ثقافة وفن

من كتب رواية ماما ميركل؟ قراءة نقدية في رواية” ماما ميركل” لعماد البليك

عباس طمبل عبد الله الملك

عماد البليك الروائي السوداني الذي ولد في العام (1972) م، وتخرج من جامعة الخرطوم قسم المعمار، والذي يعملُ صحفياً في صحيفة عُمانية بمسقط، صدرت لهُ ست روايات، كانت أخيرتها رواية “ماما ميركل”، والتي جاءت في مائتين وأربعٍ وستين صفحة من القطع المتوسط،

ربّما يتبادرُ لذهني هذا السؤال المُلح الذي جعلته عنوان القراءة، من كتب “ماما ميركل”؟ حيثُ بدأ الراوي روايته بمقدمة وأحسبها مقدمةً تحملُ خلاصة تجربة الكاتب نفسه ورحلته الطويلة مع آنيسته ومحبوبته.. الكتابة الروائية، وقد تكون بمثابة محيط النص أو النصوص المحيطة، وذلك على الرغم إنّ من الحيف إسقاط ما يُخطّهُ الراوي على شخصه، فأنها رواية وليست سيرة ذاتية أو مذكرات، وقد مارس الكاتب تكنيك تعدد الرواة، وبشكلٍ مختلف عن كل رواياته الخمس، وقد جاءت هذه التقنية موفقة إلى حدٍ كبيرٍ، ومنسجمة من غيرِ أرتباكٍ في السرد، ودون أن تعلو سلطة الكاتب على سلطة الراوي، بديكتاتورية تؤدي إلى إقصاءٍ واستبداد، وعلى غرار تعدد أصوات الرواة في السرد، كنتُ قد أشرتُ إلى مصطلح تعدد الأصوات، وهو مُستلف من الموسيقى كما ذكر أحد النقاد، وقد نوّهت إلى إنّهُ مصطلح لربما يكون غير دقيق.. على الرغم من إنني كنتُ أميل لاكتفاء الراوي بنصٍ محيط واحد أو تلك ـ المقدمة ـ التي أوحت بأن كاتباً يجلس على شاطئ البحر، هو من يكتب الرواية، دون الإشارة بومضات في منتصف الرواية، بأن راوياً آخر وهو (عيسى) وهو الذي يمتلك عدّة مواهب، ربّما شارك في كتابتها، ولو على سبيل أخذ الأمر كأنه ـ خدعة ـ يريد بها الكاتب إضفاء أجواء من التشويق للقارئ.. على الرغم من ذلك فقد جاء العمل في قوالب فنّية محكمة البناء، وبلغةٍ مشوّقة، بمهارة وعذوبةٍ في السرد، وجدّية في طرحه الذي جسّد تجربة إنسانية وقضية مُلحة، تهمُ كلّ فردٍ من أفراد المجتمع العربي، فقد جمع الراوي بمهارةٍ كل ألوان الطيف العربي في هذه الراوية الإنسانية التي جسّدت قضاياهم المهمة..  سارت الرواية في خطين متوازيين بحبكةٍ سردية متقنة، وسرعان ما دخل الراوي في مضمون النص المحيط، والذي يُجسّد متنه رواية سياسية اجتماعية، تتضمن معاناة شعوب العالم الثالث، وهجراتهم الشرعية وغير الشرعية للبلدان الأوربية، وذلك لدواعٍ كثيرة، منها الاضطرابات السياسية واستبداد أنظمة البلاد العربية والافريقية على حدٍ سواء، الشخصيات في هذه الرواية “ماما ميركل” قد جمعها الراوي بمهارة، حيثُ نجد بأنهُ لا يوجد هناك البطل الأوحد في هذه الرواية، فكلُّ شخصيةٍ فيها بمثابة بطل أدّى دوره بكل دقة، تمردت على كاتبها وأجبرته على الخضوع لها أحياناً، وهمستْ له في إذنه وباحت له بمخاوفها، وأحلامها وطباعها، وسلوكها العدواني أحياناً، وفرحها وحزنها في أحيانِ كثيرة، مثل “راندا” الفتاة السورية التي هزمتها لعنات الزمن وخيّبتها، بعد أن كانت فتاةً مُنعمةً من أسرةٍ ثرية، فكان والدها، صاحب مصنع “القيسي” للملابس الشهير الذي أسستهُ أسرته على مدار قرنٍ من الزمان، وها قد أصبحت لاجئة وضيعة دون مأوى، و”ماليدا” الفتاة السودانية الأصل التي يعملُ والدها محرراً بهيئة الإذاعة البريطانية، وقد غدر بها الفتى السوداني ” جعفر” الفار من جحيم بلاده، وإن كنتُ أحسب أن الراوي لم يولى عناية بــعلاقة الحب التي نشأت بين “ماليدا” و”جعفر”، إذ جاءت جزئية علاقة الحب التي نشأت بينهما في “البندقية” بإيطاليا على جناح السرعة كتسارع أحداث الرواية.. لم تكن بالرواية شخصيات ثانوية ـ بمعنى هذه الكلمةـ إذا جاءت كل الشخصيات رئيسية متقنة البناء كما أسلفت عالية، جُلُّها شخصيات تُعتبرُ أبطالاً، ساعدت على تطور أحداث الرواية وأدّت إلى تماسكها، إذا لم ألحظ أن هناك أرتباك في السرد ، بل ساعدت على تنامي الأحداث داخل الفضاء المكاني الواسع الذي تحرك فيه الراوي، وعلى الرغم من تعدد الأمكنة والأزمنة إلّا  إن الحبكة السردية جاءت متماسكة صُلبة دون هشاشة أو ترهل، مما ساعد على خلق ردود أفعال وتداعيات كشفها الحيز الزماني الذي تحرك فيه الراوي بدقة، دون أن ينقطع خيط السرد ..

في مجمل القول يلاحظ القارئ التكثيف العالي للعمل، وللشخصيات التي تأتي من القاع  وتتنامى وتصل إلى مستقرها بمهارةٍ فائقة، وكذلك يجد أن الشخصيات الآتية من القاع رغم انسياق عدد منها إلى مصيره، فأن بعضها لم يصعد إلى طبقات أخرى، لأن الرواية تعتبر رواية القضية التي تهمُ كلّ شخصية، وكلّ شخصياتها في نظر الراوي، أبطال، كما ويبدو أن انتماء هذه الشخصيات إلى بيئة افريقية عربية، قد أدّت إلى تحرر الراوي من الكتابة الأيديولوجية التي جعلتُ يُقدّم مزيجاً من العمل السياسي والاجتماعي والعاطفي في الرواية ” الواقعية السحرية الرومانسية”، ويرسم الشخصيات بوضوحٍ، آت من خبرة وثقافة وحرفية عالية، ثمّ يترك الراوي شخصياته والأحداث تنمو وتتفاعل إلى نهاية العمل، عبر منحنى الصراع السردي الدرامي.. من غير أن تترك القارئ في أي حيرة من أمره، أو إحساس بأنّ خيط السرد قد أنقطع منه، مما يؤدي لإحساسه بالتوهان، ثمّ إن الكاتب يميّز عمله الإجمالي وأسماء شخصياته وأماكنه بأسماء منتقاة بعناية من البيئة الحقيقية والواقع اليومي المعاش، وأنهُ يريد أن يقدّم لهذه الشخصيات عبر أسمائها المتميزة منبراً، تتحدثُ عبره دون أن يفرض عليها وجهة نظره، بل أفسح لها المجال كي تبوح له بكل ما تريد، لأنها لا تجد إلّا الرواية عند “البليك”، منبراً حرّاً تتداعى بأوجاعها من خلاله، فتبوح له بواقعها الكابوسي، وأحلامها الوردية أيضاً، الناظر للبعد الزماني، والبعد المكاني يجدهما متميزان، لأن البليك أبن بيئته بامتيازٍ، وتجول في إحيائها شاباً، ثمّ خرج منها كاتباً بارعاً، وما زال ينتمي إليها، ويعبّر عن ذلك الانتماء بأسلوبه ذات الطابع الموضوعي.. وذلك بصدقه وإخلاصه في تناوله، ويمتاز بسرده المحايد والواضح غير الموجه.

الناظر للبعد الزماني في “ماما ميركل”، يجد أن الراوي تجول بنا في مجموعةٍ من عواصم العالم وشواطئها المختلفة، وذلك دون أن يرهقنا أو نُشعر بافتعاله الدهشة، بمجموعة من التواريخ عبرت بالرواية بين دفتيها، وصاغت دورة عمر الشخصيات المختلفة من سوريا، والسودان وأريتريا، ومصر وغيرها من بلاد العالم العربي، بذاك الزمن الذي حمل بعداً دلالياً واضحاً عن معاناتها وأحلامها الدائمة بالهجرة إلى بلاد العم سام، والتي لخّص فيها، أنها لم تكن أحلاماً وردية في الكثير من الأحيان، بل يمكنها أن تكون كابوساً أيضاً ومصيراً مريراً، البؤس، والشقاء، والمتاعب، والعقبات، والهجرة، وحلم الذهاب للغرب، ثيمات يكتبها “البليك”  عبر لغة سلسة ممتعة، وسرد متتابع متدفق غير منغلق.. في واقعيته السحرية الخاصة التي يتميزُ بها، مما يمنحهُ تميّزاً خاصاً على مستوى السرد والقضية، وتفرداً بين الأدباء من أبناء جيله، عبر هذه الصياغة الجيدة، وخلقهُ لتفاصيل المعاناة التي يمرُ بها كل يوم، الإنسان في العالم العربي، بخصوصية القلم السوداني السحري، والتجربة الإبداعية التراكمية التي ضمنت له رحابة التنوع الثقافي، وتجسيد الألم الإنساني السوداني بل العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق