ثقافة وفن

قصة قصيرة

عودة

تماضر كريم

عندما كان الماء ينساب على جسدها بكلّ نعومة، وقد راحت تفرك بيديها مناطق جسدها العاري، في ذلك الصباح البارد، لمحتْ في لحظة شاردة تلك البقعة البيضاء الصغيرة في زاوية من كوعها الأسمر الناعم.
انخلع قلبها، و تسارعت نبضاته وغشيتها نوبة غثيان وخوف شديدين. فورا أغلقت ماء الدوش الغزير، وراحت تتفحص بدقة شكل البقعة البيضاء، لمستها بأطراف أصابعها، ليست ثمة خشونة فيها، لاشيء سوى ذلك اللون المخيف الذي يسبّب الفزع.
لم تستطع إكمال حمامها، في العادة تأخذ وقتا طويلا، لكنها كانت تشعر بالهلع، لفت جسدها بمنشفة بيضاء كبيرة، واستلقت لاهثة على الأريكة.
(هذه البقعة البيضاء الصغيرة ليست مصادفة، إنها خطة الطبيعة المحكمة لتحويل هذا الكم الكبير من السعادة إلى جحيم، لكن كيف سأخبره بعد شهر واحد من الزواج أن شكلي الذي سحره سيختلف كثيرا)؟!
بعد أن هدأت قليلا، وتنفست بعمق، قررت أن تبحث عما إذا كانت هناك بقع أخرى، ويا للهول، لقد وجدت في بعض الزوايا من جسدها الذي يصفه زوجها بالفاتن البعض منها، بقع صغيرة جدا في زوايا قصية، ربما خرجت مرة واحدة في ذات الوقت.
لقد تمكن منها الذعر، و بكت بمرارة.
بعد ساعةٍ من الصدمة والألم، وفي لحظةٍ ما، لا تعرف كيف بدا لها أنها تضخم الأمور، وقررت أن تعتبره أمرا قد يحصل للجميع. قامت وارتدت ملابس الخروج، بعد أن أزالت آثار الدموع، وقادت سيارتها إلى طبيب الأمراض الجلدية.
بكلّ هدوء واجهت الحقيقة، أن تلك البقع البشعة ستنتشر و تتسع، وأن شكلها لن يعود كما كان، حتى كلمات الطبيب المطمئنة كانت تتطاير من حولها مثل ذرات الغبار دون أي أثر. ثمة أمر عليها مواجهته يوميا وهو صورتها في المرآة، الصورة المشوهة الجديدة.
في المنزل، وعلى مائدة الطعام، كانت تخبره ببساطة شديدة عن الأمر، لقد واتتها شجاعة كبيرة، وهي تحكي له كيف إنها ستغدو مسخا وقد ضحكت ضحكةً مرّة، فيما كانت تراقب ملامحه الحزينة المذهولة( لا عليك حبيبتي…سنرى أطباء آخرين).
أدركت بطريقة ما أنه يفكر في الإبتعاد، هذا ما خطر لها عندما لم يعد يقبّلها كثيرا في فمها، و راحت قبلاته الحانية تذهب إلى جبينها.
لقد رفعت جميع المرايا من المنزل الكبير، حتى الصور الكثيرة التي التقطاها في شهر العسل ببيروت و كازابلانكا، تلك الصور المليئة بالضحكات في المدن التي يحبان، كلها حملتها مرة واحدة وخبأتها في المخزن مع الأشياء الفائضة.
كانت البقع تأخذ منحىً غريبا يشبه شكل الخرائط، ذكرها كيف كانت تستلقي على العشب في بيت الطفولة بمدينة سامراء، و عيناها تطاردان خرائط السحب البيضاء وهي تتشكّل بطرق مختلفة غريبة مدهشة، فترى هناك وجوها و مدنا و أشجارا وأشياء لا تخطر ببال.
(كم كانت سماء قريتنا نقية، قبل أن يهز الأرض تحتي ذاك الصوت المدوّي، بلحظة واحدة صار لون السحب أسودَ تماما، وانهارت من بعيد تلك المنائر الممشوقة، كنت مرتعبة، أبكي وأصرخ و شعرت أن العودة للمنزل أمرا مستحيلا، لكني عدت ملطخة بالرماد والدموع والأسى، بعدها تغيرت سامراء كلّها، لم تعد هادئة حلوة مفعمة بالحب، لم تعد السحب تشكّل تلك الخرائط الفريدة).
‏فيما بعد نسيتْ كيف كان شكلها السابق. كانت عندما تلمح وجهها على زجاج النافذة أو شاشة الهاتف، أو في مرآة سيارة عابرة، تخفض عينيها بهلع. لكنها بطريقة ما إعتادت كلّ شيء، محاولات زوجها التظاهر أنه غير مهتم، كثرة غيابه عن المنزل، إعتادت حتى لحظات انهيارها المتكررة.
‏لقد توارتْ سامراء من ذاكرتها، بعد أن ألقت بنفسها في أحضان فرانكفورت ذات السحر الغريب منذ ذلك اليوم الذي تبدلت فيه السماء واستحال لونها رماديا. أوشك أن يكون كلّ شيء في قلبها ركاما لولا أنها التقت به ذات يوم، كان كاملا و
‏لوقتٍ ما كانت كل الأشياء كاملة. حتى اجتاحها ذلك البياض مثل أسرابٍ من الجراد. كان أكثر ما يقلقها وقت الطعام، لم يعودا يتبادلان الأحاديث وهما يأكلان. لقد بدا لها بوضوح أن عينيه لم تعودا تنظران إليها كثيرا، ربما وهي تأكل كانت تسبب له الغثيان..يا للهول!
‏عندما خرج للعمل، فكرت وهي تنظر من خلال النافذة لحديقة المنزل الضاجة بأنواع الورد، كم كانت ستكون محظوظة لو لم تبزغ هذه البقع اللعينة من المجهول، لكنها هنا الآن مع مرضها و حزنها و شعورها الساحق بالوحدة( سأظل أقول لماذا أنا .. لكن هذا السؤال لايبدو منطقيا أبدا .. في كل الأحوال سيكون هناك شخص ما عليه أن يتسائل ذات السؤال.. لكن من عساه يكون سواي، هنا الآن يعاني مع هذه التصبغات البشعة؟ ربما كل ما عليّ فعله هو أن أرحل، أرحل بعيدا، ليعيش هو حياته الجديدة).
‏قررتْ أنها لن تجعل الأمر صعبا، لن يكون هناك وداع، حقيبة كبيرة ومبلغ من المال وجواز سفرها الذي اعتاد حفظه مع اشيائه الخاصة.
‏كانت مدينة الطفولة تناديها من بعيد، لم تعد تعرف شكل سمائها، لكن بيت العائلة هناك، والأرض التي تحتاج العشب والورد( سأرحل مع هذا الحزن الكبير، وأريقهُ هناك، حتى لون جلدي و خيبتي وحبي الضائع، كلّه سيكون معي، هناك في أمان).


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق