ثقافة وفن

يوم الدين … لمن لا يريد أن يموت وحيدًا

عندما تكون التجربة السينمائية الأولى غنية، والغنى هنا يكمن في ترابط عناصر صناعة الفيلم، تسأل نفسك: ما الذي سيقدمه المخرج في الفيلم الثاني؟ بحيث تكون المقارنة حاضرة، وهذا ما يثقل كاهل مخرجين اكتفى البعض منهم بتجربة أولى، مثل فيلم “المطلوبون 18” للمخرج الفلسطيني عامر الشوملي، والذي، على ما يبدو، أن نجاح فيلمه هذا جعله يعتكف إلى حين الوصول إلى حكاية تتفوق على ما قدمه كتجربة أولى.

في المقابل، من شاهد فيلم “نحبك هادي” للمخرج التونسي محمد بن عطية، وكانت تجربة أولى لصنع روائي طويل، والذي نال ما ناله من جوائز عالمية، يقف مستغربا من تجربته الثانية التي حملت عنوان “ولدي” الذي عمليًا شد الجمهور من خلال أداء بطله محمد ظريف الذي استحق جائزة أفضل ممثل في مهرجان الجونة السينمائي في دورته الثانية، فقد حمل على كاهله نجاح الفيلم الذي تخبط بن عطية فيه، على عكس تجربته الأولى.

ومن التجارب الأولى أيضا الفيلم الفلسطيني “مفك” للمخرج بسام جرباوي، التي تبشر بقدوم مخرج شاب متمكن من أدواته و إدارته.

فقد كان مهرجان الجونة السينمائي في هذه الدورة حاضنًا لتجارب صناعة أفلام روائية طويلة أولى لمخرجين قدموا أفلاما قصيرة في السابق، وانتقلوا كحالمين لعرض أفلامهم الطويلة، مثل الفيلم السوري “حين اضعت ظلي” للمخرجة سؤدد كعدان، الفيلم الفلسطيني “مفك” للمخرج بسام جرباوي، وفيلم “يوم الدين” للمخرج المصري أبو بكر شوقي، والذي عرض سابقا في المسابقة الرسمية للدورة الفائتة من مهرجان كان السينمائي، وحصل مؤخرا على جائزتين في مهرجان الجونة السينمائي هما “نجمة الجونة كأفضل فيلم في مسابقة «سينما من أجل الإنسانية»، ونجمة الجونة في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، بجانب اختيار الفيلم لتمثيل مصر في  جائزة الأوسكار لأفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية.

وجوه جديدة بالكامل

هذا الفيلم، الذي يستحق التركيز عليه، لم يعتمد على تتر يضخ بأسماء نجوم، بل اعتمد على وجوه جديدة بالكامل، وحتى المخرج نفسه لم يسمع عنه أحد قبيل هذا الفيلم، ومع ذلك، أسر هذا الفيلم الجمهور بما قدمه من حكاية، الذكاء فيها أنها لن تجعل أبطال أحداثه محط شفقة بقدر ما تجعلك كمتلقٍ تعيد الكثير من الحسابات، وعلى رأسها معنى الرحمة ومعنى التنمر الاجتماعي للضعيف أو للمختلف الذي قرر المجتمع أن يكون مختلفا.

للأماكن وحضورها بطولة في “يوم الدين” فأحداث الفيلم تنتقل من (مستعمرة الجذام) إلى شوارع القاهرة وأزقتها وانتهاء بالمنيا، مع الشخصية المحركة للأحداث كلها (بشاي) التي أداها جمال راضي أو (العم راضي) كما يحب، وهو رجل أربعيني مصاب بمرض الجذام، أودعه والده المستعمرة على وعد أن يعود اليه ويصحبه مرة أخرى، لكنه لم يف بذلك الوعد، الذي عاد الى ذاكرة (بشاي) بعد وفاة زوجته (اريني) ودفنها وحيدة بالرغم من وجود ابنتها التي زارت قبرها بحرج، قرر حينها (بشاي) أن يلملم حاجاته على ظهر حماره وينتقل برحلة للبحث عن عائلته، يرافقه الطفل النوبي اليتيم “أوباما” وهو لقب حصل عليه بسبب لون بشرته، وهو نوع آخر من التنمر.

إنسانية على شكل كفن

في تلك الرحلة على ظهر حمار وحمولة فقيرة، ستواجه كمتلقٍ حياة كاملة تمر عليها بشكل يومي لكن بشكل عابر، ستدرك كم أنت منسلخ عن واقع يضج ببشر من لحم ودم وروح تحتاج إلى الالتفات ولو لمرة واحدة، وأشكال كثيرة، منها الضعفاء، والمعاقين، وبينهم من يمشون بصحتهم، ومن يخبئ غضبا وحزنا، وجوه كثيرة وحكايات أكثر ستعيشها في رحلة الطريق تلك، ستعي أن (بشاي) يريد أن يحقق مساواته مع الجميع، أن يجد من يشيع جثمانه ويبكي عليه ويترحم، وتكون بينهم عائلته التي تربطه بها صلة الدم، هو يريد أن يشعر بإنسانيته ولو لمرة واحدة حتى لو كانت تلك المرة على شكل كفنه، تفاصيل عميقة وشرحها يطول، من المهم عدم إضاعة أي فرصة لمشاهدة مثل هذا الفيلم الذي قدم مدرسة مختلفة في صناعة الفيلم السينمائي المصري تحديدا.

ستعي معنى القهر، وتدرك معنى أن يكون المرء مهمشا، وستتجمد تفاصيل وجهك وأنت ترى هذه المرة استقواء الضعيف على الأضعف منه، ليس استقواء القوي، ستعي معنى مرض (الجذام) الذي من الواضح أنه جديد في قاموس حياة كثيرين، ستعيش ضمن إطار إنساني بحت، كل جمالية في الفيلم تجعلك ترتاح أن ثمة أمل يحضن الجميع مع أنك تعي تماما أن هذا صعب التحقيق.

ستحب الطفل أوباما، وتعتز بقوته وثقته بنفسه، وتفهمه عندما يصل أثناء رحلته مع بشاي ، إلى المكان الذي يحوي أوراقه الرسمية، وعدم اهتمامه بمعرفة اسمه الحقيقي واسم والديه، ستفهمه تماما، كما فهمت سابقا (بشاي) الذي قرر أن لا يموت وحيدا، فهذه النماذج مثل نموذج المتسول وأصدقائه غريبي الشكل والهيئة، ستفهمهم لأول مرة في حياتك لأن أبو بكر شوقي جعلهم شديدي القرب بدون اقحام، بل بتسلسل درامي للأحداث دقيق في سرده.

كشف المستور

إضافة إلى هذا يقوم أبو بكر شوقي بكشف المستور عن المجتمع في مصر والمتمكنين سواء من أصحاب اللحى أو عصابات الشوارع، يريك كيف (بشاي) يضطر إلى أن يقول إن اسمه محمد كي لا تتم أذيته في موقف ما. رحلة طويلة يقوم بها بشاي وأوباما إلى أن يصلا المنيا، يقف أمام بيت عائلته يتردد ويخاف ويقرر العودة الى المستعمرة، لولا أوباما الذي يقرر أن يدق باب عائلته ويخبرهم عن بشاي الذي يعتقد شقيقه أنه مات من زمن، في حضرة الأب الذي بات غير قادر على الأكل لوحده تسقط دمعة منه أثناء مواجهته لبشاي، لتصل الرسالة: “لأني أحبك وضعتك هناك في المستعمرة كي لا تتأذى من البشر أكثر”. فيلم “يوم الدين” وضع يديه على قلوبنا وطريقة عيشنا وتعاطينا مع كل ما يتنفس حولنا، هو من الأفلام التي من الجميل أن يتم عرضها في المدارس وتعليم الطلاب عن معنى الـ “بني آدم”، فيلم يمر بسلاسة وجمال بالرغم من قبح كثير في تفاصيل الحكايات التي ستسمعها. فيلم فيه أمل توعوعي وإنساني من الممكن أن يساهم في بناء مستقبل أفضل لكل من يتنفس.

( نقلا عن مجلة فن)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق