سلايدرسياسة

وقفات في ثقافتا المحلية

الزغاوة … من الرعي إلى التجارة

بروف عبد الله التوم (أستاذ جامعيّ)

يهدف هذا المقال إلى فهم تحول الزغاوة المذهل من اثنية رعوية إلى قوة تجارية ضاربة في السودان ودول الساحل. الزغاوة “قبيلة” حدودية تعرضت اثنيتهم للبلقنة الاستعمارية التي قسمت مملكتهم بين تشاد والسودان. حسب التقديرات العامة وغير العلمية، فان ٤٠٪ من الزغاوة يعيشون في دولة تشاد، في حين يستأثر السودان ب ٦٠٪ منهم. لم يكن تقسيم مملكة الزغاوة سهلاً للمستعمر أذ لم تستطع الإمبراطورية الفرنسية اغتصاب ارضهم دون اشتعال معارك شرسة استشهد فيها السلطان فرتي، اهم سلاطين الزغاوة في القرن الماضي. وعندما حاول الحاكم البريطاني لدارفور بناء كنيسة في مسقط رأسهم، معززة بخدمات اجتماعية، وقف الزغاوة ببسالة ضد خطة تمسيحهم المقصود ورفضوا تشييد الكنيسة في تلك الديار. لقد كان رد حاكم دارفور وقتئذ صارما فقد أعلن منطقة الزغاوة منطقة مقفولة كما كانت الحال في جنوب السودان ومنطقة النوبة وتم إذذاك منع الزغاوة من مغادرة منطقتهم دون أذن مسبق من السلطة.

نعم، لقد ظل الزغاوة اثنية رعوية حتى ستينات القرن الماضي، وكانت تحتقر الزراعة وتعتبرها مهنة هامشية للنساء والمقعدين الذين فشلوا ان يتنعموا بالعيش على الرعي.  وفجأة برع الزغاوة في التجارة وأصبحوا قوة منافسة للجلابة في السودان، بل التحقوا بما سمي في أدبيات علم الاجتماع بالقبائل التجارية مثل الإيبو في نيجيريا والكيوكيو في كينيا والبامليكي في الكمرون والتوتسي في رواندا. ولكن كيف نجح الزغاوة في هذا الانتقال المذهل وماهي متسببات هذا التحول؟ 

لقد تعرضت منطقة الزغاوة لهجمة جفاف الساحل وتدني معدلات هطول الامطار لأكثر من النصف. يقول الجغرافي الالماني فؤاد إبراهيم أن نسبة ٥٠٪ في انخفاض هطول الامطار يتوافق مع تدني إنتاج المحاصيل الزراعية بمعدل ٨٠٪ ويؤدي ذلك إلى استحالة الاعتماد على الرعي التقليدي أيضاً. قضى هذا التدهور البيئي على ثروة الزغاوة الرعوية واجبرهم إلى الهجرة خارج منطقتهم الأصلية. تحركت جموع الزغاوة إلى حفرة النحاس في جنوب دارفور ولم تمض فترة طويلة حتى وضعوا بصماتهم على التجارة في المنطقة وصمدوا ضد مؤامرات منافسيهم من الجلابة والذين كانوا يهيمنون على الاسواق في الولاية.

وبمنتصف السبعينات، احكم الزغاوة سيطرتهم على جل مدن دارفور الكبرى مثل الفاشر والجنينة ونيالا، ثم تحركوا نحو العاصمة نفسها. قدر الكاتبان إبراهيم وروبرت أن قرابة ال ٥٠٪ من وافدي الزغاوة عملوا في التجارة في المناطق التي استقبلتهم. واشتد استياء الجلابة من المنافسة الشرسة التي وجدوها من الزغاوة وسارعوا في الدفاع عن مصالحهم التجارية مستخدمين فيها أذرعهم الأخرى التي تحمي مكاسبهم، فالجلابة مؤسسة مكتملة الأركان وليست محض بؤرة منحصرة في قطاع الاقتصاد. وإنّ لهذه المؤسسة مخالبا ممتدة في نظام الحكم والسياسة والأمن والخدمة المدينة وجميعها قابلة للاستنفار ضد الذين يهددون هيمنة الشمال النيلي على البلاد. هذا هو ما خلصت إليه الدراسات الاجتماعية التي عُنيت بتتبع ولوج الزغاوة في التجارة في السودان وسوف أحاول توضيح ذلك في الفقرات القادمة.

أسس تجار الزغاوة سوق ريافة في ام درمان في السبعينات والذي سمي لاحقاً بسوق ليبيا لأنه كان مموناً من تحويلات الزغاوة في ليبيا.  هدد هذا السوق مصالح التجار المهيمنين على العاصمة وجلهم من الشمال النيلي وادي ذلك الى طرد الزغاوة، أحيانا بتهمة التهريب وأحيانا اخري بعشوائية متاجرهم وأخيرا بهدم السوق من اجل تخطيطه. استغل الجلابة علاقتهم بالدوائر الحكومية وتغلبوا على الزغاوة في معركة توزيع المتاجر الجديدة. لم يستسلم الزغاوة لهذه الهزيمة فاستعاضوا بها بتأجير المتاجر من أصحابها الجدد ورويداً، رويداً استعادوا سيطرتهم على السوق ولكنهم جابهوا خطة أخرى محكمة لم يستطيعوا الصمود أمامها. لقد قام عدد من التجار، الذين عرفوا بأولاد شندي بإغراق السوق بالبضائع التي سوقت بسعر التكلفة أو أدنى من ذلك. نجحت الخطة وهرب تجار الزغاوة وأنشأوا سوقاً آخر وهو سوق الناقة في هامش مدينة أم درمان. حدثني أحد اعيان الزغاوة أن الاسم الأول كان “سوق النقعة”، نسبة لاحتلاله ارضاً جرداء وصلبة. فتغير نطق الاسم عبر تحوّر فلنولوجي سنكروني بحزف العين وادخال المدّ فيه ليصير “الناقة” بدلا من “النقعة” ذلك حتمّه الموروث اللغويّ للسان الزغاوره وعدم مقدرتهم أو أجادتهم في نطق صوت “العين”. لم يكن حظ الزغاوة بالأفضل في السوق الجديد فمصائبهم لم تأتِ فرادى. إذ دخلت قوات خليل إبراهيم مدينة أم درمان فيما يسمى بعملية الذراع الطويل ودفع أهل دارفور في العاصمة ثمناً باهظًا لفشل الغزو.  وتعرض حينئذ أكثر من أربعة آلاف منهم للاعتقال والتعذيب وكان من بينهم تجار سوق الناقة من أبناء الزغاوة والذين اتهموا وقتئذ بتمويل الغزو أو دعمه بطريقة أو بأخرى. مع مرور الزمن تبدد رويدًا رويدًا حلم الزغاوة في مهنة التجارة بعاصمة وطنهم فهجروها لا يلوون على شئ إلا ويكتشفوا مدناً أخرى بما فيها حضريات جنوب السودان.

لقد أفلح الزغاوة في تحويل كارثة الجفاف إلى فرص للنجاح في حقل التجارة بينما لم يفلح جيرانهم في تتبع أثرهم.  أعني هنا الاثنيات الرعوية المتاخمة لهم مثل الميدوب والكبابيش والمحاميد والكواهلة.  لقد توفق الزغاوة في أهدافهم ومراميهم وذلك بتطويع استراتيجية الرعي لتتناسق وأجواء المناطق الحضرية.

حسب النمط الرعوي عند الزغاوة، يحتاج الفرد إلى أعداد مقدرة من الحيوانات حتى يتسنى له من أن ينشئ منها قطيعا ذا جدوى اقتصادي، لنقل على سبيل المثال عشرين من الجمال أو مئة من الماعز. حينئد قد يتكون القطيع من حيوانات يمتلكها الأقارب والاصدقاء وأولئك الذين قد يساهمون في تحمل تكاليف الرعي والعناية.  هذا هو نهج تجميع الموارد من أجل مجابهة معضلة تكوين رأس المال وقد استغل الزغاوة هذه الفكرة في إنشاء المتاجر في الأسواق الحضرية. وهكذا فلا يحتاج تاجر الزغاوة أن يتفرد بتوفير المال الكافي لإنشاء متجر أو أي شكل آخر من المؤسسات التجارية ومعظم متاجر الزغاوة مملوكة لعدد من الأفراد بما فيهم عمال الهجرة في ليبيا والدول الأخرى. ويظل المساهمون شركاء في المتجر ويمكنهم سحب أرباحهم وأسهمهم متى ما أرادوا ولا شك إن هذا النمط يتطلب درجة عالية من الأمانة والثقة بين جميع الأطراف.

البدء في ملك ورعاية القطيع من الحيوانات لا يختلف كثيراً عن البدء في رعاية أي مشروع تجاري. فالشاب الذي يرغب في أن يبدأ بمشروع لرعاية قطيع من الماشية يستطيع فعل ذلك بالعمل كراعٍ لقطيع مملوك لأحد الأقارب. ففي اليوم الأول من العقد، يحصل الراعي على نعجة واحدة تسمى “نعجة عبور الفرح” وهي بمثابة حسن النوايا. ففي قطيع الأغنام المكون من ١٠٠، يحصل الراعي علي سبعة خراف في السنة، ويجب أن تكون ستة منها على الأقل من الإناث. ذلك يعني أن حصيلة الراعي في آخر العام هي ثمانية من الأغنام ومعظمها من الاناث. وهكذا يستطيع الراعي بناء قطيع خاص به في بضع سنوات عجاف. وقد قام الزغاوة بنقل وتطويع هذا النمط من تكوين رأس المال بطريقة ذكية في المدن. في هذه الحالة، يبدأ التاجر الناشئ بالحصول على كميات صغيرة من السلع، ويروج لها بعيداً عن المحل الرئيسي وتعرض هذه البضائع على الأرض أو على الطاولات المحمولة على الكتف وتتكون من مواد الاستهلاك اليومي والوقتي مثل الولاعات والمناديل الورقية والإبر واقلام البيرو. يتحصل البائع على عمولة صغيرة تمكنه من بناء رأس المال المستهدف في سنوات قد تطول أم تقصر. 

لقد طور الزغاوة نمطاً معقدا للرعي يهدف إلى تحقيق عائدا أقصي ومخاطر دنيا لثروتهم الرعوية ولعل هذا هو هدف كل مستثمر. تتطلب الحيوانات المختلفة مراعي متباينة ومسافات متفاوتة من مراكز المياه. ترعى الماعز والأغنام على بعد ١٠ كيلومترات من أقرب مركز للمياه، والأبقار ١٥-٢٠ كيلومتراً، في حين يمكن أن ترعى الإبل على مسافة ٣٠ كيلومتراً. ليس هذا فحسب، فالنوعيات المختلفة من الحيوانات تتغذى على نوعيات متباينة من الأشجار والاعشاب والتي لا تتوفر في رقعة رعوية واحدة. نسبة لهذه الأسباب فقد درج الزغاوة إلى تكليف بعض من أفراد الاسرة الممتدة للحفاظ على حيواناتهم في مناطق مختلفة. وبهذه الطريقة يحترس الزغاوة من كوارث وأوبئة قد تنتشر بين فصيل واحد من ارثهم الرعوي.  وللتجارة تطبيق لهذه الاستراتيجية حيث يصبح في إمكان المتجر الواحد تعدد فروعه في أكثر من موقع وتنقله في نفس الوقت مثل الرعي. فالباعة المتجولون يتحركون إلى حيث تباع السلع بشكل أفضل. فعلى سبيل المثال، يعرض الباعة الأقلام والدفاتر أمام الكليات والجامعات في حين يقدمون ملابس الأطفال حديثي الولادة امام مستشفيات الامومة وهكذا دواليك.

قد يقابل الرعاة كوارث كثيرة تهدد ثرواتهم الرعوية مثل نضب الآبار المفاجئ، وامراض الحيوان الفتاكة وسرقات قطعان الماشية، والاستهداف العسكري من قبل الحكومات المناوئة.  ولهذا فقد استحدث الزغاوة نظام ضمان اجتماعي يقوم بتعويض من تعرض لإحدى هذه الكوارث. ففي حالة فقدان الفرد قطيعه لسبب أم لآخر، يتضامن الاقرباء والأصدقاء بالتبرع ببعض الحيوانات والتي تمكن الخاسر من إعادة إنشاء قطيعه المفقود ذلك دون مقابل. يسري هذا العرف أيضا في التجارة الحضرية حيث يسارع الأقارب والأصدقاء في تعويض من يفقد ثروته التجارية من جراء الحريق أو الكوارث الطبيعية أو الجيش أو غيره. بهذا يقوم الزغاوة بدور شركات التأمين في الإقتصاد الحديث ولكن من منطلق ثقافتهم التقليدية. 

يستند نجاح الزغاوة في التجارة الحضرية على عامل آخر في ثقافتهم وهو الاحجام عن العمل في بعض المهن والتي تتبع للمحظورات في عرفهم. إن معظم أفراد الزغاوة الذين هاجروا إلى المدن هم من الرجال ومعظمهم أميّين أو قليليّ التعليم.  وبحكم ضعف تأهيلهم، تنحصر فرص استخدامهم في وظائف هامشية في المدينة ومعظمها لا تتماشى مع عرف وثقافة الزغاوة وربما تجلب العار لمن يمارسها من الرجال. فتقاليد الزغاوة تدفعهم إلى تجنب العديد من المهن الحضريّة مثل الحدادة والنجارة والصياغة والخزف والجزارة والطبخ في المطاعم والميكانيكا ونظافة الملابس وجمع القمامة وبيع الخضروات وخدمة المنازل والغناء والموسيقى وغيرها. وهكذا بدد الزغاوة حظهم في سوق العمالة فهوعوا الى التجارة وبرعوا فيها.

تحدثنا أعلاه عن معاناة الزغاوة جراء نجاحهم في التجارة ومنافستهم للجلابة، والذين لهم قصب السبق في أسواق السودان. وقد ساهمت الحكومة أيضاً في عداوة الزغاوة وقد كانت مدفوعة عبر مؤسسة الجلابة المجروحة فوصفتهم بالعمالة والخيانة والثراء على حساب الغير، بل والعمل لتقويض وحدة السودان وتكوين ما يسمى بدولة الزغاوة الكبرى. الزغاوة ليسوا فريدين فيما تلقوه من ظلم وعداء جراء تفوقهم التجاري فقد شرب تجار الجلابة من ذات الكأس عدة مرات في مدن جنوب السودان. وتؤكد الدراسات أن العديد من العرقيات الناجحة مثل اليهود في أوروبا وروسيا، والصينين في شرق آسيا، والإبو في غرب إفريقيا، والتوتسي في رواندا واليابانيين في أمريكا، جميهم تعرضوا للطرد والسجن والهجمات القاتلة. 

أود أن أختم هذا المقال بالإشارة إلى نقطة نظرية هامة وهي عدم الانزلاق في مصيدة الحتمية الثقافية والتي لا تقل سوءاً من الحتمية الوراثية، أي أن الثقافة هي التي تقرر مصير الفرد في الحالة الأولى في حين أن الإرث البيولوجي هو الذي يفعل ذلك في الحالة الثانية. لقد أفلح الزغاوة ليس لأنهم كانوا يتبعون ثقافتهم بعماء، ولكن بسبب قدرتهم المذهلة على التمرد عليها فالتجارة دخيلة على تقاليدهم المتعمقة في الثقافة الرعوية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق