سلايدرسياسة

سـفينة نصر الله وصعود طـالبـان

علي شندب

لم يكن زعيم حزب الله بحاجة للإعلان عن بدء تسيير أولى طلائع أسطوله النفطي من ايران، ليثبت من خلال هذا القرار الإستراتيجي أنه صاحب القدم والكلمة ما فوق العليا والحاكم الأعلى للجمهورية اللبنانية التي يديرها من خلال وكيله في قصر بعبدا. أمّا الحكومات التي يشكلها أو يجهضها فهي لزوم الكلام عن مؤسّسات الدولة وإداراتها خصوصاً بعدما تحولت تعبئة الفراغ عبر مجلس الدفاع الأعلى الى سياسة معتمدة من الحاكم الأعلى ووكيله معاً، لتبقى أصوات المعترضين على تلك السياسات وآخرها القنبلة النفطية لزوم فضلات الديمقراطية وحرية التعبير.

ما كان نصرالله بحاجة لتأكيده عبر منصّة المظلومية العاشورائية، أن لبنان بات الى حد بعيدّ ضمن مدارات ورادارات النفوذ الإيراني المتقدم بالنقاط على كثير من القوى الإقليمية والدولية المتدخلة والمتداخلة في لبنان والمنطقة، خصوصاً بعد الزلزال الإستراتيجي الكبير الذي أصابها جرّاء الإنسحاب الأميركي والناتوي من أفغانستان توازياً مع صعود طالبان.

من هذه الزاوية يمكننا النظر الى قنبلة نصرالله التي فجّرها بالإستناد الى طوابير الذلّ ووجع الناس وتقاتلهم أمام الأفران ومحطات الوقود التي تعمّ أرجاء جمهوريته المهدّدة بما هو أبعد من الفوضى الشاملة، سيّما بعد افتضاح إنخراط مسؤولين في حزب الله ومقرّبين منه، في ملف إحتكار البنزين والمازوت وتخزينهما بهدف الإثراء على حساب اللبنانيين وليس فقط بهدف تهريبه الى سوريا بهدف الإثراء أيضاً.

وقد اجتهد زعيم حزب الله ليكون مقنعاً في “إعتباره أموال التهريب سحت وحرام”، وكأنّه يسمع بالتهريب للمرة الأولى. اجتهد لإستعادة ثقة مهزوزة محاولاً أن يبرهن لجمهوره وبيئته اللصيقة ومن خلفها كل اللبنانيين أنه أكثر حرصاً عليهم وإحساساً بالآمهم من كل القوى السياسية المُمعنة في تناتش الدولة وتحاصص فتاتها الحكومية وغير الحكومية. فيما يستبطن هذا الحرص على الداخل اللبناني ردم الأضرار التي ألحقتها واقعة شويّا بمقاومة حزب الله، إضافة لمحاولة التخفيف من التطورات الأفغانية الواقفة ضمناً مع أسباب أخرى وراء خلفيات موقف ايران وقرار نصرالله النفطي.

ورغم أن صعود طالبان وسيطرتها على كابل كان نتيجة حتمية ومتوقعة للمفاوضات التي شهدتها الدوحة في عهد الإدارة الترامبية التي تردّدت في الإنسحاب الذي نفّذه بايدن رغم تحذيرات المخابرات الأميركية من فوضى الخروج. فالمفاجأة غير المتوقعة أن تخريجة الإنسحاب الأميركي كانت أشبه بهزيمة وفشل ذريع للإستراتيجية الأميركية المنطلقة عقب أحداث 11 أيلول. وبهذا، يشكل الإنسحاب الأميركي من أفغانستان أولى حلقات الإنسحاب من المنطقة بهدف التفرّغ لمواجهة الصين، فهل يكون العراق حلقته الثانية التي سيشهد فيها جلاء الإحتلال المزدوج الإيراني الأميركي عن أرض الرافدين؟.

صعود طالبان، أرسل رسالة إستقواء لبعض السّنّة في المنطقة أشعرتهم بأن عهد وزمن استضعافهم من قبل ايران قد ولّى. ولهذا أراد نصرالله من خلال قنبلته النفطية محاولة التخفيف من وهج إنتصار طالبان الى درجة امتداحه بهدف الإفادة من “انتصارها على القوات الاميركية” ومحاولته توهين النفوذ الأميركي في المنطقة ومنها لبنان. علماً أن غالبية حركات الإسلام السياسي المعروفة بانتهازيتها وشبق وصولها الى السلطة ولو عبر القتال تحت رايات الناتو ومن في حكمه، سارعت الى تدبيج بيانات التبريك بالانتصار الى قادة طالبان، سيّما وأن غالبية قادة هذه الحركات شكلوا بأجسادهم وفتاويهم جسر عبور الدبابات الأميركية إياها لإحتلال العراق وغزوه منذ عام 2003 وحتى اليوم.

بهذا المعنى وجد حسن نصرالله في صعود طالبان الذي يختلف ما بعده عمّا قبله، النظير السنّي الموازي في تطرفه لجمهورية الولي الفقيه، ما حفّز نصرالله الى محاولة إستثمار كل عناصر القوة لديه وتخصيبها على منصّة سفينته النفطية متوسّلاً ذات البصمة الصوتية التي أعلن فيها خلال عدوان تموز 2006 عن قصف البارجة الإسرائيلية ساعر، وقوله “أنظروا اليها.. إنّها تحترق” محاولاً في ذلك إيقاظ مشاعر هائمة وتائهة وموزعة بين طوابير الخبز ومحطات الوقود والصيدليات وتنظيمها علّها تشكل حاضنة متينة لسفينته الوافدة من بلاد فارس.

وفيما استفاض زعيم حزب الله وأسهب في تحميل الولايات المتحدة وزر انهيار الأوضاع الإقتصادية والمالية التي تحوّلت الى فوضى مجتمعية تسير باتجاه الفوضى الشاملة، متناسياً ومتجاهلاً رعايته لمنظومة الفساد والمال والسلطة والسلاح والسياسات التي اعتمدتها حتى أوصلت البلاد الى ما بعد الانهيار. فقد شكل إعلان نصراالله النفطي تجاوزاً صريحاً لمعادلة الدولة التي تغوّل فيها وعليها حتى انهارت قطاعاتها بالتدريج، وباتت الدولة أشبه بعمارة زجاجية من شأن رشقها بأي حجر رملي لا صخري أن يجعلها تسقط بالضربة القاضية ليصبح زجاجها المطحون امتداداً لإنفجار خزان التليل في عكار، وتفجير مرفأ بيروت الذي أطيح بمحققه العدلي الأول فادي صوّان بعبوة “الارتياب المشروع”، ويجهد نصرالله وحزبه للإطاحة بمحققه الثاني فادي بيطار بعبوة التسييس المتناسلة من الإرتياب المشروع.

وبهذا المعنى أطلق نصرالله رسائله وحدّد توقيتها لجمهوره وبيئته أولاً، وبنفس الدرجة لأعداءه ثانياً. وفي هذا الإطار يمكن قراءة الإتصال المرتجل والمنعزل عن أي سياق للسفيرة الأميركية دوروثي شيا بالرئيس ميشال عون لإبلاغه عن جهود وإتصالات تجري لاستجرار الغاز المصري عبر الاردن وسوريا المطوّقة بقانون قيصر دون معرفة الأثمان السياسية التي ستدفع لسوريا لقاء سماحها بمرور الغاز عبر أراضيها وحدودها التي ينتشر فيها حزب الله، ما يعيدنا الى التذكير بحقيقة وحجم التخادم الأميركي الإيراني المستمر رغم تضاريس مفاوضات فيينا النووية.

اتصال السفيرة الأميركية بالرئيس اللبناني، بدا مرتبكاً وبدون مقدمات، ويرجح أنّه لا يعكس حقيقة الموقف الأميركي، سيّما وأن دوروثي شيا قامت بزيارة عون قبل أيام وخرجت الى الإعلام بقسمات صارمة لتتلو بياناً مكتوباً غاب عنه إستجرار الغاز المصري كلياً. وقد بات شديد الوضوح أن ما أبلغته شيا لرئيس الجمهورية متناسلاً من فوضى الإنسحاب من أفغانستان، وردّة فعل متخبطة على ما أعلنه نصرالله. علماً أن سعد الحريري كان أول من أشار الى بحث مسألة إستجرار الغاز المصري عبر سوريا مع الرئيس المصري، وأنّ الملك الاردني تمكّن من إقناع الأميركيين بالأمر. ويومها قُوبل كلام الحريري في سياق مقابلة “طق الحنك” الإعتذارية عن تشكيل الحكومة بكثير من السخرية والاستهزاء.

بدون شك أدخلت معادلة نصرالله الجديدة لبنان مرحلة جديدة من الإشتباك الجاري بين المحاور المتصارعة في المنطقة وعليها. كما ورفعت سقف التحدي مع الأميركيين والإسرائيليين الى مستوى جديد عندما اعتبر “أن سفينته النفطية أرضاً لبنانية”، محاولاً أن يُدخل الى قواعد الإشتباك مع الجانب الاسرائيلي، مناطق مأهولة مقابل مناطق مأهولة، ومناطق خالية مقابل مناطق خالية (خلافا لواقعة راجمة صواريخ شويّا)، معادلة جديدة قائمة على سفينة مقابل سفينة. وبهذه المعادلة يعلن نصرالله أن معركة السفن والناقلات النفطية ستشمل البحر المتوسط ولن تبقى محصورة في الخليج.

إنها المعادلة المستنبتة من مصلحة المصلحة الإيرانية العليا. فهدف سفينة نصرالله الحقيقي يكمن في ربط النزاع مع الإسرائيليين حيال مطلق سفينة أو ناقلة نفطية يستهدفوها في الخليج والممرات المائية ليتولى حزب الله الذي يعمل بصيغة الـ OFF/ON بحسب قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي قصف إسرائيل بذريعة تعرضها أو قصفها لسفينة نفطية متجهة الى حزب الله في لبنان. ويبدو أن اسرائيل التقطت شيفرة سفينة حزب الله فشنّت منذ يومين غارة مزدوجة الأهداف. الأولى، وهمية فوق جبل لبنان. والثانية، فعلية استهدفت مواقع لحزب الله في ريفي دمشق وحمص داخل سوريا. وقد رفعت الغارة الإسرائيلية من مستوى التهديد بحرب أوسع من لعبة اللكمات المتبادلة وغير المتكافئة، على المسرحين اللبناني والسوري.

وعلى إيقاع الفوضى غير الخلّاقة والمتفلتة من كل عقال، تلقى رئيس الجمهورية صفعة جديدة من مجلس النواب رداً على رسالته الهادفة الى وضع حاكم مصرف لبنان أمام المقصلة السياسية والقضائية نتيجة قراره برفع الدعم عن المحروقات والسلع الأساسية ما لم يصدر قانون بذلك عن المجلس النيابي، الذي أقرّ توصية بتحرير السوق من الاحتكار (أي الموافقة على رفع الدعم) وإقرار بطاقة تمويلية وتشكيل حكومة. إنها التوصية التي دفعت جبران باسيل للتهديد باستقالة كتلته من المجلس النيابي والتي ردّ عليها نبيه بري ما حدا يهددنا ومن يريد أن يستقيل فليستقل. هذا الواقع دفع ميشال عون لمخاطبة اللبنانيين بطريقة بدا فيها وكأنه ينفض يديه من مسؤولية الإنهيار الاقتصادي والمالي وإشاعة الفوضى المجتمعية، وليتحدث عن حلول ترقيعية تعمّق الأزمة ولا تؤدي للخروج من قعر جهنم.

وبالعودة الى الزلزال الذي أحدثه صعود طالبان والذي لم تحصر وتحصى كل تداعياته الجيواستراتيجية بعد. حريٌ بنا التذكير بأن الإرهاب سيف أميركا تنتقم منه، ثم تنتقم به. هذا واقع الحال مع طالبان، ويرجح أن يتكرّر مع نظرائها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق