سياسة

قضية الدالي … وشتات الصحافيين وتعهُدات حمدوك

محمد المكي أحمد

الصُورة الفوتوغرافية، المتداولة، للزميل الصحافي، السوداني، الأستاذ، علي الدالي في حالة إغماء، على كرسي مُتحرك، بعدما ضربه عسكريون ضربا مُبرحا، في شارع بالعاصمة السودانية، رسمت مشهدا مُحزنا، ومُوجعا، ومسيئا للسودان، وثورة شعبه السلمية، والسلطة الانتقالية.

رغم أن ثورة الشعب في ديسمبر 2018، انتصرت لشعارات (الحرية والسلام والعدالة) لكن المشهد الراهن يُؤشر إلى أن مواطنين في السودان، وبينهم صحافيون، يتعرضون، من وقت لآخر، لانتهاكات للحقوق الإنسانية.

ما جرى للدالي في 23 أغسطس الجاري (2021) جريمة مركبة الأبعاد، ومتعددة الدلالات.

لم تكن حادثة الاعتداء الأولى، بعد الثورة، على مواطن وصحافي، إذ اُرتكبت اعتداءات، ومورست أساليب قمع، بأشكال مختلفة، في فترة الحكومة الانتقالية (الأولى) و(الثانية).

ما يثير الدهشة أن الاعتداء على الصحافي وقع (إثر مشاجرة بين أحد الأفراد وبعض المدنيين) أي أنه ليس طرفا في المشكلة كما ذكرت بعض المصادر، وحتى لو كان أي إنسان طرفا في مشكلة لا يجوز ضربه في الشارع، فللعدالة مقارها.

صُور الاعتداء متوافرة.

ففيما كان رئيس الحكومة المدنية (الأولى) دكتور عبد الله حمدوك يستعد لمخاطبة مؤتمر صحافي بمطار الخرطوم، بعدما شارك في محفل بالأمم المتحدة، في أول إطلالة من نوعها، قُوبل في الوقت نفسه صحافيون بمعاملة (أمنية) سيئة.

(اللجنة التمهيدية لنقابة الصحافيين السودانيين) سارعت بإصدار بيان في أول أكتوبر 2019، دانت فيه (تعاملا غير لائق، تعرض له الزميل أحمد يونس مراسل صحيفة الشرق الأوسط، والتعدي عليه من قبل أحد أفراد الأمن)، ودعت إلى (إجراء تحقيق وإعلان نتائجه) وحضت (الجهات الحكومية على وضع معايير مُتفق عليها وضوابط تحفظ احترام الصحافة).

لكن الانتهاكات تواصلت.

في 30 مارس 2020، تعرضت الصحافية لبنى عبد الله لـ (معاملة سيئة) إذ (توجهت إلى قسم للشرطة، لتقصى معلومات عن ضبط الشرطة كميات من دعم الخبز المدعوم، ولكنها وجدت معاملة سيئة من مدير القسم، قبل أن يتم حجزها، ولاحقا تم احتجاز رئيس التحرير يوسف سراج والمدير الإداري سامي الطيب، وهما ذهبا لإطلاق سراح زميلتهما) وفقا لشبكة الصحافيين السودانيين.

واستمرت الانتهاكات.

على سبيل المثال أيضا، في 25 أكتوبر 2020، هزت الوسط الصحافي حادثة مُرعبة، إذ ذكرت شبكة الصحافيين أن (الصحافي محمد جادين تعرض لتهديد وترهيب ونهب، من قبل مسلحين يرتدون ملابس عسكرية، بعد اختطافه بعربة لاند كروزر (تاتشر) في أثناء عودته إلى منزله)، ورأت أن (الحادثة مؤشر خطير إلى أن من يسير في شوارع الخرطوم لم يعد آمنا، حتى إذا كان من مرمى حجر من القصر الرئاسي).

اُعيد للأذهان، للتذكير، حديث رئيس الحكومة الانتقالية (الأولى) دكتور عبد الله حمدوك، بعد عودته من اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2019 بنيويورك، لمعرفة ما تحقق بشأن تعهداته، في اجتماع (المجلس العالمي للدفاع عن الصحافة) .

فاخر رئيس الحكومة المدنية (الأولى)، في خطابه الأممي، بإنجازات حكومته الإعلامية، وأعتقد بأنها نتاج طبيعي لثورة الشعب، والمناخ الجديد، الذي فتح باب الحريات، على مصاريعها، من دون إذن من أحد، وهي ليست ثمرة استراتيجية إعلامية تُعنى بشؤون الداخل.

أشار إلى أن (الحكومة السودانية أعادت محطة “البي بي سي” للعمل في السودان، وأعادت خدمة محطة “مونت كارلو”، وأن الحكومة السودانية مصممة على أن يعود الاعلام ليخدم شعارات ومطالب الشعب في الحرية والسلام والعدالة) ولم ينس القول إن (“شبكة الجزيرة” التي كانت اُوقفت قد اُعيدت للعمل).

والأهم أنه قال قبل نحو عامين في نيويورك إن (السودان حريص على حرية الصحافة، والعمل على تغيير القوانين والتشريعات لضمان حرية الصحافة والإعلام وتحديد صلاحيات القوات الأمنية في التعامل معها).

التساؤلات هنا، هل تم الالتزام بما طرحه حمدوك بشأن (تحديد صلاحيات القوات الأمنية في التعامل مع الصحافة) على أرض الواقع ؟، وهل تبدل النهج (القمعي) في أذهان وممارسات بعض العَسَاكر؟ وهل جرى اتخاذ إجراءات عملية للحؤول دون قمع السوداني، المواطن أو الصحافي؟، وأين التشريعات الجديدة التي تحمي المواطن والصحافي، وتردع مرتكبي الجرائم؟

في وقت مبكر دعوت إلى حماية الصحافيين.

في مقال بعنوان (حديث حمدوك التلفزيوني: محتاجون لـ (هيبة) الحكومة وحماية الصحافيين ودعم الشباب) كتبت في 4 يونيو 2020 (في سياق تناول حمدوك لقانون يحمي الأطباء، أقول يبدو أننا محتاجون لقانون لحماية الصحافيين، لأن حوادث الاعتداء والاستفزاز متعددة في زمن الثورة).

رأيت أنه (آن الأوان أن تتم حماية الصحافيين، بإقرار قانون يحمي الصحافي، أثناء أداء العمل من قمع “نظاميين” يتجاوزون مهماتهم ويمارسون تطاولا وارهابا محسوسا وملموسا أو حماية (السلطة الرابعة) بأي تشريع او إجراءات قانونية).

هاهي قضية الدالي تُعمق الوعي بالحقوق …

ما جرى، رغم بشاعته، حرَك المياه الراكدة، في أوساط صحافيين بالخرطوم، لم ينجحوا حتى الآن، رغم تعدد المبادرات، في توحيد صفوفهم، في نقابة مهنية واحدة ومستقلة، لتنهض بشؤون المهنة، وتدافع عن حقوق الصحافيين، وأهداف ثورة الشعب، وهذا يعكس علة سودانية عامة، تؤكد فشلنا في العمل الجماعي، وربما ننجح كأفراد، لكن داء (الأنا) يفرض سَطًواته.

تَحرُك (أجسام) للصحافيين، إيجابي، إذ دانت الاعتداء على الصحافي، وحقوق المواطنة، ونظمت وقفات احتجاجية، كي يَسمع المسؤولون في مجلس الصحافة والمطبوعات ووزارة الثقافة والإعلام والحكومة الانتقالية (الثانية) ومجلس السيادة، و(شركاء الفترة الانتقالية ) صوت الصحافيين الغاضب، وهو صوت يدافع عن حقوق المواطنة، في سبيل العيش الكريم، والحياة الآمنة، المطمئنة.

صوت صحافيين، موحد في بيان، وليس في نقابة واحدة، جاء في بيان أصدرته خمسة (أجسام)، هي (منصة التأسيس لنقابة الصحافيين السودانيين)، و(اللجنة التمهيدية لاستعادة نقابة الصحافيين) و(اللجنة التمهيدية لنقابة الصحافيين السودانيين) و(شبكة الصحافيين السودانيين) و(رابطة إعلاميي وصحافيي دارفور).

(الأجسام) الصحافية، شددت في بيانها على مسالة مهمة وهي أن (البيئة القانونية السائدة لا تراعي حرمات الصحافة، ولا تُقدس مطلوبات الانتقال) وهذه رسالة مهمة إلى الحكومة الانتقالية (الثانية).

أحيي الوقفة الموحدة لهذه (الأجسام)، لأنها عبرت في بيان موحد عن مواقف واضحة، دانت (عسكرة وتجييش الفضاء العام) ونددت بـ (ما قام به منسوبون للاستخبارات العسكرية ضد الصحافي الدالي)، كما شجبت (استمرار عقل الاستبداد القمعي والتنكيل بالصحافيين في السودان) ولكن ماذا بعد؟

اُذكًر زملاء المهنة بما كتبته في 30 مايو 2020، تحت عنوان (الصحافة الالكترونية.. والقابضون على الجمر.. وضرورات النقابة المستقلة والمُهابة).

وجهت في المقال (تحياتي الى كل الزملاء الصحافيين داخل الوطن وخارجه الذين قبضوا على الجمر على مدى سنوات طويلة و مريرة، كي تشرق شمس الحرية، وما زالوا يتقدمون الصفوف في معارك تهدف الى استعادة الوطن لبناته وأبنائه، وهم الشهداء والجرحى والمفقودون والأيتام والأرامل والشباب من الجنسين، وكل الناس.

أضفت:(آن الأوان ليتوحد شتات الصحافيين، لتحتضنهم نقابة مهنية مستقلة داخل السودان، فأمام الصحافيين تحديات عدة وكبيرة، ليس في مقدور الصحافيين في العهد الجديد أن ينتصروا للمهنة وقيمها، أو يساهموا بفاعلية أكبر في تحقيق تطلعات شعبنا وانتزاع الحقوق، وبينها حق المساهمة بتقديم الرأي الفاعل والنصح المؤثر للمسؤولين، والتنبيه الى مصادر الخطر المحدقة بالثورة، اذا لم تتوحد الخطى، ليتم تشكيل نقابة مهنية، مستقلة، وقوية، وفاعلة، ومُهابة، حتى من الحكومة الانتقالية في الفترة الراهنة، أو المنتخبة في مرحلة مقبلة بعون الله).

في إطار التفاعلات، أرى أن بيان وزارة الثقافة والإعلام في اليوم التالي لحادثة الاعتداء على الزميل الدالي، إيجابي، ويُعبر عن روح الثورة ومناخ (السودان الجديد)، إذ دانت حادثة الاعتداء من قبل أفراد يتبعون للقوات المسلحة) ورأت أنه (غير مقبول، يُعيد للأذهان ممارسات بغيضة، نجح شعبنا، عبر ثورة ديسمبر المجيدة في طي صفحتها)

وزارة الإعلام في الحكومة الانتقالية (الثانية) أعلنت أنها (تعمل عبر برنامج الإصلاح القانوني والتشريعي على إعداد قانون خاص بحماية الصحافيين، وبما يمنع تكرار مثل هذه الممارسات) أي الاعتداءات على الصحافيين، وفي إطار توقيع السودان في 9 ديسمبر 2020 على ” التزامات لاهاي لتعزيز حماية الصحافيين).

هذا يعني أن الاعتداءات، على الصحافيين، إذا استمرت، ستدفع منظمات صحافية و حقوقية دولية إلى إدانة قمع يجري في زمن (حكومة ثورة الشعب)!

هذا معناه أيضا أن استمرار انتهاك حقوق الإنسان والصحافي السوداني، يؤكد أن الحكومة الانتقالية (الثانية)، فاشلة، حتى الآن، كما كان حال الأولى، في وضع معالجات حاسمة لجرائم، تشمل الضرب والاختطاف والتعذيب، والقتل.

مسؤولية الانتهاكات يتحملها، إلى جانب مرتكبيها (السلطة الانتقالية)، ويشمل ذلك (مجلس السيادة) و(الحكومة) و(مجلس الشركاء) وأحزابا و(حركات الكفاح المسلح)، المسؤولية جماعية، وليس في مقدور أحد التملُص من مسؤوليته، بشأن عدم حماية المواطن والصحافي من الاعتداءات المتكررة.

الأمن والعدالة ضرورتا حياة، لاستقرار للوطن، لا تنمية شاملة وحقيقية من دون استقرار أمني، ومظلة عدالة تحمي السودانيين كافة.

سريان الطمأنينة في دواخل الناس، قبل أن يلمسوها في الشوارع، تغرس غراس القناعة، بنجاح هذه الحكومة، أو فشلها الذريع، في تحقيق أهم تطلعات الشعب.

الحكومة الانتقالية (الثانية) إذا لم تُدرج الإعلام والصحافيين، ضمن أولوياتها التي حددتها في وقت سابق، ستخسر أكثر مما خسرته، في أوساط الرأي العام. محتاجون لاستراتيجية إعلامية، تُحدد الأهداف وآليات التنفيذ، وتوفر رعاية للصحافيين، ومن دون ذلك سيهزم الحكامَ إعلامُ مُضاد للثورة، يتمتع بإمكانات، وأرضية نجاح، يوفرها فشلُ وتخًبُطُ حكومي في ملفات عدة.

ولعل أحدث تطور إيجابي، هذا الأسبوع، يكمن في اتفاق ثلاثة أجسام للصحافيين، أول من أمس السبت، ٢٨ أغسطس ٢٠٢١، على (تجاوز الخلافات) والسعي إلى(توحيد الوسط الصحافي) لتأسيس (نقابة الصحافيين السودانيين)، ما يشكل خطوة ايجابية، على طريق لم الشمل، مع أجسام أخرى، كي تعبر النقابة عن الصحافيين كافة.

برقية:

أخلص إلى ان تحرك إدارة الاستخبارات العسكرية، بإيقاف مرتكبي الإعتداء على الصحافي الدالي والتحقيق معهم، خطوة إيجابية، والأهم أن تتم إحالة المتهمين على المحكمة، تحقيقا للعدالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق