سياسة

في نقد العقل السياسِي السُودّاني المُغلق

نضال عبد الوهاب

في أحايين كثيرة للمتأمل في واقع الحال في السُودان مُنذ استقلاله يجد أن هنالك أزمات مُستمرة يعكسها الواقع المُعاش داخلياً. ديكتاتوريات عسكرية، وفترات ديمُقراطية غير مُستقرة، وصراعات سياسية بلا سقوفات، حروب أهلية، نزاعات قبلية، انهيار في كُل مناحي الحياة، في الاقتصاد والصحة والتعليم، وتصدعات حتى في النظام الاجتماعي والأخلاقي، فساد وجرائم، انفلاتات، إلخ. والذي يجعل العقل يندهش أننا نمتلك كدولة وشعب موارد طبيعية يحسُدنا عليها الكثيرون جداً في العالم من حولنا. لماذا كُل هذا الضُعف والانهيار إذاً. الأمر ببساطة يذهب إلى اتجاهات الحُكم للدولة طوال الحقب السابقة ما بعد الاستقلال إلى الآن، ثم العقليات التي حكمت وتحكّمت في السُلطة حتى يومنا هذا. اتجاهات الحكم المقصود بها إلى أين ذهب. والإجابة نجدها في المؤسسة العسكرية والبيوتات والأحزاب الطائفية والأحزاب العقائدية. فهي التي تقاسمت تقريباً كُل فترات الحُكم في السُودان، مع خصوصية عهد الإسلاميين بسبب أنه كان مزيجاً للعقلية العقائدية الإسلامية والعسكرية في آن واحد وأنه كان الأطول عُمراً بينها. لم تُحَل كُل أزمات السُودان التي تولدّت طوال كُل الفترات من الحُكم، بل كانت تتفاقم بلا توقف، حتى وصلنا إلي نموذج الدولة الحالي. الذي وبرُغم الثورة العظيمة التي حدثت في ديسمبر بكُل تضحياتها والتي أبطأت سُرعة التدهور المُريعة للحال في السُودان أملاً لتوقفه واسترداد البلاد لطريق العافية وانصلاح الأوضاع. نحن الآن جميعنا في مرحلة الانتقال وهي عملياً مرحلة من المُفترض أن يتم فيها ترتيب كُل أو معظم الخلل والتشوهات في دولتنا لفترة امتدت لأكثر من خمس وستون عاماً. هي مُهمة شاقة في ظل كُل التعقيدات الموجودة وحجم الأضرار الناتجة من كم الأخطاء المُرتكب فيها. السبب الآخر غير اتجاهات الحُكم هو كما ذكرنا العقليات التي حكمت وتحكّمت في السُودان. نستطيع أن نشهد عليها بأنها كانت جميعها تقريباً وبلا استثناء عقليات لا تصلُح لممارسة مَهمة الحُكم، وأنها قد فشلت بمستويات كبيرة في أداء مهام الحُكم وبناء وتطوير هذا البلد ووضعه في المكانة التي يستحقها إقليمياً ودولياً قياساً بثرواته وموارده والزمن الباكر في نيّله الحُرية والاستقلال.

فنحن كبلد عملياً لم نتقدم أو نُطور في الدولة السُودانية. لم تحدث لدينا أي تحديثات، وحِلنا في مُستنقع من التأخر والجهل والتخلُف، وعصف بنا الفقر، وأُفرغت كُل المُدن في العاصمة والتي هي تصنيفياً من أردأ عواصم العالم صارت، لا ريف نمّي ولا مُدن شُيدت. وهاجر ونزح الملايين، غير ضحايا الحروب الأهلية الذين هم بالملايين أيضاً. وتقلّصت مساحة الوطن ونقص عدد سكانه الأصليين من السودانيين الجنوبيون بعد الانفصال. فشلت العقليات التي حكمت وتحكّمت إذاً بكُل المقاييس والأدِّلة. ما طبيعة هذه العقليّات؟ ولماذا كان وسيظل الفشل حليفنا وحليفها إن هي استمرت تحُكم وتتحكّم بذات طريقة التفكير ونفس الأدوات. فبعد أن ذكرنا عامل اتجاهات الحُكم المتمثلة في المؤسسة العسكرية ومن ثم في البيوتات والأحزاب الطائفية والأحزاب العقائدية اليمينية واليسارية. هنالك قاسم اشتراك هذه الأحزاب الطائفية والعقائدية نفسها في صناعة الأنظمة العسكرية أو دعمها أو الاثنان معاً، أي تدبير الانقلابات وخلقها والمشاركة فيها وعمل غطاء سياسي لها. وهذا مفهوم وواضح لجميع السودانيين وتكفي القراءة القليلة في تاريخ الحُكم ما بعد الاستقلال للوصول لتلك الحقائق.

الطريقة التي تفكر بها هذه العقليات هي بلا شك طريقة لا تقود إلى حلول أو لا تستطيع خلق استمرارية لهذه الحلول والتوصل لنتائج. فهي على سبيل المثال ظلت تتحدث عن الديمُقراطية والتحول الديمُقراطي دونما أن تتبني الطريق الصحيح للوصول إليها فكراً وممارسة. وظلت تتحدث عن السلام والتنمية دونما عمل حقيقي لإيجاد سلام وتنمية حقيقية في السُودان. تحضرني هنا مقولة للراحل محمد إبراهيم نقد عندما قال وبشجاعة (نحن فشلنا جميعنا كأحزاب سياسية ونُخب بما فيهم أنا في أداء دورنا الريادي والقيادي لإحداث عملية التغيير للأفضل للسُودان) مُتحدثاً عن جيله والأجيال التي عاصرها في مسيرة العمل السياسِي في السُودان. 

ظلّت هذه العقليات السياسية في حالة صراع وتناحُر مُستمر وعداوات وخصومة واختلاف غير إيجابي، لم تُطور من أدواتها لمواكبة العصر الحالي ولا استطاعت قراءة واقع السُودان بشكل جيد يُتيح لها التعامل مع أحواله، ولا قرأت الواقع الإقليمي والعالمي والتغيُرات الكبيرة فيه، فظل بعضها يُمارس السياسة وأفكارها كما أنك تتفرج على فقرة من زمن تلفزيونات الأبيض والأسود في بدايات الإرسال التلفزيوني، أو تقرأ من كتاب قديم كُتبت سُطوره بالمحبرة و (الدوايّة) حيث الأحرف بلا نقاط حتي.

لم تستطع هذه العقليّات فك هيمنة وسطوة المركز وقبضته علي كُل مفاصل الدولة في السُودان فأنتجت المظالم و التنمية غير المتوازنة و احتكرت السُلطة ومارست الإقصاء، فولدّت الضغائن والغُبن والتشويه النفسي لأجيال كاملة، فنشأت الحُروب كنتيجة طبيعية، و بدأ نهب الثروات وتكدّس الأموال لفئات محددة، هي نفسها من أوعزت لقتل شعبها وقهره والبطش والفتك به لتحتكر السُلطة والثروة معاً في أنانية مُغيتة وقُبح وبشاعة لا مُتناهية، العقليّات السياسية هذه والعقائدية يمكن أن نُطلق عليها وصف المُنغلقة التي لا تري إلا نفسها ولا تنظر إلا تحت أرجلها، تعتقد أنها علي صواب ولكنها غارقة في الخطأ و تعتقد في تقدُميتها وهي موغلة في التخلف، وتريد زهواً أن تنشره، عقليّات مُتزمتة تقف أمام الحداثة ولا تعترف بها وتقطع الطريق نحو التقدم الحقيقي والمستقبل بأسوار عالية من الشك والوساوس والتنطع. عقليّات لازالت تفكر أن تحكم بالجهل وجيوش من الجهلاء، لا تريد غير الطاعة وتعتقد أن سبيلها الوحيد لكراسي السُلطة يمر إما عبر الدماء وأشلاء الضحايا من السودانيين وإما (بالكوتات) التي يؤتي بها لترديد الهتافات المُباركة للسادة وأكل ما تيسر لبطون جائعة بفعل اختلالات توزيع الثروة في هذه البلاد التي نُكبت بتلك العقليّات التي حكمت وتحكّمت ولا زالت تطمع في الاستمرار!

آن لهذا البلد العظيم بعد الثورة وأجيال الوعيّ أن تستمر فيه حالة التغيير الجاد. آن لهذه العقليات المُغلقة أن يبطُل مفعولها. آن لهذا البلد العظيم أن تقوده عقليّات مُنفتحة وحديثة، تؤمن بالعلم والحُرية والديمُقراطية الحديثة والحقيقية فكراً وسلوكاً وتعمل لها ولأجل العدالة وتمضي نحو التغيير للأفضل لبلادنا بخطوات واثقة.

تكفي خمس وستون عاماً من سيادة العقليّات السياسية المُغلقة، يجب أن تطال الثورة كُل أماكن الخلل في بنية أحزابنا وبرامجها وطريقة تفكيرها وقياداتها، وأن تتمدد فيها حركات الإصلاح والتجديد، يجب أن ينشأ من بين أبناء وبنات الهامش حركات وتنظيمات مدنية سياسية حديثة غير مُسلحة، فالسبيل للحقوق ونيّل العدالة لا يمر فقط تحت فوهات البنادق وجنازير الدبابات.

لنستمر جميعنا في ثورة الوعيّ للتغيير بأجيال الثورة والشباب وأجيال المُستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق