ثقافة وفن

روايات

فصل من رواية قيد النشر للمصري طلعت رضوان

القاهرة – النهار العربي

بينما لم أرَ أمي، التي ماتت بعد ولادتي بأسابيع، فقد عاشت ستي/ جدتي لأبي حتى بلغتُ العشرين من عمري، أو أكثرمن العشرين، حيث– كما أذكر جيدًا– كنتُ بدأتُ أهتم بقراءة كتب الأدب والمجلات الثقافية التي كانت تصدر في فترة الستينات من القرن العشرين. ونظرًا لأنني لم أع الكثير من طفولتي، فقد كنتُ أحرص على (جمع) المعلومات من ستي، خاصة المعلومات المُتعلقة بتلك الفترة (الضبابية) من حياتي بعد وفاة أمي.

وبالرغم من أنّ ستي كانت (حكَّاءة) بطبيعتها، حيث سمعتُ منها الكثير من (الحواديت) إلاّ أنها– وقد تعدّت سن الثمانين– بدأت تفقد الكثير من التفاصيل، أو ربما أنّ التقدم في العمر، أفقدها الاهتمام بالحياة، سواء ما يتعلق بماضيها أو حاضرها. ولكن بمجرد مُـشاغبتها والحفر داخل بئر ذكرياتها، كانت ذاكرتها تنتعش وتتفتح، كأنما هي زهرة تقاوم الذبول، فتنطلق لتحكي، وترد على أسئلتي.

حكت لي عن الفترة التي أعقبت وفاة أمي، وأنها تركت منزل عمي الحاج بركات؛ لتعيش في بيت أبي، حتى ترعاني أنا وشقيقتي التي كانت تكبرني ببضعة أعوام. وقالت أنني كنتُ أبكي وأنا أتعلق بذيل جلباب أبي ليأخذني معه، وهو يجر عربة العيش الذي يبيعه لسكان العباسية. واستخلصتُ منها أنّ ما بدأ على أنه (عناد) أطفال للخروج مع أبي لتوزيع العيش على الزبائن، تحوّل إلى عادة تمسَّك بها أبي، الذي كان يصحبني معه لتوزيع العيش في فترة إجازات المدارس.

وحكت لي عن الست أم نعناعة التي تولَّت رضاعتي بعد وفاة أمي، وأن أمي والست أم نعناعة كانتا (أكتر من الأخوات) وفق نص كلام جدتي، فكانت أم نعناعة تذهب مع أمي لزيارة السيدة زينب والسيدة نفيسة وسيدنا الحسين، وتذهب أمي مع أم نعناعة لزيارة (سِتِنا العدرا) في حي الزيتون، وزيارة المقدس سيدي العريان بالمعصرة بالقرب من حلوان، وأن زوّار المولد كانوا من المسيحيين والمسلمين، وأنّ المسلمين أطلقوا عليه (سيدي محمد العريان)!

الشيء المُـثير للإنتباه أنّ جدتي وهي تحكي لي عن (رغيف السمن بالسكر) كانت تلك المرحلة من طفولتي تطفو من بئر ذكرياتي، إلى وعيي ولم تنطمس، وأتذكرها بكل تفاصيلها، وكأنها حدثت منذ أيام وليس منذ سنوات.

كان بيت أبي في نفس الحارة التي فيها فُرن عمي الحاج (بركات) وفي أيام الدراسة– وكنتُ في المرحلة الإبتدائية– كانت جدتي تطلب مني الذهاب إلى الفرن، لإحضار العيش الطري السُخن. فكانت تفتح الرغيف من حوافه، وتدهنه بالسمن البلدي، ثمّ ترش السكر على السمن، وتضع ذاك الرغيف في (المِخلة) القماش التي فيها كراريس وكتب المدرسة. وأتذكر أنّ السمن كان يفرّ من الرغيف ويغزو الكتب والكراريس، التي يفرض السمن سلطانه عليها.

لم تطل مدة ترمُّل أبي، حيث تزوّج بعد وفاة أمي بحوالي ستة شهو ر، وفق رواية جدتي، وكان من حُسن حظي وحظ شقيقتي، أنّ الزوجة كانت (بنت خالة أبي) وأنّ أمها (ستي خضره) شقيقة ستي تفاحة أم أبي، وأنّ سيدي رضوان (والد أبي) قال للعروس يوم كتب الكتاب: “اسمعي يا ست أبوها (اسم زوجة أبي) لو إيدك اتمدتْ علا الواد طلعت أو علا أخته زينب، أنا اللى ح أضربك”. ويومها فإنّ ستي خضره (أم العروس) قالت لسيدي رضوان: “ما تخافش يا خويا. طلعت وأخته حيكونوا في عين ست أبوها وحتعاملهم زي ما يكونوا ولادها ولو زعلتهم أنا اللي حضربها”. 

عندما كانت جدتي تسرد عليَّ تلك التفاصيل، كنتُ أستعيد ذكرياتي عن زوجة أبي، التي أعتبرها استثناءً من قاعدة زوجات الأب. تلك القاعدة التي قال عنها شعبنا في أمثاله وأهازيجه: “مرات الأب داهية تاخدها يا رب”. وقال شعبنا عن الرجل (المِزواج): “جوز الاتنين يا قادر يا فاجر”، وأيضًا: “جوز الاتنين قفا بين كفين”.  أما عن صعوبة تعايش زوجتين لرجل واحد، فقد صاغ شعبنا الأمي هذا المثل البليغ: “عقربيتن علا الحيط ولا ستتين فى البيت”. أما عن تجربتي الخاصة في الحياة، فقد سمعتُ وعشتُ الكثير من المآسي التي تعرّض لها الأطفال من زوجات الأب، سواء في محيط الأسرة أو في محيط الجيران. ونظرًا لأنّ زوجة أبي لم تمارس ضدي أو ضد شقيقتي قسوة ملحوظة، باستثناء بعض تصرفاتها التي كانت فيها تنحاز لأولادها، فإنها كانت كالملاك بالنسبة لباقي زوجات الأب.

بعد زواج أبي، عادت جدتي لتعيش في منزل عمي الحاج بركات ولكنها كانت تحرص على المجيء لبيت أبي– كل يوم– لتطمئن عليَّ وعلى شقيقتي، وتكرر نصائحها وتوصياتها لزوجة أبي، حتى تُحسن معاملتها لي ولشقيقتي.

وأتذكر- رغم أنني في سن الثمانين وأنا أكتب هذا البورتريه لجدتي– أنها كانت تضع يدها في (سيَّالة) جلبابها لتُخرج منه بعض ثمار الفاكهة، وغالبًا كانت من التفاح أو الكمثرى أو البرقوق، فكانت ستي خضره (شقيقتها) التي كانت تأتي من القرية لتعيش معنا بالأسابيع، تقول لها: “إنتي يا تفاحه (اسم شقيقتها) بتحرمي نفسك من منابك وتحوشيه عشان طلعت وأخته زينب. يا ختي كلي وإنتي ممصوصة كدا وعاملة زي عود الدرا. دا أبوهم مش حارمهم من أي حاجو”. فكانت ستي تفاحة ترد عليها قائلة: “عارفة يا ختي، بس أنا ياما كلتْ وشبعتْ من كل خير ربنا، وبعدين الست تفيده – مرات ابني الحاج بركات – الله يسترها، هي اللي بتوصيني على طلعت وزينب”. فكانت ستي خضره تُمصمص شفتيها تعبيرًا عن عدم التصديق. وهذا المشهد الذي تكرّر كثيرًا كان يُشعرنى بالحيرة، حيرة جعلتني– حتى لحظة كتابة هذا البورتريه– غير قادر على الحسم حول: هل أصدق كلام ستي تفاحة عن زوجة عمي الحاج بركات، أم أتوقف أمام مصمصة شفاه ستي خضره وأبحث عن دلالتها. وكنتُ– وما زلتُ– أميل– بقلبي– إلى تصديق ستي تفاحة، رغم السؤال الحائر: لماذا كانت تضع ثمار الفاكهة في (سيَّالة) جلبابها، وتُخرجها كأنها تُخرج شيئًا مُحرمًا؟

وعندما تعرّضتُ لأزمة صحية– لا أذكر تفاصيلها– كانت ستي تفاحة هي التي أخذتني وذهبتْ بي إلى مستشفى الدمرداش لعلاجي. أتذكرها وهي تمسك كفي ونحن نسير في شارع رمسيس، (كان اسمه شارع الملكة نازلى) وأتذكر كلماتها للجيران وللأقارب: “طلعت دا ابن الغالية روحية. مش لازم يموت. طلعت لازم يعيش، عشان تفضل ريحة أمه”. 

إنّ ستى تفاحة التي تولتْ رعايتي في طفولتي، تركتْ في وجداني الكثير من روحها، بالغة النبل والحنان، خاصة وأنها نقلتْ لي انطباعاتها عن أمي، تلك الانطباعات التي تسرّبتْ إلى وجداني، لدرجة أنها– من كثرة ما حكته عن (طيبة) أمي وعن (الحب) الذي غمره بها (كل) الأقارب والجيران، خاصة وأنها– أمي– بشهادة الجميع– كانت ترفض (الخوض) في (سيرة الناس) وترفض الإدلاء بأية معلومات قد تمس الحياة الشخصية لأي إنسان، وعندما كان البعض يضغط عليها حتى تبوح بما تعرف، لم يكن على لسانها غير رد واحد: “ما أعرفش حاجة، ما سمعتش حاجة”. رغم أنّ الجميع يؤكدون أنها تعرف وأنها سمعتْ.

إنّ ما ذكرته ستي تفاحة عن أمي، جعلني أختلق لنفسي (سيناريو)، أتخيل فيه (صورة) أمي، وكأنني لم أفقدها، وأرسم لها كل المشاهد التى سمعتها عنها، سواء من جدتي أو من خالتي التي لم تغادر دنيانا إلاّ منذ سنوات، بعد أنْ تعدتْ سن الثمانين. في ذلك السيناريو كنتُ أشعر أنني (مع أمي) التي لم أرها، وذلك بفضل الدور الذي لعبته جدتي في طفولتى. وكنتُ– وما زلتُ– أشعر بأنني سعيد الحظ، حيث كان لي أكثر من أم: أمي البيولوجية التي لم أرها، ولكن روحها تسرّبتْ إلى وجداني، وأمي التي رضعتُ لبنها (الست أم نعناعة) وكانت ستي تفاحة هي الأم الثالثة، لأنها– ربما– تكون هي السبب الذي جعلنى أختلق ذلك السيناريو، وأصدق تخيلاتي، عن صورتي وأنا في حضنها، في تكذيب للواقع المادي الذي يؤكد أنني لم أرها، ولم أستمتع بحضنها، وأنّ بئر ذكرياتي ليس فيها أية (صورة) عن وجهها الحقيقي، فكان البديل وجهها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق