ثقافة وفن

بورخيس خَلَفًا للمعرّي

جوخة الحارثي 

يحلو لي تصوُّر المعري متكئاً على جدار بيته، الذي لُقّب بمحبسه، وأحسبه كان جنة غفرانه، وهو يمرح مع الكلمات. قد زهدت عيناه في رؤية ألوان الدنيا، وغاصَتا في عقله تتفحصان ظلال الكلمات، لقّب الناسُ عماه بمحبسه، وأغناه هو عن كلّ ما لا يحب مرآه. وها هو، متكئاً، مرحاً، يناوش رهطًا من الكلمات، فكيف أجرؤ على وصف الشاعر والمُفكِّر المُتشائِم، الذي اعتقد بأن وجوده في الحياة جناية أبيه عليه، وأن عدمه النسل هو تحرير لآخرين من جنايته بالمرح؟

إنه يمرح فعلاً مع الكلمات، يلاعبها، يقلّبها على وجوهها، يتأمَّل الكلمات قليلة النظير في ثقافتنا ويسبر غورها، يضيف اللواحق والسوابق على الكلمة لينظر كيف تبدو، ثمَّ ينزعها عنها، لكأني به يُجري تصاريف الكلمات على لسانه، وازنًا إياها، لمجرَّد تذوق طعومَها بالأوزان المُختلفة، وتبيّن كم من شهد وكم من سم في «حَمَاطة» و«حَضب»، وكيف تتجلى كلمة «أسود»: ثعبانًا مرّة، ولونًا مرّة أخرى، وعَلمًا لعدد من شخصيات التاريخ، وكيف تتشكَّل الأباريق أوانيَ وجواريَ وسيوفًا والتماعًا، وكأن عصا المعري السحرية تلمس الكلمة فتتدفَّق له مكنوناتها، وتسرح معه، فيوسّع دلالاتها، ويعبث بها، عبث العالم، ليكشف لنا خطرها، وجديّتها في لعبها!

ومرَّت القرون والمعري متكئ في عماه على جنّته، جنّة وعيه الثاقب، وإذا بخلفٍ له تُنبته أرض أخرى، لم يعلم المعري حتى بوجودها على وجه الأرض، كما لم يعلم بوجود نسله الثقافي حين تفادى نسله البيولوجي، وتثقَّف هذا الخلف ثقافات شتّى، وحذق لغات عدداً، فها هو بورخيس، متكئاً على جدار مكتبته العظيمة، التي تصوَّر الفردوس على شاكلتها -كما تصوَّر المعري الجنة على شكل منتدى أدبي هائل- مُلاحقًا آخر ظلال الدنيا ببصره الكليل، الذي سيتلاشى من بعد مُلقيًا إياه كليًا في غياهب عوالمه الداخلية، وردهات مكتباته السريَّة المدهشة، ها هو بورخيس يمرح مع الكلمات. يُلاحقها في المعاجم، ويُطاردها في الموسوعات، ويمزح معها في نصوصه العجيبة، يُحمِّلها الدلالات ويفتح آفاقها، يغوص في أصولها كما يُفتَن بالمبتكر منها، يُطلق على بطل قصته اسم «ريد شارلاخ»، لأنه ببساطة قاتل! «ريد» الأحمر بالإنجليزية، و«شارلاخ» الأحمر بالألمانية، فكأن على القاتل أن يكون مضاعف الحمرة بلغتين اثنتين، أو لكأن معنى اسمه «الأحمر القرمزي»، باعتباره القاتل، وباعتبار الأحمر لون الدم، والسفك.

إذا كان المعري وسّع نافذة لغته العربيّة، وسمح للمزيد من نورها أن يضيئه في محبسيه، فإنّ بورخيس فتح نوافذ اللغات المُتعدِّدة، وسمح لأنوارها كلها أن تهديه أو تُضلّه في متاهاته. اللاتينية كانت من هذه اللّغات، فإذا علمنا أنّ خيوطًا من آثار المعري قد انتقلت إليها، وأن بورخيس المُتشرِّب باللاتينية كان معجباً بالثقافة العربية حتى حاول تعلم لغتها في أُخرةٍ من عمره، وكان مُلّمًا بالثقافة المشرقية عمومًا، فإننا نرى كيف توارث بورخيس المعري، حتى لو لم يكشف لنا موقفه منه مباشرةً، أوَليس هو المؤمن بأن أفكارنا ومشاعرنا قد تكيّفت على آثار أسلافنا، وأننا إذا أردنا أن نعرف حقيقتنا الراهنة فعلينا أن نعرف أسلافنا؟ لقد تفنَّن الخلف الأرجنتيني الأصل، الكوني الثقافة، مثل سلفه العربي في السخرية، والإمساك بقبضة عارية بالـمُفردة لمساءلتها، وتجليتها، والعبث معها.

لقد غيَّر المعري أفكارنا القارّة بشأن السجع والجناس، أرانا بمرحه مع الكلمات كيف أنها ليست مُحسّنات، ولا مجرّد تزيين، بل أفق في النظر، وتوسيع لدلالات الكلمات؛ بتقليب الكلمة على وجوهها، وسبر جذورها، يعلمنا المعري أن الجناس إمكانات للمُفردة، لا زينة لها، تأمَّل كيف يعبث ببيت النمر بن تولب متخيّلًا له قوافي شتى، على عدد حروف الأبجدية، مُكيّفاً إياه مع هذه القوافي، متلاعبًا بالمح والبح والرح والسح والجح، قائلًا في الختام: «وهذا فصل يتّسع، وإنما عرض في قول تام، كخيال طرق في المنام». وانظر كيف يصنع المسافات بين أسماء الأعلام كطلحة وعكرمة وسلمة، والمعاني الواقعية لهذه الأسماء من أشجار الظل والشوك والبشام، وبوقوفه الطويل على ما عُرف بالغريب في الثقافة العربية، يمزح مع الغريب ليكون أليفًا، ويسخر منه ليُقصيه إلى وكر غربته وغرابته، وبورخيس، بالمثل، ينقّب أبدًا عن أصل الكلمات ومآلاتها، ويلعب أبدًا بالاحتمالات التي تنفتح عليها الألفاظ، ويتتبَّع مسارات رحلتها في الاغتراب من ثقافةٍ إلى أخرى، ومن لغة أصل إلى أخرى فرع. بل لا يتورَّع بورخيس عن اختراع كلمات جديدة، كما فعل مع كلمة «الهرون» التي قال بأنه اخترعها لأشياءٍ متخيّلة، ثمَّ اكتشف بتتبُّع الإنجليزية القديمة أن لها أصلًا شبيهًا، وقد فسّر ذلك بأن الكلمة تسلّلت إليه من أسلاف له عبر عشرة قرون!

الكلمة هي البدء، وكلا الأديبين الكفيفيْن متشبث بهذا الأصل، متعلّقٌ بالجذور، ليس على هيأة اللغة وحسب، وإنما الجذور البشرية كذلك، وأي تجلٍ لها أعظم من الأم؟ هل هي محض مصادفة أن عُرف بورخيس كما عُرف المعري قبله بتعلقه الشديد بأمه؟ الأم عصا الكفيف، وهداية التائه في ظلمات العالم، هي الجذر، ومنبع الكلمة الأصل. ثمَّ إن فاجعة موت الأم ردَّت المعري إلى الرحم البديل: البيت، فلزمه وهو الشاب، وزهد في الدنيا وهو الواصف لملذَّات الجنان الحسيَّة، كأنما ليسخر من تصوُّرات الناس الشعبية لها، في حين زهد بورخيس في الزواج وذُعِر من الإنجاب، قاصًّا فروعه الـمُحتمَلة، مُكتفيا بجذوره، متكئًا على أمه في عمق شيخوخته، حتى أن قصة زواجه قبل وفاته تبدو أقرب للدعابة منها للجدّ.

هذا النحت اللُّغويّ عند الضريرَيْن، قد نجد له نظائر أخرى في الثقافة العالمية، مادام كلّ كاتب عدّته اللّغة، ولكن الخيط الواصل بين المعري وبورخيس، خيط متين في تصوُّري، يمسك كلٌ منهما بأحد طرفيه، متحسِّسًا إياه في عماه وهازًّا له، وما على القُرَّاء إلّا التأرجح في أرجوحتهما.

وهذا اللعب –لعبهما- في منتهى الجدية، وهذا المرح –مرحهما- في منتهى الصرامة.

(عن صحيفة الدوحة)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق