبةً، ولقرعِ لجامِ البريدِ لفَزعَةً؛ ولكن أغبطَ الناس عيشاً رجل له دارٌ يجري عليه كراؤُها، وزوجة قد وافَقَتهُ في كفافٍ من عيشه، لا يعرفنا ولا نعرفه؛ فإن عرفنا وعرفناهُ أفسَدْنَا عليهِ آخرته ودنياه”.

(٭ عن المحطة)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق