سياسة

صُنع في سورية

سوسن جميل حسن

ألِفَ ناسٌ كثيرون رؤية أفراد في شوارع مدنهم، ولو كانوا قليلين، يمشون وليست لديهم أذرع، غالبيتهم من مواليد أوائل ستينيات القرن الماضي، كما أنهم شاهدوا فيما بعد على الشاشات مشاهد أكثر فظاعة، من أفراد بلا طرفين علويين ولا سفليين، إنما نتوءات مكانها، أو أطراف ممسوخة وقصيرة غير قادرة على القيام بوظيفتها، هذه الحالة تسمّى طبيًّا المولود الفقمة، أو تفقّم الأطراف، وسببه، بنسبة عالية، تناول أمهات حوامل دواء التالوميد في أواخر خمسينيات القرن الماضي وستينياته، بعد أن قالت الشركة المصنّعة إنه لا يؤثر على الأجنّة وبإمكان الحامل استخدامه بأمان للسيطرة على التقيّؤ، ومُنع الدواء من الاستخدام إلى اليوم إلّا في بعض الحالات الخاصة كمرضى الجذام على سبيل المثال، تحت ضبط قوانين صارمة وتعهّدات من قبل المريض، كما أن دعاوى عديدة رفعت على الشركة، وربَحها معظم أصحابها وعوّضت الشركة لهم. وهناك حالاتٌ أيضًا لا يكون سببها التالوميد، إنما طفرة جينية متنحّية تسبب نقصًا في بروتين معين يؤدي إلى ولادة أطفالٍ يحملون هذه العلامات، يسمّى تناذر رباعي إميليا، وهو يظهر في حال اجتمع الجين الحامل الصفة المقهورة من الأب مع ما يماثله من الأم، ولهذا التناذر درجات مختلفة من حيث الأعراض وشدّة التشوهات، أبسطها غياب الأطراف من دون مشكلات أخرى.

لهذه المقدمة علاقة بالصورة التي ربحت جائزة “سيينا” لهذا العام (2021)، التقطها المصور التركي، محمد أصلان، في الريحانية بالقرب من سورية، لأب سوري مبتور أحد الطرفين السفليين، يستند إلى الطرف السليم ويسند عكازه الطبي إلى خصره، بينما يرفع عاليًا طفله المصاب بهذه المتلازمة، بينهما جسر إنساني صعب على أي صورة أو لغة أو أداة تعبيرية شرحه، طرفاه ضحكتان تغمران وجهين إنسانيين، وعيون تنظر في عمق بعضها بعضًا، أطلق على الصورة عنوان “مشقّة الحياة”.

هل تحتاج هذه الصورة إلى شرح؟ وهل العنوان الذي أطلق عليها يصل إلى عمقها؟ لا يمكن أن تمرّ الصورة الفوتوغرافية، أي صورة، بلا معنى، فهي تشتغل وفق وحدةٍ تامةٍ من العناصر الخاصة، تقدّم نفسها بصورة كليّة متكاملة، فمجموع العناصر المشكلة أو المجتمعة في هذه الوحدة تفرض على المتلقي تصورَها بوصفها وحدة متكاملة لها نظامها المتجانس، وهذه الوحدة هي التي تنتج الصدمة لدى المتلقّي، وتحفّز عملية الاستقبال لديه، وتشحن، في الوقت نفسه، فعله التأويلي وإدراكه. .. يقول رولان بارت: تكون الصورة الفوتوغرافية تمثيلًا للجسد/ الذات. الجسد بكل تواريخه، والكتابة اندثار للجسد وظهور ذات جماعية مؤدلجة، مجهولة.

هل كانت صورة الطفل إيلان، الملقى على بطنه جثة هامدة على الشاطئ، بعد أن قذفته الأمواج في طريق الجلجلة السورية، تحتاج شروحات وتأويلات، وشرحها كدالّ وربطها بمدلول أُشبع أدلجة وتسويقًا وتثقيلًا بكلامٍ وخطاباتٍ لم تؤثر بشيء سوى إضعاف الصدمة التي تحدثها الصورة الرهيبة، الصدمة الكبيرة التي ترجّ الوعي والضمير؟ هناك ما لا يُعدّ ولا يُحصى من الصور الفوتوغرافية عن أطفال سورية خلال أكثر من عشر سنوات من الحرب والقصف والعنف والتهجير والحصار والتجويع، في مخيمات اللجوء، في مسيرات الهروب الجماعي تحت المطر والثلج والبرد، في الأعاصير، في الفيضانات التي تُغرق الخيم والعواصف التي تخلّعها، في الأطراف المبتورة والأجساد الممزّقة تُنشل من تحت الأنقاض، في الأكفان الملفوفة لأجساد صغيرة، في وجوهٍ ذاهلةٍ وأخرى باكية وغيرها معفّرة بالتراب، وغيرها ضاحكة وسط الخراب والعدم، وجوه تحكي تاريخًا وأخرى تعجز الفلسفة عن فهمها، صور وصور وصور، والعالم لم يستطع أن يقدّم ما يحمي الطفولة.

لماذا لا تُترك الصور بدون تعليق أو شرح؟ يختلف التعبير اللغوي تمامًا عن التعبير الدلالي للصورة، وقد يضعف من زخمها ويسحب الأضواء عن أيقونيّتها لصالح اللغة، ما يُدخل في مبارزاتٍ وصراعات إيديولوجية ومشاحنات تُشعل ساحات أخرى من الصراع، تجعل من الصورة، عظيمة الشأن وبالغة الحمولة، تنزاح بالتدريج لتتجمّد في الظل وتتراخى العرى التي تربط مكوناتها وتجعل منها وحدة كليّة قادرة على إحداث الصدمة والشروخ في الوعي والضمير، فهل يمكن ترك الصورة تُقرأ بحريةٍ لا مشروطة، وتحميلها إيديولوجيا ما أو عقيدة ما أو شحنة عاطفية ما، في وقتٍ يمكن أن تقول وحدها بأدواتها المعنى كلّه؟

بالعودة إلى صورة الأب وابنه بلا أطراف، يكفي أن يكون الأب سوريًّا أولًا، ومن خان شيخون ثانيًا، ومبتور الطرف السفلي ثالثًا، ولديه عكّاز طبي مسنود إلى خاصرته رابعًا، وبين يديه المرفوعتين عاليًا طفل، لا يمكن تحديد عمره بدقة من الصورة، لكنه يبدو قبل سن دخول المدرسة، بلا أطراف أربعة، ما عدا استطالات قصيرة مكان الطرفين العلويين، خامسًا، ثم هذا الدفق المتبادل من التعابير التي تكاد تغرق الناظر إليها بمعانٍ لا يمكن بلوغها، تغوص في لجّة الوجود الإشكالي الحارق، والأسرار المتبادلة بينهما، بل وحدها ضحكة الطفل تكفي لتجعل من الصورة محصّنة في وجه اللغة والشروحات جميعها، طفل أمامه عمر بحاله، أمامه حياة من حقّه بفطريةٍ تامة، كما هي من حق أي مخلوق، والحياة بالنسبة للأطفال كقوس قزح، مبهجة وواعدة ولا نهائية، فكيف يُعتدى عليها من الأقوياء والجبابرة؟ وبأي حقٍّ تُنتزع منهم؟ بعيدًا عن حالة الطفل في الصورة التي هي من أخطاء الطبيعة، الذي من حقّه العلاج وتأمين ما يساعده في حياة كريمة لو كان في بلاد أخرى، بلاد هدف حكوماتها الأول: الإنسان المواطن لديها، لكن هذا الطفل ذو الوجه الجميل الكامل البريء يضحك، لأنه لم يتعرّف بعد إلى الوجه الآخر للحياة، ما زال يتهجّاها، وما زال على عتبتها، لن يمر الكثير من الوقت حتى تبدأ الأسئلة الجبارة بمحاصرته من دون أن يفهم لماذا؟ لماذا هو ناقصٌ عن غيره؟ لماذا أبوه ناقص أيضًا؟ لماذا لا يستطيع الإمساك بالأشياء؟ لماذا لا يستطيع الذهاب إلى المدرسة؟ لماذا لا يستطيع اللعب كغيره؟ ستتحوّل الأسئلة إلى لماذا كبيرة تبتلع الكون وتبتلعه، من دون أن يلقى جوابًا، لكنه، وهو يكبر، سيمتلئ بالأسئلة الصعبة، ليأتيه الجواب بعد حين، الجواب المانع أي احتمالات أخرى، الجواب الحامل حقيقة صادمة: لأنه من بلاد تُدعى سورية، يُقتل أهلها وأطفالها ونساؤها وشيوخها، يُهجّرون ويحاصَرون ويجوعون ويُسامون كل أنواع المهانة والإذلال في الداخل والخارج، بلاد لم تمزّق الحرب جزءًا من شعبها وتعرضهم الشاشات أشلاء تتطاير جرّاء القذائف فقط، بل مزقتها وصارت كيانًا مقسمًا وشعبًا مقسمًا ومجتمعات متنافرة متهالكة تتراجع في مسيرة التاريخ، تنفق أعمارها في سبيل سد الرمق ليس أكثر، كل هذا في صراع محموم أعمى على السلطة، أدواته الشعب. يكفي أن تُعرض هذه الصورة وغيرها الآلاف أمام عيون الشعوب وضمائرها في كل الأرض، بصمتٍ كما يليق بها، بلا كلمة ولا عنوان، مثلما سمّتها اللجنة بجملة قاصرة “مشقة الحياة”. يكفي أن يُشار إلى بلد المنشأ تحتها: صنع في سورية. ولتصمت كل الأفواه عن الكلام، لتخرس الألسنة وتخرس اللغة، حتى لا يبقى سوى هذه الصورة بجلالها الحارق، بحمولتها من الأسرار التي تفوق العقل، لكنها يمكن أن تنفخ الحياة في الضمائر المغيّبة في سباتها المديد.

(عن العربي الجديد)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق