ثقافة وفنسلايدر

معمار الرواية وبناؤها (الجزء الرابع)

مع الأديب عماد البليك

د. محمد بدوي مصطفى

< أعتقد أن الحوار في أي رواية، قصة، مسرحية أو تمثيلية هو عبارة عن أداة فنية ويتجلى في أنّه دون أدنى شك نمط من أنماط التعبير تتحدّث به شخصيتان أو أكثر في فن من الفنون السابقة، فكيف ينبغي أن يتسم هذا الحديث بين هذه الشخصيات – الأسس والطرق والمفارقات؟

> وظيفة الحوار هي توصيل الأفكار بين طرفين أو أكثر، وفي الوقت الذي يعكس فيه البُنى النفسية والمعرفية للشخصيات داخل النص، فهو يرسم من جانب ثانٍ تصورات الكاتب في خلق فكرة معينة وبناءها إما تصاعدياً لتكون مفهوماً كلياً أو أن يقوم بدحضها وتهشيمها، هذا يعني أن قيمة الحوار في “التشظي” الذي يؤسس به ما بين المفارقات في البنى الإنسانية ومعارف البشر وقدراتهم ووجهات نظرهم، كما يحدث في الحياة العادية، من هذا المنطلق فعلى الكاتب ألا يصوغ حواراً يقوم على وحدة في الفهم أو الموضوع وإلاّ كان هذا مقالاً متصلاً يحمل وحدة فكرية هذا إذا ما حذفنا الشخوص، كذلك فإن الحوار يجب أن يتضمن العديد من العناصر مثل المفارقة والفكاهة والسخرية وغيرها من الصور النفسية والجمالية التي تبدو عبر اللغة هنا، فإذا كان الشخص غير حاضر مُجسّداً فهو حاضر عبر التلاعب بأداة اللغة، وكلما كان الكاتب بارعاً كانت له القدرة على التوصيل والإجادة في هذا الجانب.

< هل للحوار وظيفة أو وظائف جوهريّة ما في معمار الرواية وفي بناء العمل السردي؟ وكيف يمكن للمبتدئ في هذا المجال تنمية هذه المهارة وتغذيتها حتى تتخمر مع مرور الزمن؟

> نعم له وظيفة كما ذكرت بعض ملامحها أعلاه، لكن بعض المؤلفين لا يميل لاختراع الحوارات، ويركز على البنية السردية التواصلية في النص، حتى لا يحول الرواية إلى ما يشبه المسرح، إذ معروف أن الحوار يشير إلى البناء المسرحي، فيما يشير السرد إلى البناء الروائي، مثلاً ماركيز يقول إنه لا يميل للحوار كثيراً، ويعمل بالتالي على تقديم الشخصيات من خلال بنية السرد ذاتها، لكن هناك نموذج مغاير هو نجيب محفوظ الذي يهتم بالحوار كثيراً في أعماله وقد يمتد لصفحات في بعض الأحيان. يمكن القول بإن عملية الحوار واتخاذ قرار بشأنها يعتمد على النص نفسه ما الذي يريد أن يقوله أو ما هو محموله الدلالي، فبعض النصوص تقبل الحوار المطول والبعض لا، فإذا كان لديك رواية مثلاً ذات بعد فلسفي جدلي تتناقش فيها شخصيات وتحاول أن تبرز أفكارها فهنا سيكون ضرورياً أن يأخذ الحوار مساحة معقولة من النص، وقد يختفي الحوار تماما في نصوص أخرى. أما تنمية الحوار فيعتمد على التدريب الذاتي على المونولوج أو نظرية الحديث مع المرآة، حيث يمكن للذات أن تؤدي أدواراً تمثيلية لعدد من الشخوص الذين يتبارزون أو يحاورون في فكرة معينة بهدف إبراز وجهات النظر سواء اتفاقاً أو اختلافاً، ويحتاج الكاتب أن يكون له قدرة على فصل الشخصيات ومواقفها بشكل جلي، بحيث لا يتعامل مع الشخوص كما لو أنهم ذات واحدة، أي أن كتابة الحوار والتدرب عليها يتطلب هنا أن تعي جيداً بالمواقف البنائية للشخوص من حيث الأبعاد النفسية والاجتماعية والسياقات التي أنتجت الشخوص وتُحركّهم داخل العمل الإبداعي. أيضا أحوالهم التي يبرزون فيها ما بين الصفاء النفسي وربما الجنون أو حالة سكر إلخ.. أو هلوسة.

< لابد أن تكون في بعض الأعمال حوارات جيّدة وأخرى سمجة؟ كيف نستطيع أولًا أن نفرّق بينها ومن ثمّة كيف يمكن للمبتدئ أن يبني الجيّد ويتفادى السمج منها؟

> هي في نهاية الأمر تُعبّر عن فكر الكاتب وقدراته الفلسفية والمعرفية، فالحوار السمج يعكس أن الكاتب ليس بذات القدر من التوقع المعرفي أو الإلمام بتعقيدات العالم وجهله مثلا لبناء الحوارية في النص، لكن لنكن حذرين فالسماجة قد تكون مقصودة في بعض الأحيان لدى الكاتب الذي يتلاعب بالشخوص والأفكار ويريد أن يفضح من خلال تقديم هذا النموذج، بنية التماسك الشكلية في عالمنا، أي أنه يريد أن يقدم لنا صورة الغباء الإنساني والابتعاد عن المعنى في الحياة. لكن هذا سيكون واضحاً إذا ما عرفنا كيف نقرأ بشكل صحيح، فالقراءة نفسها شأن آخر وموضوع يحتاج إلى التدرب، كما تعرضنا لذلك في حوار سابق من هذه السلسلة. إنه من خلال هذا الوعي الإدراكي لبنية الحوار ووظيفته وهل هو مقصود لمعنى محدد أم لا، يستطيع المبتدئ أن يطوّر قدراته في كيفية إنشاء حوارات لها طابع فني وجمالي وموصلة للأفكار وعاكسة لطبائع البشر وتلوّناتهم في الوجود.

< لقد سلكنا في المقالات أو الحوارات الثلاثة السابقة مسالك عدّة، بيّنت لنا فيها يا سيدي وبعمق جوانب عديدة وحساسة من أسس وسمات معمار الرواية والحديث معكم يا سيد البليك في هذا السياق حقيقة ماتع ومعينه لا ينضب. وهناك من يسأل عن تقنيات السرد عبر الراوي، أو بالأحرى كيف نختار الشخصية التي تسرد وقائع أي رواية أو قصّة وكيف نحدد منظورها للشخصيات والوقائع التي تحدث؟

> ربما هذه من القضايا الاستراتيجية في بناء الرواية، وتحديدها يمكن أن يشيد معمار النص الكلي، بما يحدد مرات النجاح أو الفشل للعمل، سيكون السؤال بالمعنى المباشر، من الذي له الحق في أن يروي هذه القصة أو الرواية؟ ونحن نسميه تقنياً بـ “الراوي الضمني” أي تلك الشخصية التي يخترعها الكاتب لكي يمرر من خلالها النص، هذا “ر. ض” – اختصاراً- قد يكون راوياً علمياً يأخذ دور “الإله” الذي يرى كل شيء ويحكم على كل الأمور ويتكلم بما في القلوب فهو يرى أسرارها وقصتها ويحاسبها، وهذا النوع من الخيارات ساد في الرواية الكلاسيكية أو في بواكير الفن الروائي، لا يزال مستخدماً إلى اليوم لكن قلّ بدرجة كبيرة في الرواية الحديثة أو المعاصرة، فالعالم الحديث بات يعتمد على وجهات النظر المتعددة وليس الرؤية الكلية والشاملة للعالم، من هنا ظهرت أشكال أخرى من “ر. ض” منها المتكلم الذي قد يكون البطل نفسه أو شخصية قريبة منه هي التي تتولى سرد الأحداث وهنا حتماً سوف تضيق زاوية الرؤية أو القراءة أو الوعي بالأشياء بخلاف الراوي العليم الذي سيكون له أحياناً إطلاق الأحكام، هنا سيكون ذلك ممكناً ولكن بحدود أقل لأن المعرفة ليست كلية لهذا المتكلم، وقد يستخدم الكاتب أكثر من راوٍ متكلم في النص بحيث يكون في كل فصل من الرواية شخص يحكي القصة من وجهته نظره الخاصة، ما يتيح بقوة فكرة تعدد وجهات النظر التي أشرنا إليها، وهنا سوف نكتشف المفارقات أو التدليس وقد يحدث العكس أن ندخل في شيء من الحيرة المقصودة مرات من الكاتب لخلق جمالية النص المفترضة.

إذا ما رجعنا للبنى التقليدية في مسألة الرواة، فسوف نجد أنهم يقسمون لخمس أو ست أنواع، عليم، انتقائي وشبه كلي العلم، الخ.. لكني شخصياً أرى أن هذه التقسيمات قد تخلق الإرباك أحياناً، فالفكرة الأساسية في جوهر ذلك الأمر أننا نريد أن نحكي قصة معينة، كيف لنا أن نقدمها للقارئ، هل نرى كل شيء، أم جزءاً من الحقيقة، وما الذي يجب أن نطرحه عليه؟

لهذا فالكاتب يجرب مرات حتى يعثر على الطريق الأمثل، إذ يمكن لك أن تبدأ رواية بالراوي العليم ومن ثم بعد كتابة عدة صفحات تكتشف أن ذلك ليس مناسباً لتعيد الكتابة من وجهة نظر شخص معين، أو عدة شخصيات، أو من وجهة شخص ثالث يخاطب القارئ مثلا مباشرة دون أن تعرف ما هو موقعه من النص في الأساس، هي قضية بسيطة ومعقدة يكون التجريب فيها مهماً لكي يستطيع الكاتب أن يصقل نصه ويقدمه بالشكل الأفضل.

< ما هي أنواع الرواة المتعددة وهل يمكنكم أن تعطوا أمثلة لهذا التباين؟

> في السؤال السابق وضحت بشكل عام إن هناك ثلاثة أنماط يشير إليها النقاد بـ “الغائب، المتعدد، المشارك” أي “العليم، وجهات النظر المتعددة، المتكلم أو الحاكي”، وفي كل واحدة من هذه التقنيات الثلاثة، فسوف ينفتح المسار إلى قضايا إجرائية لابد للكاتب أن يُلّم بها، قد توفرها كتب مناهج النقد والقراءة، لكن اكتشافها الحقيقي يكون عبر التأمل الفاحص أثناء قراءة الروايات والقصص كذلك من خلال التجريب أثناء عملية الكتابة نفسها. وما يحكم الأمر برمته هو قضية السرد أو منظوره، أي زاوية النظر للعالم. يجب الإشارة إلى أن الكاتب كلما تعمقت تجربته استطاع أن يكسر القواعد ويخون الوصايا في هذا الإطار كما يقول ميلان كونديرا، بمعنى أن النص قد يحتمل أكثر من طريقة للحكي أو الروي، وفي بعض المناهج الأكثر حداثة يختفي حتى الراوي الضمني “ر. ض” ويصبح الكاتب نفسه من يقدم لنا النص مباشرة، بما يخلق المزيد من الإرباك، هذا يعني أن هذه القضايا بشكل عام ليست لها حدود نظرية نهائية ولا يوقفها في نقطة معينة من شيء، سوى الإبداعية المطلوبة والتنقل الذهني الحر للكاتب في الاكتشاف المتجدد لبنى العالم وكيف لنا أن نقدمه من خلال عملية السرد التي هي علم متغير وليس جامداً.

< كيف يمكن توظيف الراوي Omniscient أي العالم بكل شيء في أحداث أي عمل روائي؟ وهل له حدود معينة تحدّ صلاحياته في السرد؟

> الروائي العالم أو العليم له نواحي إيجابية كما له سلبيات، فقدرته الكاشفة على رؤية كل شيء من شأنها أن تضيء فضاء الرواية وتجعلنا أمام صور عارفة بكل التفاصيل والأبعاد المكونة للمكان والأحداث والشخصيات وغيرها من عناصر القصة أو الرواية، وهذا يضع النص كشبكة معقدة كثيفة يكون لهذا الراوي “الإله” أن يتحكم في خيوطها، بيد أن ذلك أيضا قد يشكل مأزقاً فهو يُورّط الكاتب مرات في أن يقع في بعض المغالطات؛ لأنه أمام عَالم كبير يقوم على نظرة شاملة لرائي واحد ومتحد، ومن هنا فسوف نقع في سلبيات هذا الشكل من أشكال الرواة، بخلاف الراوي الذي ينظر من زاوية محددة متكلماً كان يحكي عن ذاته أو يحكي عن آخرين، فهو محدود بشكل عام، يمكن له أن يسيطر على أشيائه، ويساعد الكاتب في حبك قصته بشكل أفضل. أما بخصوص حدود السارد العارف بكل شيء، فهذا يقف على الطريقة التي يصوغ بها الكاتب نصه أو طريقة استخدام وجهات النظر داخل معرفة الراوي العليم نفسه، فهو أحياناً لا يقوم أو ينطلق من رؤية كلية أو شاملة بل على زاوية ينظر بها أو من خلالها للوقائع في النص أو مجرى الأحداث. كأن يقول لك “إنني أعرف كل شيء عن هذه المدينة، أعرف بشرها وحياتها وسوف أحكي لكم، لكني لا أعرف عن المدن المجاورة”. هنا يعمل الراوي العليم نفسه على حد زاوية نظره أو وجهته، وكما أوضحت سابقاً فالمسألة معقدة وكبيرة وتقوم على التجريب والقراءة المستمرة، وهي ليست حدية أو ظنية بشكل قاطع في النتائج المرجوة أو المتوقعة.

< حينما وفد الأدب المسرحي في عصر النهضة إلى أدبنا العربي في منصف القرن الثامن عشر الميلادي، وبدأ العرب ينسجون أعمالًا مسرحية على نسق غربي مبين، وقفت معضلة الحوار أماهم وانشغلوا بها أيما انشغال، وطرحوا العديد من التساؤلات: هل يكون بلسان العامة (اللغة الدارجة) أم بلسان عربيّ مبين (اللغة المكتوبة)؟ وتفرقوا في الشأن إربًا إربًا وتباينت اختيارات صنّاع الابداع وقتئذ فمنهم كمارون النقاش من اتخذ حلًا وسطًا ما بين العامية والفصحى في مسرحياته، وجعل شخصياته تتحاور حسب مقامها الاجتماعيّ. ومنهم من اتخذ العامية اللهجة السائدة على كل مسرحياته مثال سعد الدين وهبة ورشاد رشدي ويوسف إدريس أو في سوريا دريد لحام وحققوا بذلك نجاحات منقطعة النظير. ما رأيك في كل هذا الاتجاهات وفي قضية التصدي لاختيار الحوار داخل المسرحية وما يهمنا هنا داخل العمل الروائي.

> بالنسبة للمسرح ربما كان الأمر أكثر وضوحاً بخصوص جدل الفصحى والعامية، خاصة أن المسرحية تكتب في الأساس لكي تقدم على الخشبة، ولا شك أننا أمام جمهور مُستقبِل للعمل بشكل مباشر ما يجعل عملية التلقي أسهل وذات بعد تفاعلي عندما يكون للغة الأسهل في إيصال الرسالة أن تستخدم وهي الدارجة أو مقام وسط بينها والفصحى. رغم ذلك فإن المسرحيات التي تكتب بالفصحى موجودة، وليس كل أدب المسرح يكتب للتمثيل فهناك ما يكتب للقراءة فقط كنصوص، وفي كل شكل من هذه الأشكال سيكون لدينا انطباعاً مختلفاً أو نتائج مختلفة في عملية التلقي والتخييل الناتج عنها. في الرواية من النادر أن نجد روايات قائمة بشكل كامل على الدارجة، نعم هناك تجارب في هذا الإطار حتى على مستوى السودان ثمة من كتب رواية كاملة بالعامية مثل سامي حجاري في روايته “الخرطوم نفر”، وهي تجربة جيدة بالنظر إلى وعي الكاتب بما يقوم به، لكن التيار الغالب أن الرواية تكتب بالفصحى وذلك يرجع لطبيعة النص الروائي نفسه أنه بنية فوقية على المتخيل العام واللغة السائدة في الإطار الشعبي، كما يتعلق ذلك بمفهوم السرد نفسه، وهل للغة العامية القدرة على إنتاج السرد في السياق الروائي كما تفعل في مجال المحكيات الشعبية والأحاجي والقصص التراثية؟ وذلك موضوع جدلي وكبير. الخلاف الواضح يظهر دائما في الرواية عند لغة الحوار وليس المتن السردي، وفي هذا ينقسم الروائيون ما بين من يرى أن الحوار يجب أن يكون بذات لغة المتن السردي، أي فصيحاً، ومن يعاكس ذلك ويرى أنه يجب أن يحاكي نسق الشخصية بأن يكون دارجياً إلا إذا كانت الشخصية تتحدث في مقام معين يكون فيه للغة أن تصبح فصحى، كأن يكون واعظاً أو مدرساً يلقي محاضرة الخ… وثمة من يخلط في الحوار بين الفصحى والدراجة بشكل محبب كما فعل الطيب صالح في بعض أعماله، بحيث تصبح هناك مساحة تقرّب بين العامية والفصيح، في السودان سوف نلمح قضية اللغة الدراجة  وتعقيدها بشكل جلي عند إبراهيم اسحق ما حرم نصوصه من الانتشار الكبير. في النهاية هو قرار الكاتب الذي يجب أن يبنيه على وعي تام، والمصريون بشكل عام يميلون مثلاً لإدخال العامية في الحوار ومرات في المتن، بيد أن نجيب محفوظ كان له رأي واضح في مسألة الفصحى هذه وكانت محسومة بالنسبة له منذ البدايات من حيث الاستخدام، وأنا أميل لهذا الرأي الأخير بأن الرواية هي أساسا بنية تخييلة خاصة تتجاوز الإطار التمثيلي المباشر للواقع حتى في مسألة اللغة. ويجب الانتباه أنه بمجرد ترجمة النص سوف تسقط أغلب هذه المسائل تلقائياً، إلا إذا حاول المترجم أن يجاري طريقة النص الأصلي في مسألة الحوار.

< أراني أقرأ الآن رواية “جمهورية كأنّ” لعلاء الأسواني وكنت قد قرأت له من قبل تقريبًا كل ما كتب من أعمال روائية ابتداءًا من “عمارة يعقوبيان”، “شيكاغو”، “نادي السيارات” الخ. أما في الرواية الأخيرة “جمهورية كأنّ” والتي تمّ حظرها في مصر، لاحظت أنه قد أسهب في ادخال العامية المصرية بكثافة، ذلك على غير عادته في أعماله السابقة، وهذا الشأن أبعدني حقيقة عن أحداث وشخصيات الرواية، فما رأيك في لغة الرواية الحديثة عموما، مقارنة بلغتها الكلاسيكية عند نجيب محفوظ والطيب صالح ويحيى حقي أو توفيق الحكيم مثلًا؟ وهل هناك خطاب روائي عصريّ يمكن أن نحتفي به في بعض الأعمال الروائية العربية؟ وما موضع العامية من الإعراب في سياق الرواية؟

> في قضية اللغة اعتقد أن ما ذهبت إليه في السؤال السابق ربما يوضح وجهة نظري أن الفصحى هي الأساس في الرواية نسبة لموضوع التمثيل أو التخييل الروائي الذي هو في أساسه متجاوز لبنية الواقع البراني أو تقليده بما في ذلك موضوع اللغة، فالرواية ترتقي حتى على اللغة نفسها وتحاول أن تصنع مجازاتها الجديدة. هذا بخصوص الفصحى والعامية. أما فيما يتعلق بلغة الرواية عموماً فهي متغيرة بحسب العصر الذي تكتب فيه الرواية، مرة كتبت أن “موسم الهجرة إلى الشمال” لو كتبت اليوم لكانت بلغة مختلفة، هناك من رفض ذلك واعتبره غير منطقي، لكن المنطق يقول بإن اللغة في النصوص تولّدها السياقات التي تنتج من خلالها هذه النصوص، بالتالي فهي متغير وغير ثابتة، إذا تتبعت لغة نجيب محفوظ وهو تجربة كبيرة ومستمرة لعقود في الإنتاج الكثيف ستجد هذه التحولات في اللغة، لا يمكن أن نقارن لغة رواية “كفاح طيبة” في ثلاثينات القرن العشرين بلغة “أحلام فترة النقاهة” وهي آخر ما كتبه أديب نوبل الوحيد من العرب، في كل اللغات بعد مرور زمن تصبح بعض النصوص كلاسيكية ما يحتاج إلى إعادة كتابتها بلغة جديدة لتتقاطع مع عصرها كما حدث مع شكسبير، فاللغة كائن حي ومتطور وليست جامدة. الآن تتجه الرواية للغة الشارع العام لن نقول إلى الدارجة، بل هي لغة وسيطة طابعها فصيح بيد أنه لها القدرة على الفهم للجميع دون أن تدخل في مفردات متقعرة أو معقدة، كما يحدث في بعض الكتابات الكلاسيكية أو من يكتبون إلى اليوم بشكل تقليدي وهم قلة مصادرهم المعرفية قائمة على التراث ولم تتقاطع أفكارهم مع التحديث في الأدب. أما فيما يتعلق بقضية الخطاب الروائي العصري ففي هذا السؤال اعتقد أنك تشير إلى علاقة الخطاب بلغة النص الروائي، وسأجيب بشكل مباشر أن سياق الخطاب لا ينفك في علاقته عن بنية اللغة في إطارها الزمني، لأن أي خطاب يقوم في النهاية على أداة اللغة، وأنت تنتج خطاباً معيناً لا يكون له فاعليته التراسلية إلا من خلال انتمائه للحظة التاريخية التي يتقاطع معها حتى لو كان للكاتب قصدية أن يعزل خطابه عن راهنه.

< إن التطور السنكروني والدياكروني للرواية العربية مهم للغاية فمن خلاله يمكننا أن نتعرف عن كثب عن البدايات ومراحل التدرج، التبلور والتطور التي حتماً لم تنتهِ بعد. وأحبّ أن أذكر أن فن القصة قد بدأ أولًا بأسلوب أدبي أقرب للسجع منه إلى النثر وكان هذا الأسلوب يشبه نوعًا ما أسلوب المقامات – كما نعرفها عن الهمذاني والحريري، فقد سلك المويلحي وحافظ إبراهيم هذا المسلك ومن بعد تطورت هذه الصناعة إلى لغة عربية صحيحة كما عند محمود تيمور وعبد الحميد جودة السحار ونجيب محفوظ وثروت أباظة وغيرهم.  أعرف أن لك اهتمامات واسعة في مجال الأدب كما ولك مؤلفات علميّة عديدة في هذا المجال، فهل تطورت الرواية العربية حقًا مقارنة بقرينتها الأوروبية (في الأدب الفرنسي مثال مارك ليڤي ويلبيل، ليلى سليماني، إريك إمانويل شميت، غيوم موسو عند الطاهر بن جلون وإدريس الشرايبي مثلًا – أو في الأدب الإنجليزي مثال جورج أرويل، التركية إيليف شفاك وغيرهم، وفي الأدب الألماني عند جونتر غراس، مارتن فالسر، رفيق شامي وغيرهم)؟ دون التطرق للغات الأخرى، كالإسبانية والبرتغالية وحتى لغات البلدان الاسكندنافية، أفتنا في هذا الأمر.

> الرواية العربية قطعاً تطورت كثيراً خلال القرن العشرين منذ تلك اللحظات المبكرة كالتي نجدها في رواية “زينب” لمحمد حسنين هيكل، أو نصوص جرجي زيدان الروائية، مروراً بالأسماء التي أشرت لها، لكن السؤال الذي يجب أن نطرحه هل استطاعت الرواية المكتوبة بالعربية أن تلامس السقف العالمي للرواية؟ هنا سوف أتوقف قليلاً وبحذر ما بين الإجابة بنعم أو لا، هناك روائيون عرب موهوبون، لكن الإشكال أن سياق الثقافة العربية بمجمله لا يزال هشاً وغير واثق من نفسه، بفعل البُنى المدركة على صعيد الانهيار الثقافي العام وغياب الحريات وغيرها من قضايا التخلف، كل ذلك لا يفصل الرواية عن هذه البنية، هذا لا يعني أن الرواية تنتجها فقط مجتمعات متطورة أو غنية، فأمريكا الجنوبية وفي عزّ الفقر والديكتاتوريات أنتجت نصوصاً ملهمة وقوية، إذن ثمة قضايا أعقد يجب أن نضعها في الاعتبار تتعلق ببنية الثقافة العربية بشكل عام وفكرة الحرية لدى المبدع نفسه قبل أن تكون هبة من السلطة، كذلك المشروعات الإنسانية الحقيقية التي تُساءل جدوى الإنسان والعالم ومعنى الحياة، ثمة أسئلة لا يقترب منها الروائي العربي ولا أعرف السبب الذي قد يختلف من كاتب لآخر، غير أن المحصلة هي أن العرب لا يزالون يعيشون على اثر وقع الثقافة التي أنتجت في الستينات من القرن العشرين ومطلع السبعينات ما بعد ما عرف بالنكبة 1948 ومن ثم النكسة 1967، إذ لم يستطع المثقف العربي أن يتجاوز هاتين اللحظتين لإنتاج معرفة جديدة، مع النظر إلى أن كل ذلك أصبح اليوم مجرد صور متوهمة ليس لها أثر واقعي محسوس على الفاعلية السياسية والاجتماعية.

< بالرجوع إلى صفحات التاريخ نجد أن بعض كتاب الرواية والقصة كيوسف إدريس وغيره من الكتاب قد آثر بدعوى الواقعية أن يكتبوا الحوار بالعامية، وقد عاب عليه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين هذا النهج وضجر به عموما حيث صار وقتها مستشريا عند العديد من الكتاب. فتصدى للأمر وكتب الآتي: “أن يرفق باللغة العربية الفصحى ويبسط سلطانها شيئاً ما على أشخاصه حين يقص كما يبسط سلطانها على نفسه، فهو مفصح إذا تحدث، فإذا أنطق أشخاصه أنطقهم بالعامية كما يتحدّث بعضهم إلى بعض في واقع الأمر حين يلتقون، ويُديرون بينهم ألوان الحوار”. “وما أكثر ما يُخطئ الشباب من أدبائنا حين يظنون أن تصوير الواقع من الحياة يفرض عليهم أن يُنطقوا الناس في الكتب بما تجري به ألسنتهم في أحاديث الشوارع والأندية، فأخص ما يمتاز به الفن الرفيع هو أنه يرقى بالواقع عن الحياة درجات، دون أن يُقصِّر في أدائه وتصويره”. ” والأديب الحق ليس مسجلاً لكلام الناس على علاته كما يسجله الفونوغراف.” وهذا الأمر يتعلق بكل الفنون وهو ذو أهمية كبيرة، فإذا نظرنا على سبيل المثال إلى رقصة الباليه الكلاسيكية نجدها قد رُفعّت لترقى من الرقصات الشعبية الروسية إلى قلب الإبداع الكلاسيكي فصارت فنًّا عالمياً في كل البلدان. وفي نظري أن إفادة عميد الأدب الدكتور طه حسين أصابت كبد الحقيقة، فالفن اختيار، ولغة المتحاورين في أي عمل أدبي هي غير لغة حوارهم في المنازل والأندية والحارات. وما أحرى كتّابنا أن يكتبوا حوارهم بلغة عربية صحيحة يستطيع القارئ العربي في مشارق الأرض ومغاربها بل غير العربي أيضًا من متعلميّ ومحبيّ اللغة العربية في أي مكان أن يقرأها ويفهم محتواها ويمكنه ذلك من أن يتعايش مع العمل الأدبي الذي يطالعه. فموضوع تمكن العامية أو الفصحى من الحوارات موضوع عميق ويحتاج منّا إلى وقفة. ما هي إفاداتك في الشأن.

> في الأسئلة السابقة أوضحت وجهة نظري في أنني أميل للحوار الفصيح والكتابة السردية الفصيحة مع الوضع في الاعتبار أن اللغة هنا يجب أن تكون ابنة عصرها، لا يمكن لي أن أكتب بلغة المقامات أو السجع في الحاضر. وفي كلام طه حسين إشارة دقيقة إلى أن الأديب ليس مُسجّلاً فونوغرافياً، وأن الفن يجب أن يرقى بالواقع عن الحياة وهي المسألة التي أشرت لها سابقاً من أن الفن ليس مجرد نقل أو تمثيل للواقع، بل هو عمل واشتغال جمالي كبير يقوم على توظيف اللغة والخبرات الحياتية والمعرفية في إنتاج عالم آخر موازٍ له الأبعاد النسقية والثقافية والمعرفية والجمالية، من هنا فالاشتغال على اللغة يصب في جوهر ذلك الموضوع، حيث أن اللغة في نهاية الأمر هي سياق الإنتاج والتلقي في النصوص الأدبية.

< كلمة أخيرة عن الحوار واللغة والبناء الروائي وأسئلة غائبة لم أتطرق إليها؟

> يبقى القول بأن هذه القضايا مثيرة للجدل وملهمة ولا يمكن مهما تكلمنا عنها ان نختصرها في أفكار بعينها، فهي تتغير مع الزمن وتكتسب حيوية مع القراءات والتثاقف المعرفي، يجب على الأديب أن يكون متسارعاً في التلقي مع المعرفة الجديدة ومع الإنتاج الكثيف، هذا صعب، لكن على الأقل أن يكون له نظرة عامة للأمور تكتسب من خلال الإلمام المعرفي والتأمل وإعادة التفكير في المكتسبات وليس مجرد النقل والتلقي المباشر دون تفكير في المعرفة الواردة. من هنا فالأسئلة ليس لها من منتهى كما الإجابات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق