سلايدرسياسة

التاريخ السياسي لأثيوبيا في القرن العشرين (1)

طلال الناير

في إثيوبيا، وعلي غير عادة دول العالم الثالث، يحظى الرؤساء والزعماء المتعاقبين علي الحكم بالقبول بنسب شبه متساوية لدي الناس. علي أرصفة أديس أبابا ستجد صور الرئيس (زينّاوي) الذي أطاح بـ(منغستو)، وصورهما تجاور صور الإمبراطور (هيلاسيلاسي) الذي قتله (منغستو). الرئيس السابق )منغستو هيلاماريام( يظهر غالباً في أغلفة الكتب والمصلقات وهو مرتدياً بدلته العسكرية أو بحُلة رمادية داكنة، وغالبة من يؤيديه من الشباب وقدامى الماركسيين والجنود. أما صورة الوجه المتجهم للأمبراطور (هيلاسيلاسي) فيضعها غالباً الملتزمين دينياً مع الكنيسة الإثيوبية الأرثوذكسية التي يصل عدد أتباعها إلى 40 مليون شخص، وهى تدعي بأنها الكنيسة الوحيدة التي حافظت علي نقاء المسيحية. جماعة الراستافاراي يؤمنون إيماناً قاطعاً بأن الإمبراطور لم يمت وإنما صعد بجسده للسماء وذلك بالرغم من الجنازة التي أقيمت لتأبين (هيلاسيلاسي). أما صورة الرئيس الراحل (مِلّس زناّوي) فتكون عادة في الشوارع بالحجم الفائق الضخامة، وعلي حافلات المواصلات وداخل حافظات النقود، وبعد رحيله أصبحت الصورة الأكثر إنتشاراً خصوصاً لدى الشباب. في أديس أبابا ستجد النصب التذكاري العملاق للصداقة الإثيوبية الكوبية الذي أفتتح عند زيارة الرئيس (فيدل كاسترو) لأثيوبيا بعد قيام نظام الـ(Derg) الذي سيطر عليه حزب العمال ذو الأيدولوجيا اللينينية، وأصبح بمثابة رمز للإشتراكية في إثيوبيا، وأحد أبرز معالم الحرب الباردة. وفي نفس المدينة ستجد كنيسة (هيلاسيلاسي) وأتباعها الذين يؤمنون بألوهية الأمبراطور، وستجد أيضاً مقرات تجمع أنصار حزب الجبهة الشعبية الثورية الإثيوبية (EPRP) التي تضم قرابة الثلاثة ملايين عضو. كلهم يتجاورون بسلام علي أرض إثيوبيا، ولكن التاريخ يقول بأن هذا هو الإستثناء وليس القاعدة.

ساحة “مِيسّكْل إسكوير” في وسط مدينة أديس أبابا تصبح في المساء مكان لللإسترخاء أو ممارسة الرياضة، ولكن هذه الساحة كانت سابقاً المكان المُفضل عند جنود الجنرال (منغستو) لتنفيذ أحكام الأعدام العلني في المعارضين، وذلك بعد إجبار الموظفين وطلاب المدارس والجامعات على الحضور لمشاهدة هذه المجازر. في طرف ساحة “مَيسّكْل إسكوير”، على شارع بولي رود، يوجد مبني صغير الحجم، أسود اللون، مكتوب عليه بحروف بارزة  Martyrs Memorial Museum”Red Terror”. هذا المتحف أقامه في العام 2010 أهالي وأصدقاء ضحايا الجوع والتعذيب والإغتصاب في عهد الإمبراطور (هيلاسيلاسي)، والرئيس (منغستو).

الإمبراطور (هيلاسيلاسي) أستغل مكانته الدينية كرئيس للكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية وفرض نمطاً قاسياً من الحياة على مواطنيه بينما كان البلاط الملكي يعيش في بذخ لا يوصف، الإمبراطور كان يفرض ضرائب ثقيلة علي أتباع الكنيسة. المكانة الدينية التي كان يتمتع بها كانت تمنع الشعب من الثورة ضد الإمبراطور (هيلاسيلاسي) الذي لم ينتهز فرصة وقوف الشعب معه في وجه الإجتياح الإيطالي لإثيوبيا، بل واصل في عجرفته حتي وصل الأمر لقيام المزارعين بأول عصيان مدني ضخم عام 1948 أمام القصر الإمبراطوري الذي جرت أمامه صدامات دموية لم تنتهي فقط بمقتل مئات المزارعين، بل كانت العقوبة بمضاعفة الضريبة محل العصيان نفسها. علي جدار المتحف يوجد خطاب بخط يد الملك وجهه لأبناءه وأحفاده عام 1973؛ في هذا الخطاب يقدم الإمبارطور “نصائح أبوية” لأولياء العهد الجدد بكيفية معاملة الشعب، خاصة المزارعين منهم، حيث قال لهم إن الله أعطاه هذه الأرض، وهو بدوره سوف يهبها لهم بمن فيها وما فيها.

في العام 1960 قام البريجيدور جنرال (منغستو نوّاي) وشقيقه (غِرّمامي نوّاي) بمحاولة إنقلاب فاشلة نتج عنها إنشقاق دموي في الجيش، وفي اليوم الثالث للإنقلاب وقعت مجزرة ضخمة في القصر الإمبراطوري قُتل فيها وزير الدفاع (راس أبابا أرغاي)، والوزير (أباهانا). حوصر في هذه المجزرة رئيس الوزراء السابق (تشازما بازابيه)،  والأميرة (نتنانورك) إبنة الإمبراطور؛ والتي هى زوجة رئيس الوزراء (راس أندرّغاشومساي) الذي كان معهم، وقد هربوا بعد تلطيخ أنفسهم بالدماء والإختباء وسط الجثث التي تحملها السيارة لإلقاءها خارج القصر. بعد إحباط المحاولة الإنقلابية تشائم الإمبراطور من القصر وقام بمنحه إلي جامعة أديس أبابا. هذا القصر يقع الآن في شارع الملك جورج بميدان (سِدّس كيلو)؛ وتحديداً في كليه التعليم التي قامت بتحويل مقر الإمبراطور إلي متحف. مرشد المتحف لا يقدّم إلي الزوار المعلومات المتعلقة بالمجزرة التي وقعت في القصر، فهو يشير بيده إلى سرير الإمبراطور ولكنه لا يخبرهم كيف حضر السرير إلي متحف داخل كلية التعليم.

إنقلاب البريجيدور جنرال (منغستو نوّاي) حظى بدعم جماهيري محدود، ولكن هذا الدعم تزايد أثناء محاكمته التي بثها الراديو الإثيوبي يوم 14 ديسمبر عام 1960. زاد الغضب الشعبي بعد تنفيذ سماع الكلمات الأخيرة للجنرال قبيل إعدامه والتي قال فيها للقاضي: «أنا أتقبل الحكم بالإعدام الذي قضيته علي بلا رأفة، ولا يتوجب علّي طلب الرأفة. لو كان الأمر عند الشعب الإثيوبي فلسوف أطلب منه الرأفة، من المؤكد بأنني أحتاجها كثيراً، ولكنني أعرف بأن هذا لن يحصل. لذا؛ فأنا لا أنوي رؤية وجه هيلاسيلاسي في مكان إظهار الرأفة. ليس لديّ شك بأن فقراء شعب إثيوبيا سوف يقومون قريباً بتكملة المحاولة التي قمت بها من أجل مصلحتهم ». كسرت هذه المحاولة الإنقلابية حاجز الخوف عند الإثيوبيين فأصبحوا يجاهرون بمعارضة الإمبراطور، إبتداءً من جمعية المعلمين الإثيوبيين التي قادت إضراباً  شاملاً ورفضت العودة للعمل إلا بعد مقابلة الإمبراطور شخصياً وقراءة مطالبها أمامه. وكانت هذه المعارضة العلنية مصدر إلهام لحركة المقاومة الطلابية في جامعة أديس أبابا التي كان يقودها (تيلاهون غِزّاو)، والذي كان للمفارقة من أعضاء الأسرة الإمبراطورية والذي تم إعدامه بصورة علنية في ساحة الجامعة عام 1960 بواسطة الشرطة، وقد توسعت حلقة الإعدام لتشمل بقية قادة الطلاب مثل (مارتا مِبْراتو) و (واليليغني ماكونّن).

بصعوبة كان الجيش الإمبراطوري يستطيع السيطرة علي البلاد، فالمجاعة كانت تطحن سكان الأرياف، وكانت المدن تضج بإحتجاجات شبه يومية، ولكن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت عندما عرض التلفزيون الحكومي الفيلم الوثائقي (The Hidden Hunger) الذي قام به الصحفي الإنجليزي (جوناثان ديمبلي) وهو الفيلم الذي عُرض في سبتمبر من العام 1973. النظام لم يدرك فداحة عرض الفيلم في التلفزيون الرسمي للدولة إلا بعد أن جاءت ردود الفعل الشعبية التي بدأت بتنظيم إعتصامات كبيرة لم يفلح البوليس في قمعها، إعتصامات اِستمرت لعدة أشهر. وكعادة النظام فقد قام الجيش بإعدام قادة الإعتصامات، وكان العام 1974 هو العام الأسوء في حصيلة الإعدام، وكان (آبيدا جومو) رئيس إتحاد العمال الإثيوبيين هو أحد أبرز الضحايا في ذلك العام، ولكن من المؤكد لن يكون الأخير. بعد عرض الفيلم الوثائقي تغيرت شكل المطالب، ففي البداية كان الشعب يطالب بإصلاحات في نظام الحكم، ولكن بعد ذلك ظهرت المطالب العلنية للإطاحة بالإمبراطور، ومع الزمن تبدلت طبيعة قادة الإضرابات؛ ففي البداية كانوا من الطلاب والمثقفين، ولاحقاً أصبحوا من العمال والمزارعين وجنود الجيش. كانت أغلبية الإضرابات ذات مطالب إقتصادية ومنها علي سبيل المثال إضراب سائقو التاكسي عن العمل يوم 23 أبريل 1974 للإحتجاج علي زيادة أسعار البنزين. وكان إعتصام المسلمين الإثيوبيين تغييراً نوعياً بارزاً في حركة المطالبة بالديموقراطية، ففي إعتصام يوم 26 أبريل 1974 إنضم اليهود للمسلمين المطالبين بالمساواة بين الأديان، وشاركهم المسيحيون في مرحلة لاحقة. كل هذا جعل نظام (هيلاسيلاسي) في وضع لا يُحسد عليه، وهو الشئ الذي شجع الجنرال (مَنّغْسِتو هيلِامرّيام) بتنظيم إنقلاب عسكري حاسم أسقط به حكم الإمبراطور الذي إستمر لمدة 45 سنة، وأسقط الحكم الملكي الذي دام لأكثر من 1200 سنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق