سلايدر

معمار الرواية وبناؤها (الجزء الثالث)

مع الأديب عماد البليك

د. محمد بدوي مصطفى

< ماذا تقول لمن يريد أن يكتب رواية وما هي ألفباء العمل الأدبي في صنع الرواية، القصة القصيرة أو أي عمل ابداعي؟

> النصيحة الأساسية هي القراءة النقدية والمتأملة، وتعلم أصول الفن الأدبي المعين، فالموهبة وحدها لا تكفي لتصنع كاتبا بل يجب صقلها عبر الاتجاه للتدرب المستمر على الكتابة وبناء الخبرة، فأي عمل أدبي لا ينتج إلا عن صبر واجتهاد مستمر، ويجب عدم الاستعجال في النتائج، إذ على من اختار طريق الإبداع أن يتعلم الحذف والمراجعة الذاتية كما يبني ويضيف من جانب آخر. إذن نحن نتكلم عن رغبة أو استعداد نفسي ومن ثم إرادة فدأب مستمر على التطوير  والاستمرارية والنقد المستمر للتجربة، هذا ما يصنع منك كاتبا.

< ماذا تعني بمصطلح “طور المشيمة” الذي ورد في إحدى كتبك العلمية (الرواية العربية: رحلة بحث عن المعنى) والذي صار منهجًا يدرس في كلية الآداب بإحدى الجامعة في دولة الجزائر؟ وهل يمكن أن يخص ولادة العمل الأدبي كتجربة شخصية، أم ينطبق على السياق الواسع لعملية صناعة الأدب؟

> أي به مرحلة من العملية الإبداعية تكون المحصلة غير واضحة أمامنا، كما يحدث للجنين في بطن أمه قبل أن يخرج للنور، أو كما يحدث للبذرة تحت الأرض. في الكتاب كان يشير إلى مرحلة كانت فيها الرواية العربية تتشكل لتخرج إلى العلن كمولود في العالم العربي، لم يكن له وجود من قبل إذ أنه فن غربي في الأساس. حاولت دراسة تلك التجارب المبكرة التي من خلالها بزغ فجر الرواية عربيا. لكن المفهوم يمكن كما أشرت أن ينطبق على الطبقات أو التشكلات غير المرئية، قبل أن يكون الخروج ورؤية النتيجة، مثلا الكاتب يقوم بعمليات ذهنية وتأملات ورحلة من التجريب سواء على المستوى العقلي المجرد أو على الورق أو الشاشة، قبل أن يكون قد أنتج النص، فأي نص له هذا الطور  “المشيمة”، قبل أن تأتي ولادة هذا النص.

< كيف يمكن أن يصبح الكاتب روائيا ناجحا أو أن يكتب رواية جديرة بالإشادة؟ ما هي النصائح والخبرات التي يمكنكم تقديمها للقارئ؟

> يقال إن خبرة الكتابة أو وصفة العمل الناجح من أصعب الأمور، لا توجد من معادلة معينة تقول بسر النجاح، فهو يأتي بأشكال وصور متعددة، كما أنه وليد مجموعة من التأثيرات والأبعاد الثقافية والاجتماعية وحتى السياسية. يجب أن نفرق بين مفهومي الإشادة بالعمل الأدبي أو القبول الاجتماعي أو الانتشار على مستوى السوق أي التسليع، وبين الجودة الفنية، وهو موضوع جدلي ومعقد، يحيل إلى قضية تعقد العملية الإبداعية في حد ذاتها ومنتجها في علاقته بالمجتمع والرأسمال الخ.. كذلك الأيدولوجيات التي تلقي بظلالها على خطاب الأدب ودوره الإنساني.

غير أنه من ناحية مبدئية يمكن أن نقول بأن الصدق الفني أو التطابق مع الذات في التجربة الأدبية هو أول عناصر النجاح، فالعمل الذي يخرج من المعاناة ليس بمعناها المرتبط بالمعاش كما درج التعريف، بل بالحنق الروحي والتألم المستمر وسؤال المعنى والقلق الوجودي، كل ذلك يعمل على تخريج نصوص صادقة ومعبرة. لكن الصدق يتطلب أيضا شروطا تتمثل في الإلمام بأصول الفن المعين كما أشرت سابقا. كذلك فإن أغلب الأعمال التي تنال جماهيرية هي في واقعها الأولي بسيطة من حيث المنحى العام، لا تميل للتعقيد في التجريب والحبكات والفلسفات، وهذه البساطة ليست سهلة إذ أنها وليد عصارة من الخبرة والتجربة المتراكمة والاشتغال الذكي.

< ما هي الخطوات المعينة أو الألفبائية في كتابة الرواية لمن يريد أن يصبح من الروائيين الناجحين؟ ما هي المهارات المطلوبة، وهل مهارات مثال المهارات اللغوية والموهبة الفنية والخيال هامة في معمار الرواية؟

> يجب أولا: أن تكون هناك علاقة بالكتابة من حيث حب الإنسان لهذا الفن ورغبته في تطويره ذاته فيه.

ثانيا: الكتابة من حيث ذاتها وتسجيل أو تدوين الأفكار وحتى الخواطر والمشاهد اليومية والذكريات والحكايات المعاشة، كل ذلك يمثل بذرة ومادة خام للأعمال الأدبية، يجب أن نكتب كل ما يأتي علينا بغض النظر عن توظيفه في اللحظة المعينة، سوف يأتي عليه دور ما أو سيدخل في سياق نص معين ذات يوم.

ثالثا: مسألة الإلمام بأصول الرواية، تكتسب عبر القراءة المتعمقة والناقدة للروايات، ومن مدارس مختلفة شرقا وغربا في الأدب الروسي والأمريكي والآسيوي والأوروبي والعربي وأمريكا الجنوبية الخ.. كذلك القراءة في التراث أيضا مهمة كألف ليلة وليلة والأشعار كذلك تفيد، أيضا لابد من حصة من المعرفة بالفلسفة والعلوم الإنسانية عامة، كعلم النفس والاجتماع والتاريخ.. كل ذلك ضروري حيث يعمل الكاتب على تخزينه في اللاوعي ليكون له أن يعيد توظيفه بشكل لا إرادي في العمل الأدبي، فالرواية هي بنية معرفية معقدة قبل أن تكون مجرد قصة أو متوالية حكاية.

رابعا: أيضا تكتسب المعرفة بالرواية من خلال القراءة في أصول هذا الفن، من حيث تاريخ الرواية في الغرب ونشأتها وفي العالم العربي، كما في كتابي الذي تمت الإشارة إليه في سؤالك السابق، وهو يعطي ملامح حول نشأة وتطور الرواية العربية. أيضا نقرأ عن كيف يكتب الآخرون، وهناك كتب كثيرة لروائيين سجلوا خبراتهم في الكتابة، مثل ماركيز  في “أن تعيش لتروي”، وأورهان باموق في “الروائي الساذج والحساس” وغيرهما.. وتشمل معرفة أصول الفن الروائي، القراءة المباشرة في كتب تدور حول البناء الروائي من حيث ماهية الرواية، البنية والتقنيات أو التكنيك، الخ..

خامسا: لابد من الإشارة إلى ما ذكرت من أهمية الاهتمام بتطوير الخيال من خلال القراءة المتنوعة، كذلك فتح المخيال الفني بشكل عام، فمعرفة الفنون التشكيلية مثلا أو الموسيقى تساعد في توسيع الخيال. أذكر هنا مثالين، استفادة كونديرا من الموسيقى، حيث عقد مقارنة بين البناء في التأليف الموسيقي والبناء الروائي، المثال الثاني كيف استفاد الكاتب الأمريكي أرنست همنجواي من تشكيل الفنان الفرنسي بول سيزان في الكتابة، يقول إنه عندما رأى لوحاته، تملكته رغبة بأن يكتب كما يرسم ذلك الرجل، وهكذا سار وهناك دراسات حول ذلك الموضوع متاحة في الانترنت واليوتيوب.

سادسا: أيضا لابد من التأكيد على مسألة اللغة، وهنا يجب الحذر بأن نفهم أن قضية اللغة من أعقد الموضوعات، ذلك لأن حمولة النص تقوم في النهاية على هذا الوسيط الذي ننقل عبره المعنى ومن خلاله يتشكل الأسلوب، فإذا كان وسيط الرسم هو اللون، ووسيط الموسيقى هو الصوت، فإن وسيط الرواية أو الأدب هو اللغة، لهذا لا يمكن تخيل مولد كاتب روائي حقيقي من غير  تمكن من اللغة، والتمكن لا يعني اللغة الكلاسيكية التي تنقطع عن العصر، بل اللغة التي لها القدرة على التواصلية وجذب القارئ وتوصيل الأفكار بسهولة، وبهذا فالأسلوب مسألة غاية في الحساسية ولا تأتي إلا عبر تجربة عميقة.

سابعا: بعد هذا تأتي المراحل الإجرائية في الرواية من اختيار الموضوعات أو الأفكار التي تقوم عليها الرواية أو الروايات، إلى المرحلة التخطيطية التي قد تكون ذهنية أو ورقية، كما كان يفعل الروائيون التقليديون، كدوستويفسكي الذي كان يخطط لروايته في مدونات من آلاف الصفحات ليكتب رواية في ثمانمائة صفحة مثلا. أو كما كان يفعل نجيب محفوظ. بيد أن هناك من يكتب بما يعرف بالطريقة الأتوماتيكية كما كان يفعل جورج أورويل صاحب “1984” و”مزرعة الحيوان” الذي يقول بأنه يشعر فقط بحركة القلم دون أن يعرف ما الذي يتنزل على الورق. وهذا موضوع كبير ويحيل إلى قضية صناعة الإبداع، وما هي مصادره؟ وهل هي تنتج من الوعي فقط؟ أم تتداخل مع عوالم اللاوعي وأبعد من ذلك!

< كيف يمكن أن نخطط لرواية وما هي المهارات والخطوات التي يجب اتباعها؟

> التخطيط للرواية كما أوضحت يبدأ بالتقاط الأفكار، وهذا يختلف في طريقته من كاتب لآخر، هناك من يسمع قصة فيتعلق بها، ومن يقرأ خبرا فيجذب انتباهه، أو يرى مشهدا أمامه في الشارع أو يقرأ حكاية تاريخية أو يتوقف عند سيرة شخصية معينة في التاريخ، أو يكون مشغولا بفكرة معينة أو مفهوم معين مثلا مفهوم الحرية يريد أن يضيء هذا المفهوم ويكتشفه من خلال الكتابة. بمعنى أنه ليس من طريقة واحدة ولا نهائية لإنتاج الموضوعات، غير أن التحدي الأساسي في القوالب أو التقنيات التي يتكيف فيها هذا الموضوع، فإذا كان الموضوع يشبه الروح فإن الجسد هو القالب، وهما متكاملان، ليكون الوجه أشبه بالعنوان. هنا أشير إلى أن بعض نظريات الكتابة الروائية تقول بأنه لابد من البداية بالعنوان، كما عند سلمان رشدي الذي يرى بأن العنوان يشكل إطارا للنص، وأنه إذا لم يعثر عليه لا يستطع أن يمضي في الرواية، بحيث تكون مترهلة أو غير واضحة الملمح.

بمعنى عام نظريات الكتابة متعددة لا حصر لها، وهي تجريبية وتوليدية من خلال الممارسة، ويفضل للكاتب المبتدئ أن لا يشغل نفسه بالتجريب كثيرا بأن يمضي إلى ممارسة الفعل نفسه، أي الانشغال بأن يكتب، ومن ثم سيرى أن الخبرات تتولد تلقائيا مع الوقت والتفاعل اللامرئي بين الذات والإنتاج المستمر.

عملية التخطيط أيضا تعني الالتزام والحرص على الكتابة بشكل شبه يومي، لأن الفكرة تموت مع الوقت مثلها كجذوة النار  المتقدة لابد أنها ستنطفئ ذات لحظة، لهذا يجب الإسراع إلى الاستفادة من الحماس اللحظي والرغبة المشتعلة في الكتابة حتى لا تذهب الأفكار وتتلاشى مع الوقت وينطفئ الاتقاد.

< ما هي خلاصة تجربة معماريّ الرواية عماد البليك ونتاج عمله في هذا الحقل منذ البداية وحتى الآن؟

> لا يمكن أن أقو ل لك وأنا أتكلم صادقا مع نفسي في المقام الأول، إلى أن وصلت إلى ما أبحث عنه، فالرواية كأي فن هي عالم محتال ومتغير ومثل ماء النهر لا يمكن القبض عليه، لهذا فإن جماليتها تكون عبر الحرص على الاستمرار والتجريب والعمل بلا توقف، فهي شكل من أشكال العلاقة مع الحياة، بل نوع من أنواع التزكية الروحية والإنسانية، الوصول إلى ما أسميه بالتحرر الذاتي والانعتاق من صور العالم البراني والشكلي، وهذا يحيل إلى أشكال العلاقة مع الفنون ومع الكتابة هنا، لماذا نكتب من الأساس؟ ماذا نريد بالضبط؟ من هذه الوظيفة أو العملية التي نصبح مدمنين لها؟!

الخلاصة هي أن أتعلم أن الوصول إلى المطلق عملية معقدة، كما في التجربة الوجودية حيث لا معنى نهائي ولا خلاصات للأفكار والحقائق، كذا في الفنون وفي الرواية التي هي نسق معرفي كما ذكرت، وهذا يعني انها مرتبطة بالفلسفة والأفكار والتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كل ذلك ينعكس على الفن الروائي.

أنا شخصيا من خلال الاشتغال الروائي، أعمل على فهم العالم، فأنت أثناء كتابة رواية معينة، سوف تجد نفسك تقترح الأسئلة ثم تجيب عليها وتلغيها وتقترح أسئلة أخرى الخ.. فالرواية هي ملحمة عن ديالكتيكنا المستمر مع العالم والحياة، إنها رغبة في الانتصار على القبح واللامعنى، تحقيق النسق وهدمه، بناء متخيلات جديدة الخ.. يصعب ان اختصر كل ذلك. أنها بالنسبة لي  تجربة خاصة مهما عبرت عنها يصعب لي أن أختصرها أو اوضحها بالشكل الكافي، وترتبط بقضيتي ووجودي في هذا العالم، كما اختصرها ماركيز في عنوان كتابه “أن تعيش لتحكي” أو  “ان تعيش لتروي” في ترجمة ثانية للعنوان.. غير أن الموضوع لا يتعلق بالحكاية بل ما وراءها من مخزونات وأسرار، يكون البوح بها صعب أحيانا، ليس قصديا، بل لأن ذلك ما يحدث فعليا، كتجربة إشراقية صعبة التأويل.

< يقول الروائيون والنقاد إن على الفرد اختيار وسرد القصة التي تعتبر حيوية بالنسبة له، فما يكتبه يجب أن يكون شعورا وتعبيرا عن شيء عميق يجوش بدواخله، قبل أن يكون رغبة بحتة في الكتابة، فهل الموضوعات التي تستحق حقيقة أن نكتب عنها هي غالبا من هذا النوع الذي يسمى “الكتابة الضرورية للكاتب”.

> هذا صحيح من ناحية مبدئية وفي البدايات، فالكتابة في باكورتها تأخذ وقودها من شعلة العاطفة، أي المشاعر الجياشة، ربما مسائل نفسية أخرى كالخوف من شيء ما أو عشق أمر ما، أو تجارب وجدانية وغيرها. لكن الكاتب مع الزمن واختمار التجربة سوف يدرك أن عملية الكتابة ليست مجرد انعكاس للذات بل – هي – سوف تخرج عنها مباشرة لتحتوي العالم، أي يصبح موضوع الكتابة متعلقا بالآخرين وتجاربهم والتجارب الإنسانية المختلفة. مع الوقت سيتحرر الكاتب من مجرد التمركز حول العاطفة والتجارب الشخصية المباشرة إلى أن يرى النص بمنظور معرفي وجمالي متآلفين، والمعرفة هنا نعني بها أن الرواية تتحول إلى رؤية عالمة ومفكرة من خلال إدراك يشبه طبيعة الباحث والعالم وليس مجرد روح الفنان فحسب.

< سردت لي في حديث قصة سيدة تريد أن تكتب رواية لكنها تكره القراءة … ماذا تقول من يتبع هذا النهج وتلك السبل؟

> صحيح ذلك، ثمة من يريد أن يصبح كاتبا بأي شكل كان، أن يكسب هذه الصفة، دون أن يتعب على نفسه ويغامر ويقرأ بنهم. البعض يختصر الطريق ويكون غير صادق مع نفسه ويذهب لآخرين لكي يكتبوا لهم، وهذا للأسف موجود، ومن ثم يدبج اسمه على رواية لم يكتبها في الأساس ولا تعبر عنه. لكن الزيف سوف يسقط حتما. في حين أن التجربة الأصيلة سوف تومض حتى لو تأخر الوقت. هناك من يعمل على المغالطة، يظن أن لديه الخبرة الكافية بالعالم، بكل شيء، وأنه سوف يأتي بما لم يستطعه الأوائل وأن ذلك سيحدث بلا أي اجتهاد، لابد أنه سوف يسقط في أول الطريق. لابد من القراءة وكما شرحنا في الحوار الأول، ماذا يعني هذا المفهوم، أن تقرأ.

< وعلى صعيد آخر ما دور الحبكة والربط السينمائي بين شخصيات الرواية؟

> لابد أن أي رواية لها حبكة معينة ونسق محدد من حيث البناء والدرامية وتوالي الحكايات، وتشريح المفاهيم الخ.. وهذا يحدث من خلال وسيط الشخصيات في النص واشتغالهم على البنية الزمنية والمكانية، أي الزمكان. هذا يعني أن ثمة علاقة تبادلية لا نعرف أين تبدأ ومن ثم أين تنتهي؟ إذ تأخذ الطابع الدائري، ما بين الشخصيات داخل الرواية ومسار التشويق الكلي من حيث ما يسمى بالحبكة أو نسيج النص. هنا ستدخل الأدوات مثل التصوير أو المشهدية السينمائية، والوصف للأمكنة أو الشخوص، كذلك المسرحة، استخدام الحوار، أو المونولوج في الحديث مع الذات، تبادل الأدوار في الكلام والتصريح، وغيرها من التقنيات التي تهدف في النهاية إلى خلق الإثارة المطلوبة التي تجعل الرواية نصا غير ممل. طبعا هناك روايات “مملة” – مجازا – ليست لأنها غير ذات جودة فنية بل ربما العكس. هي متميزة، تأخذ تميزها من تجريبها العالي والعارف أو من طبيعتها الجديدة أو من خلال طريقة غير مسبوقة، كما فعل مارسيل بروست في “البحث عن الزمن المفقود” التي شكلت في وقتها نقلة كبيرة في الرواية حيث أدخلت المونولوج الطويل أو  كرست لتيار الوعي أي السارد المتكلم بلا هوادة، الذي ظن الناشرون في البداية أنه أمر يخالف تقاليد الرواية المعروفة وبهذا واجهت الرواية مشاكل في النشر في البداية. هذا يقود إلى أنه ليس كل الأعمال الروائية بالضرورة مشوقة أو سهلة القراءة، فالبعض يأخذ طبيعته من جمالية مختلفة غير مباشرة لا يطيقها عامة القراء.

< يرى الروائي الأمريكي ستيفن كينغ أن يكون الفرد روائيا يتمحور حول إثراء حياة أولئك الذين سيقرؤون العمل الروائي الذي ينتجه الكاتب، ومن ثمّة إثراء حياة من يكتب أيضًا، ولهذا السبب يجب أن يحب الفرد ما يفعله حتى لو كانت عليه ضغوط لإنجازه في وقت محدد. فهل العثور على القصص التي تعبر عن عواطف وهواجس من يريد أن يكتب ستساعده الوصول إلى قلب القراء؟

> نعم أي عمل لا يقوم على الحب لما نفعله سوف يخرج باليا وهشا، ويخلو من العاطفة التي سبق الكلام عنها. فالكتابة حتى لو أصبحت بمرور الزمن حرفة يداوم عليها الكاتب، إلا أنه يجب ألا تتحول إلى وظيفة آلية، هذا التفاعل بين ذات الكاتب والنص مطلوب، ومن خلاله سيكون لاحقا تفاعل القارئ. إذا لم يحب الكاتب عمله ولم يكن له علاقة وجدانية معه، فكيف سوف يحبه القارئ؟ هذا معروف ويقال دائما. لهذا فثمة من يرى كما سيتفن كينغ أن الكاتب يفضل له أن يكتب عما يعرف وما يحب وما يجد فيه نفسه، ليخلق هذه التواصلية العاطفية أو الإشباعية. لكن هناك نظريات مختلفة ترى أن الإشباع والتواصل قد يوجد من خلال وسائل أخرى، هناك تيار يرى بأنه يجب أن نكتب عما نجهل ومرات ما نكره، لكي نكتشف ونغامر، ونهزم الكراهية لنصنع عالما جديدا من الألفة والتسامح. يظل العمل الروائي والأدب عامة يخضع لنظريات وتجارب شخصية، ولا يمكن القول بقيم نهائية وخلاصات تعطي المعادلة أو السر الأزلي إن وجد.

< ما معني أن يبحث الفرد عن تجارب شخصية لاستلهامها وكتابتها وكيف يمكن وضع ذلك في إطار الواقع … ما هي الخطوات وما هي الطريقة المثلى لترجمة هذه التجارب على الورق؟

> يقال بأن أي رواية هي سيرة ذاتية بشكل أو بآخر، هذا ليس دقيقا بالمعنى الحرفي، قد تكون هناك روايات تأخذ من السيرة والتجربة الحياتية، سواء من الأفعال المباشرة أو ما عاشه آخرون كان الكاتب على معرفة بهم أو سمع منهم، فماركيز مثلا كان قد استوحى كثير من أعماله من تاريخ العائلة، كذا فعل الطيب صالح في عكس تجربته في عوالم قرية كرمكول في الشمال السوداني في رواياته. غير أني لكي أحرر المعنى أو الفكرة بشكل أكثر اطلاقا، فالرواية قد تكون ذات منحى سيري ليس من دلالة الوقائع والأحداث والتاريخ المرتبط بالذات، إنما من المسار الفكري للكاتب، فالعمل الروائي هنا سيكون سيرة للأفكار والصراعات الفلسفية داخل ذات المبدع وتساؤلاته الملحة حول هذا العالم وفحوى الحياة والوجود.

يمكن القول بأن التجارب الشخصية المباشرة أو لآخرين نسمع منهم أو نعرفهم، قد تساعدنا في تشكيل إطار رؤيوي للموضوع الذي نتحرك فيه، لكنها لا تصنع النص، فالكتابة عملية معقدة، لا تبدأ إلا من حيث يكون الشروع فعليا في ملامسة الفكر للسطح، تنزيل اللغة المفكر فيها على الورق لتصبح نصا. لهذا فالخطوات المطلوبة هي المضي في الكتابة، أي أن إحساس الكاتب بأن هذه التجربة تستحق أن تكتب، لن يقرر فيه نهائيا إلا فعل التدوين نفسه، وقتها سوف يعرف إن كان سيكون قادرا على الاستمرار أم لا. مرات تكون أمامنا تجارب أو أفكار مضيئة ومشرقة وموحية، وسهلة الإمساك بها كحبكة أو سرد، هكذا يترآى لنا مع الكتابة يسقط كل ذلك، نكتشف أنه وهم. لهذا فالكتابة هي التي تقرر، وهي مسألة كما أشرت غاية التعقيد في كيميائها عسيرة الفهم التي ليس من الهين فك شيفراتها. يمكن هنا أن نتحدث عن علم “فك شيفرات الكتابة”، وهذا موضوع ممتع وعجيب.

< هل لاحظت من قبل أن كثيرا من الروائيين مثل نجيب محفوظ كانوا يعملون في وظائف حكومية أو كانوا أطباء ورجال قانون؟! لم يكن ذلك بمحض الصدفة، فلقد كانوا قادرين على تحقيق الأصالة في رواياتهم وحبكاتهم من خلال خبراتهم الشخصية. فهل من الضروري لمن يريد أن يصبح روائياً أن يسلك نفس النهج أو الطرق؟ وهل عليه أن يتعلم كيف يتقمص شخصيات آخرين؟

> أغلب الروائيين كانوا يعملون في حقول مختلفة، وإن كان ثمة من عمل بالصحافة كماركيز وهمنغواي مثلا. لكن ليست هذه قاعدة. يمكن أن تكون موظفا محاسبا، قانونيا، مهندسا، طبيبا، أي شيء. المهم هو الاستعداد والإرادة والمضي في التجربة. أما بالنسبة للخبرات الشخصية، صحيح أن هناك من يعكس مجاله في موضوعات أعماله أو يُظهِّر ذلك كثيرا، لكن هذا نموذج سيء بظني، فالروائي الناجح له القدرة على التقمص لأدوار إنسانية مختلفة في الحياة، أي قدرة على تحويل كل الوظائف والموضوعات إلى الغاية الإنسانية الكبيرة وهذا لا يأتي إلا من موهبة كبيرة. بهذا فليس ضروريا أن نستند على المعاش والخبرات الشخصية، ثمة طرق كثيرة يمكن لنا أن نكتب بها، لا حدود لأنماط الإبداع كما ذكرت في السؤال السابق عن عملية الكتابة وعلاقتها بالتجارب الشخصية. أما فيما يتعلق بالتقمص، فالروائي ليس ممثلا بالمعنى المباشر، فهو إنسان تمثيلي من حيث الإطار الفلسفي والرائي وليس من حيث التشخيص البراني، لأن الرواية تشتغل على الفكر والمعرفة الإنسانية عبر وسيط اللغة، وليس فنا دراميا أو سينمائيا.

< المحاور السيكولوجية مهمة جدًا في الرواية الحديثة وهي من العوامل الهامة في خلق الأجواء الملائمة للشخصيات والأمكنة التي تدور فيها الأحداث، هل علينا أن نتسلل إلى عقول الآخرين (الشخصيات) وحياتهم وقلوبهم أيضاً من أجل البحث عن تجارب متنوعة، لكن كيف يمكن أن نصل إلى هذه المرحلة النفسية الحساسة؟ اختراع سيكولوجية الشخصية الروائية؟

> البناء النفسي للشخصية، ضروري، لكنه تطور في الفن الروائي وأصبح أكثر تعقيدا من مجرد التصورات الأولية التي كانت تقول – مثلا – بأنك لو أتيت بشخصية أو شخص يتعامل بسلوك معين كأن يكون انطوائيا او فظا الخ، يجب أن يكون ثمة إشارات لذلك في طفولته أو صباه في الرواية. الموضوع صار أكبر من ذلك، لأننا نعلم أن النفس البشرية وعلومها باتت معقدة ومربكة، ففي بعض الأحيان لا نعرف كيف يتصرف الإنسان ليقوم بفعل معين! بل أننا حتى مع أنفسنا لا ندرك مرات كثيرة لماذا فعلنا ذلك. يجب الانتباه هنا إلى أن الرواية حتى لو أنها اهتمت بالجانب النفسي، أو كان من جزءا من مرتكزاتها، إلا أن هذا لا يعني أن غاية الرواية هي تقديم تشريحا نفسيا أو هي بحث سيكولوجي. يدخل علم النفس في النصوص لكنه ليس غاية ولا يشتغل بمعزل عن البنية أو النسق الكلي للعمل في تداخل مجمل العلوم الإنسانية. في فترة ما كانت هناك رواية تشتغل على التحليل النفسي، كما في تيار الوعي، لكن هذا لم يعد قائما بالدرجة الكبيرة اليوم. هنا أعتقد بأن من الأمور التي أضرت بالرواية محاولة مجاراتها في بعض الفترات التاريخية للعلوم الإنسانية، كأن تجاري مثلا في فترة النظريات الاجتماعية حول التاريخ كالماركسية أو تجاري علم النفس مع ثورة فرويد، أو تجاري الفلسفة الوجودية الخ.. فمن صالح الرواية أن تعمل كحقل منفصل له القدرة على امتصاص كل ذلك ومساءلته بدلا من أن تكون مجرد صدى له، بما في ذلك أن تكون مجرد صدى للأوضاع السياسية والاجتماعية أي ردة فعل او مرايا، هي أعمق من ذلك بكثير، باقتراحها اللاممكن واللامتصور، وليس مجرد أداء تمثيلي لعكس الواقع كما في النظرة السائدة للأسف.

< هل هناك إضافات أخرى لم اتطرق إليها وتريد أن تفصح عنها في عالم القصة، الرواية، الحكاية أو الحدوتة؟

> اعتقد أن الحوار غطى الكثير من الجوانب باستفاضة، بيد أن أي نقطة وأي سؤال يمكن له أن يصلح مقالا منفصلا أو حتى كتابا، أنا أؤمن بما يعرف بـ”المعرفة المتشظية” اليوم، وهو اصطلاح انشأته أقصد به أن المعرفة لها مسارات لا نهائية، وأن كل مسار يمكن أن تتولد عنه كذلك مسارات أخرى لانهائية، وهذه هي طبيعة المعرفة والعلوم والحياة عامة. لهذا فالإضافات قائمة، كما أن الحذف قائم، فالفكر الإنساني لا يتوقف، ما أقوله اليوم قابل للمراجعة والنقض أحيانا بل ربما النفي، وهذه هي طبيعة إرادة السؤال والتعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق