سياسة

خرافة ضرورة ان تكون الفترة الانتقالية قصيرة!

د. أمجد فريد

الحديث عن فترة انتقالية قصيرة الذي يطفو على السطح بشدة هذه الايام، هو مجرد خضوع لابتزاز خطاب العسكر الذين قاموا بالانقلاب، ومن خلفهم بقايا الدولة العميقة للإسلاميين الذين يودون الاستفادة مما تبقى لهم من نفوذ على جهاز الدولة بأسرع ما يمكن. والتبرير بالحوجة للشرعية الانتخابية هي كلمة حق يراد بها باطل. الشرعية الانتخابية لتكون راسخة وحقيقية يجب ان تكون متدرجة وتشمل جميع هياكل الحكم وتبدأ من المستويات القاعدية وتتدرج الي اعلى: هياكل الحكم المحلي والولائي/الاقليمي والتشريعي، وهذا ما يجب ان يحدث خلال الإطار الزمني للفترة الانتقالية. اما التبرير بمحدودية مهام الفترة الانتقالية فهو يهزم نفسه بنفسه، فضرورية هذا المهام لا تعني على الاطلاق التسرع في انجازها على عجل، بل هي مهام اصلاح، ضرورية الانجاز، في الإطار الزمني المناسب لإنجازها بشكل جيد يضمن تأهيل الوضع في السودان لديموقراطية راسخة ومستدامة. هذه المهام لا تقتصر على الاصلاح الاقتصادي والاعفاء من الديون واعادة تنشيط الاقتصاد، واصلاح الخدمة المدنية واصلاح النظام العدلي، واجراء الاصلاحات الاساسية في الانظمة الخدمية بما فيها الصحة والتعليم، واجراء تعداد سكاني واقتصادي وتنموي يضمن قدرة جهاز الدولة على التخطيط بشكل سليم، وبدء عملية اصلاح حقيقي في القطاع الامني والعسكري توحد الجيوش وتصل بهذه المؤسسة الي مرحلة تضمن عدم تكرار الانقلابات في السودان، وغير ذلك من مهام كلها تحتاج لوقت ونقاش اجتماعي وتوافق واسع لكي تمهد لديموقراطية مستقرة، ولكنها تتجاوزها ايضا الي اكمال وترجمة السلام بشكل حقيقي على ارض الواقع، واكمال مهام عودة النازحين واللاجئين واعادة تأهيل سبل مشاركتهم السياسية، والتي بدونها تصبح عمليات صناعة الدستور او نقاش جذور الحرب والتهميش او غيرها مجرد إعادة لتمارين ونقاشات نخبوية لن تخدم سوى الابقاء على نفوذ الطبقة السياسية في انغلاقها على نفسها. ناهيك عن الحوجة الضرورية لتفكيك مفاصل الدولة العميقة بشكل عدلي وحقيقي وعميق يضمن اعادة تأهيل جهاز الدولة بعيدا عن التأثير والنفوذ السياسي والنفوذ الاقتصادي لأقطاب نظام حزب المؤتمر الوطني المخلوع.

دوائر المجتمع الدولي التي تدفع بهذا الاتجاه (فترة انتقالية قصيرة وبعدها انتخابات كيفما اتفق)، وبالأخص دوائر التأثير الامريكية، غير معنية كثيرا بالاستقرار في السودان، بقدر ما هي معنية بالتوصل الي اي اتفاق اياً يكن، حتى ولو كان يمهد الطريق الي انقلاب اخر او حتى حرب اهلية في السودان، باعتبار ان هذا هو الطبيعي في افريقيا. الاتفاقات السيئة وغير الناضجة لا تنتج حلولا مستدامة (لا في السودان ولا في اثيوبيا ايضا بالمناسبة ولكن تلك قصة اخرى). هذا الدرس البسيط الذي لم يتعلمه الغرب في ضغطه من اجل انتخابات عاجلة وفترات انتقالية قصيرة، من الدروس التي حدثت في مصر او في تونس، ولم يتعلمه من تاريخه نفسه. حدوث الانتخابات في ظل وجود استقطاب سياسي واختلافات دستورية وقانونية حادة حول مبادئ العقد الاجتماعي لتأسيس الدولة -اي دولة- والحكم، لا يمكن ان تثمر نتائج جيدة على الاطلاق. فعلى سبيل المثال انتخابات ١٨٦٠ في امريكا نفسها قادت الي الحرب الاهلية الامريكية، بسبب الاختلاف حول مدى شمولية (تلك الحقائق) التي انبنى عليها اعلان الاستقلال الامريكي مثل المساواة السياسية، والحقوق الطبيعية ومبدأ سيادة الشعب… واعتقد ان ما نريده في عملية الانتقال السياسي في السودان هو الاتفاق على على حقائق تأسيس دولتنا بشكل متفق عليه يضمن رسوخها وتحصينها في وجه التقلبات والاختلافات السياسية.

ظل الضغط الامريكي من اجل انتخابات عاجلة في السودان في مكانه منذ ٢٠١٩. واذكر ان موقف القائم بالأعمال الامريكي حينها (ستيفين كوتويس) في اول اجتماع رسمي لوفد من قوى الحرية والتغيير مع مجموعة من السفراء الاجانب في ١٤ ابريل ٢٠١٩ كان رفض وجود فترة انتقالية اصلا وظل يتحدث في الاجتماع عن اجراء انتخابات في فترة ستة أشهر.

ان الفترة الانتقالية ليست مجرد إطار زمني محدود يجب فقط المرور به، بل هي فترة لازمة لإنجاز مهام ضرورية تساعد في اعادة تأسيس الدولة السودانية. وبالطبع يجب ان يحدث هذا عبر اوسع توافق ممكن بين القوى الديموقراطية التي ترغب في مستقبل استقرار حقيقي في السودان. ولكن القوى السياسية التي تخضع الان لضغوطات المجتمع الدولي وابتزاز العسكر الانقلابيين، وتتوهم انها قد تستطيع تحقيق مكاسب انتخابية في انتخابات عاجلة، وتتجاهل تأثير الدولة العميقة للإسلاميين والتي ظلت تشكو منه حاليا، فهي تطلق النار على اقدامها، ولأنها حتى ولو حققت بعض المكاسب الانتخابية هنا وهناك، فهي لن تستطيع المحافظة عليها بدون الاصلاحات الضرورية اللازمة لجهاز الدولة ضد انقلاب اخر، ولن يستطيع المجتمع الدولي -الذي لا يخفي انه يود ان يخلص من صداع الانتقال في السودان بأي طريقة وبأسرع ما يمكن- حماية هذه المكاسب، كما حدث في ٢٥ اكتوبر الماضي. انهاء هذا الانقلاب ينبغي ان يكون نقطة البداية لإنهاء كافة الانقلابات والحروب الاهلية وعدم الاستقرار السياسي في السودان واغلاق صفحتهم الي الابد وليس للتأشير على المربعات كيفما اتفق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق