خارج الحدود

الإستثناء المغربي… إسلاميون في المغرب

عادل بن حمزة

شكل الإسلاميون في المغرب إستثناء في شمال أفريقيا منذ بداية موجة “الربيع العربي”، فإذا كانت تلك الموجة قد حملت “الإخوان” في مصر و”النهضة” في تونس إلى الحكم عقب إنهيار شبه كلي لنظامي بن علي ومبارك بعد مواجهات دموية في الشارع، فإن الأمر في المغرب كان مختلفاً تماماً، حيث كان تعاطي النظام في المغرب مع الصيغة المغربية لـ “الربيع العربي” يتسم بكثير من الحكمة والهدوء، فقد اختار العاهل المغربي الانخراط في دينامية الشارع وذلك بجواب دستوري تمثل في خطاب 9 آذار (مارس) 2011، حيث تجاوز العرض الملكي سقف مطالب الإصلاح التي كانت مرفوعة في الشارع، الحماسة التي رافقت الخطاب الملكي كانت ترتبط بكون الخطاب كان  في حد ذاته موقفاً سياسياً، البعض داخل بنية النظام اعتبره يتجاوز سقف اللحظة، معتبراً إياه تنازلات غير مبررة، بدل اعتباره لحظة لتجديد مسار الإصلاح السياسي والدستوري، على اعتبار أن الزمن الملكي هو زمن إستراتيجي بينما زمن المتنفعين من السلطوية تكتيكي محض. 

الانتخابات التي تلت التصويت على الدستور في تموز (يوليو) 2011، حملت حزب “العدالة والتنمية” إلى السلطة بنتيجة غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات بالمغرب منذ 1963، بدا الأمر ساعتها أن الإسلاميين قد استثمروا جيداً سياق “الربيع العربي” وكان الأمر كذلك، وتأكد الأمر في عامي 2015 و 2016، بحيث أصبح الإسلاميون رهائن اللعبة الانتخابية، بل تم اختصار العمل السياسي والحزبي في حجم النتائج الانتخابية التي يحققها الحزب ويرفقها بخطاب متعالٍ على باقي الهيئات السياسية، كما أنه انخرط في سياسات عمومية مسّت في العمق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمغاربة، فإذا كانت نتائج حزب “العدالة والتنمية” اليوم بحصوله على 13 مقعداً مفاجئة، فإن الحقيقة هي أن نتائج الحزب منذ 2011 كانت مفاجئة بشكل لا يوازي الحجم التنظيمي والسياسي الحقيقي للحزب. وفي كل التطورات التي عرفها المغرب خلال العقد الأخير، كان وضع الإسلاميين مرتهناً بالسياق الوطني أكثر من السياق الإقليمي، فإذا كانت تكلفة إنهاء وجود الإسلاميين في السلطة في كل من مصر وتونس، عالية بحكم استعمال العنف في حالة مصر وفي ليّ عنق النصوص الدستورية في حالة “النهضة” في تونس، فإن خروج الإسلاميين من السلطة في المغرب كان عبر صناديق الاقتراع، لأن ممارسة السلطة تعتبر اختباراً حقيقياً للشعارات والأطروحات المثالية التي رفعت لعقود طويلة، بخاصة أن تاريخ المغرب لم يسجل مساهمات حقيقية للإسلاميين في معارك البناء الديموقراطي وبخاصة مسار الانتقال الديموقراطي الذي انطلق منذ بداية التسعينات من القرن الماضي. 

لقد كان الوعي داخل المغرب يقوم على اعتبار تجربة الانتقال الديموقراطي غير نهائية، كما أن البناء الديموقراطي لا يتخد دائماً طابعاً خطياً، وأن عمليات الانتقال تكون دائماً نتيجة وعي جميع الأطراف بأهميتها، بل بميزان القوى على الأرض، لهذا توجد دائماً أطراف لا تؤمن بالانتقال وتعارضه، وهذه المعارضة تظهر وتختفي حسب الظروف والسياقات… وهذه المعارضة لا تكون دائماً مباشرة وواضحة، بل تتخذ أوجهَ تخفٍ مختلفة، فالمغرب يعيش منذ سنوات تعثر التراكم الإيجابي وظهور حالات ردة، غير أن الإسلاميين لم يسمع لهم صوت في كل مظاهر المسّ بأفق الانتقال.

“الربيع العربي” فرض تحديات كبيرة على الوضع الداخلي الذي كان يعيش ضغطاً عالياً، وهنا تجب الإشارة إلى أن العامل الخارجي كان دائماً يلعب دوراً حاسماً في التحولات التي تعرفها البلاد داخلياً، فالتحولات التي عرفها المغرب بعد انهيار جدار برلين، فتحت أفقاً حقيقاً لمسار الانتقال الديموقراطي وفي صلبه تجربة فريدة للعدالة الانتقالية، حيث خاض المغرب تجربة فريدة في ما يتعلق بالعدالة الإنتقالية وطي صفحة الماضي الأليم والتي تميزت بانتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان والتضييق على البناء الديموقراطي واحتكار شبه كلي للسلطة في مختلف مظاهره منذ الاستقلال إلى منتصف تسعينات القرن الماضي. عندما نتحدث عن التجربة المغربية، فإننا لا نقدم نموذجاً قابلاً للاستنساخ في بقية دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بل هي تجربة أحاطت بها خصوصيات شديدة، لكن هذه الخصوصيات تصلح أن تكون -في طابعها الإجرائي- نموذجاً إرشادياً في ما يتعلق ببناء المصالحة في الدول التي تعرف نزاعات ممتدة منذ عقود لأسباب مختلفة ومتعددة.

عناصر خصوصية التجربة المغربية والتي ساهمت في نجاحها إلى حد كبير تتمثل أساساً في العوامل التالية:

أولاً – الاتفاق على طبيعة النظام السياسي المتمثل في الملكية الدستورية. 

ثانياً – أصالة التعددية السياسية والحزبية الممتدة إلى ما قبل الاستقلال، سواء في المنطقة الشمالية، حيث تم تأسيس حزبي “الإصلاح الوطني” و”الوحدة المغربية”، أو في الداخل والجنوب إذ كان هناك حزب “الاستقلال” وحزب “الشورى والاستقلال” والحزب “الشيوعي المغربي”، هذه التعددية ساهمت في غياب الخطاب التخويني بخصوص الاستقلال، إذ إن الصراع والمنافسة اللذين عرفتهما السنوات الأولى للاستقلال سرعان ما تم إخمادهما، حتى قبل أول دستور وأول انتخابات عرفتها البلاد بداية الستينات من القرن الماضي، بحيث أجريت الانتخابات الأولى بعد الاستقلال عام 1962 على خلفية صراع سياسي واضح، بين تيار وطني دافع عن تعددية فعلية وحكم للمؤسسات وانتصاراً للديمقراطية وحكم القانون، وتيار آخر تحلّق حول الملك محمد الخامس وولي عهده آنذاك الراحل الملك الحسن الثاني، كان يسعى إلى دولة شمولية تشكل فيها المؤسسات والديموقراطية مجرد شكليات من دون جوهر.

ثالثاً- التأطير المبكر لعمل المجتمع المدني والأحزاب السياسية والنقابات والنشر والإعلام، وذلك عبر ظهير الحريات العامة الذي صدر عام 1958 في عهد حكومة أحمد بلافريج الأمين العام آنذاك لحزب “الاستقلال”، والذي كان سابقاً على إقرار أول دستور في المغرب عام 1962، هذا التأطير المبكر سمح ببروز مبادرات وتيارات مختلفة تشتغل في واجهات متعددة، كما ساهم في خلق ثقافة “الحريات العامة” وحدود هذه الحريات في العلاقة مع الآخرين. 

رابعاً- لم يكن هناك صراع مسلح مع السلطة، حيث حافظت المعارضة على طابعها السياسي السلمي، والأحداث المتفرقة التي عرفتها بعض المناطق والتي حاولت اعتماد ثورة مسلحة، فشلت فشلاً ذريعاً، بل في لحظة من اللحظات عززت الطابع السلطوي للنظام وقدمت له مبررات مجانية لذلك.

خامساً- الاختلافات بين الأحزاب والقوى السياسية حافظت دائماً على طابعها السلمي، ولم تنتج أي أحقاد بين القوى السياسية أو المناطق التي تشكل معاقل لهذه القوى، مع استثناءات محدودة ميزت صراع القوى السياسية في الجامعات، حيث سُجلت أحداث مؤسفة، لكن لم يكن لها تأثير في المجتمع ككل، بل إن الأمر لم يكن يتجاوز أسوار الجامعات والأحياء الجامعية.

سادساً- غياب التعددية الدينية والمذهبية، مع الحضور اليهودي في المدن الكبرى يتقلصان بشكل كبير منذ هِجرة جزء كبير من اليهود المغاربة، إما نتيجة الدعاية الصهيونية أو نتيجة بعض الأحداث المتفرقة التي جعلت عدداً من الأسر ذات الديانة اليهودية تفضل الهجرة خارج البلاد، وقد توزعت هذه الهجرة بصفة أساسية في اتجاه كل من إسرائيل وفرنسا وكندا والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، لكن الغالب في الحياة الدينية للمغاربة هو التسامح والعيش المشترك مع المغاربة اليهود.

سابعاً- الإرتباط العضوي الذي كانت تشهده قوى المعارضة مع منظمات المجتمع المدني النشيطة في الجانب الحقوقي وتلك التي تعمل على الواجهة النقابية، إذ كان هناك نسيج واسع من الجمعيات التي تشتغل في مختلف المستويات على الصعيد الوطني، هذا الترابط ساهم في انسجام وتكامل المبادرات المدنية والسياسية والنقابية التي كانت تسعى إلى نزع الطابع السلطوي عن الحكم.

هذه العوامل مجتمعة -وعلى أهميتها- لم تكن لتحقق النتائج التي وصل إليها المغرب، لو لم يكن هناك نظام ملكي يجمع الشرعية الوطنية والتاريخية بالنظر إلى الدور الوطني الكبير الذي قام به الملك الراحل محمد الخامس، والذي تم نفيه هو أسرته إلى مدغشقر على غرار باقي قادة الحركة الوطنية مثل عبدالكريم الخطابي في مصر وعلال الفاسي في الغابون ثم مصر. فبالإضافة إلى الشرعية الوطنية والتاريخية، نجد الملك هو أمير للمؤمنين، وهذا الأمر جنّب البلاد ظهور تيارات الإسلام السياسي بنفس المضامين المتشددة الموجودة في الشرق الأوسط، أو على الأقل تمت مغربة ذلك التيار سواء على المستوى الأدبي أو من حيث الممارسة.

هذه الشرعيات المتعددة تعززت في سياقات معينة بشرعية الإنجاز، التي تتمثل في حجم محاولات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي التي واكبت عملية العدالة الانتقالية، والتي ساهمت في تيسير عملية المصالحة وبناء العدالة الانتقالية، فعندما يكون في موقع السلطة العليا من يجيد قراءة التحولات الداخلية والخارجية، ولديه خلفية وطنية ودينية متنورة، فإن عملية التغيير تملك شروط النجاح.

قد لا يكون نجاح التجربة المغربية مستمراً بصورة آلية، ولكنه نجاح تحقق لأنه كان يعبر عن قناعات حقيقية لدى كل الأطراف الرئيسية في عملية التحول الديموقراطي، بالطبع يمثل مسار الانتقال درباً معقداً وما زالت تواجهه صعوبات وعراقيل، لكن رغم كل الانتقادات التي يمكن توجيهها، فإنها تبقى أفضل التجارب في المنطقة، إذ قامت في ظل استمرار نفس النظام السياسي، وحافظت على مقدرات البلاد الاقتصادية، وهو تمرين صعب لكنه ليس مستحيلاً على كثير من بلدان المنطقة، ونموذج خروج الإسلاميين من السلطة سلمياً خير دليل على ذلك.

(٭نقلًا عن النهار العربي)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق