
انهيار وطن (2)
قراءة للراهن السودان من قبل الأساتذة المحامي د. عبد العظيم حسن، المثقف هشام عبد الملك الجعلي، وآخرين
د. محمد بدوي مصطفى
إفادات خبراء من أبناء الوطن:
أعيد لمن لم يقرأ المقال الأول (انهيار وطن ١)، أن فكرة هذا المقال نشأت بعد حديث متبادل بين أخوين في الله، صديقيّ دراسة، لم يلتقيا منذ أكثر من ثلاثة عقود. جاءت الفكرة بينهما تلقائيا، كما أتت وتبلورت كل التفاعلات التي نشأت بينهما في سياق الصحافة، الأدب، والاهتمامات المشركة الكثيرة. تساءلا في ذاك الحديث الصباحي عن مآلات الراهن في بلادهما المكلومة، وعن جراحات الماضي التي بصمت بحدتها وشقاوتها على وجه إنسان النيلين. تألما حقيقة، وندبا حظهما العاثر، لمَاذا يا رب السودان؟ لماذا الحروب والقتل والسلب والتشريد؟ فجاءت فكرة مشتركة بينهما تقتضي كتابة سلسلة مقالات مشتركة يستطيعا من خلالها هضم هذه المرارات التي تتأتى إليهما في كل لمحة ونفس، وأن يقرآ، سويا حالة البلد وما آل إليه في الفترة الأخيرة. فقد يتفقا في فكرة ويختلفا في أخرى وهذه سنة الحياة فلو لا اختلاف الآراء لبارت السلع.
بعد حديثهما الثنائي قاما بمراسلة بعض الأصدقاء من ذوي الكفاءة والخبرة في المجال السياسي: الأستاذ المحامي نبيل بانقا، الأستاذ الكاتب والصحفي خالد عبد الله أبو أحمد، الدكتور فيصل عبد الرحمن، الأستاذ هشام عبد الملك الجعلي وآخرون. استنفراهما جميعًا أن يكتبوا ما يدور بداوخلهم وكيف يحللون الوضع الحإلى بالبلد. لذلك فسوف يأتي هذا المقال – على غير العادة – بإفادات جلّ هؤلاء الخبراء الذين ذكروا أعلاه وسوف ينبريا لمتابعة السلسلة في الأعداد القادمة لصحيفة المدائن بوست، أخبار اليوم، وصحف إلكترونية وإسفيرية أخرى مع من تبقى من إفادات لأولئك الإخوة.
بعد الغياب … لقاء في وحي الكلمة:
غياب طال السنين الطوال وشاءت الأقدار أن ينتهي، ليبدأ مجددًا بلقيا حميمة صادقة ونبيلة بصحن مجموعة أبناء مدرسة المؤتمر الثانوية. ومن هؤلاء رجال عاهدوا الله في حب الوطن كما في الآية الكريمة: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا). أحبّوا وطنهم السودان بنكران ذات بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان، فمنهم المحامي والطبيب والمهندس والبروفسير والموظف والضابط العسكري، ونجد بينهم كل أطياف المهن الجليلة الوازنة. إنها صداقة عميقة بيننا، محبة وافرة وأمل مشترك في أن يشفى الوطن من جراحه وآلامه التي طالت وتفاقمت ولا تفتأ أن تزداد يومًا تلو الآخر. نعم، جمعتنا نحن، لا سيما بعد النأي في أرض الله الواسعة، حب الكلمة، واحترام الأقلام والعمل الصحفي المضني. نتفق، نفترق، نقترب، نتحاور، نتشاور في العديد من الأمور. همنا أن يخرج الوطن الحبيب إلى برّ الأمان، وأن يلقى أبناؤه الحياة الكريمة التي حلموا بها وصارعوا من أجلها، خرجوا في المواكب العارمة، أسسوا عملًا مستداماً لمليونيات لم يشهدها العالم البتّة بهذا التردد وبهذه الوتيرة. إنّها يا سادتي بكل صدق حصة أو محاضرة للعالم في ماهية الكفاح والوطن والذود من أجل لقمة الحرية. يلقنون الأمم فيها، نعم، يتعلم من هم خارج السودان من أبنائه وبناته الكنداكات، من ثائر لا يملك إلا نفسه حينما يقف أمامه المدجججون بالأسلحة والعتاد، لا يخاف الموت ولا يهاب المذلة، كل هذه التضحيات في سبيل رفعة وطن أرضعهم نيله خيرا، وأسبغهم فضلا.
إفادة مولانا المحامي د. عبد العظيم حسن:
مشاركة الأجهزة العدلية في العصيان المدني!
في هذه الآونة يحتدم النقاش وتصدر الفتاوى لتخذيل القضاة ووكلاء النيابة والمستشارين بوزارة العدل لحرمانهم من حقهم في الإضراب والعصيان المدني رغماً عن أن التصرف تمليه ضرورة ما يترتب على مخالفة الدستور واستمرار عمليات القتل خارج القانون والعنف المفرط ضد المتظاهرين السلميين بالذات في غياب أي رقابة دستورية أو تشريعية.
من المقرر، وطبقاً لقانون الإجراءات الجنائية أن الدعوى الجنائية تُفتح بناء على علم وكيل النيابة عن بلاغ أو شكوى. هنا يثور السؤال: لماذا عندما يصل لعلم وكيل النيابة وقوع جريمة ألا يتحرك من تلقاء نفسه، ويكتفي بإصدار منشورٍ أو بيانٍ بشعار النيابة أو القضاء؟ فهل هناك أي قيود على سلطة النيابة في تحريكها للدعوى الجنائية؟ وإذا كان هناك موانع بسبب الحصانة، مثلاً، هل هناك ما يحول ووكيل النيابة من طلب الإذن؟ وإذا كان الحصول على الإذن مطلوباً من ذات الشخص الذي خالف الدستور، فما هي الفرص القانونية أمام الأجهزة العدلية لتجاوز هذه الأوضاع الشاذة؟
بعيداً عن الغياب الدستوري، فالأصل أن قاعدة أخذ وكيل النيابة العلم بالجريمة ليس القصد منها ولم يجر العمل على أن يكون وكيل النيابة شاكياً وإنما أمامه أو بغيابه تفتح الدعوى بواسطة الشرطة ولو ضد مجهول، وفي تلك الأحوال لا يجوز لوكيل النيابة أن يمتنع عن موالاة السير في الدعوى الجنائية طالما أن هناك مبلغ (البلاغ يكون من حق أي شخص في جرائم الحق العام). بالطبع، وحتى إذا تحرك أحد وكلاء النيابة (يا ريت النائب العام شخصيا) وطلب فتح الدعوى الجنائية ففي مثل هذه الظروف فإنه يكون هو الشاكي وليس وكيل النيابة الذي يتولى التحري ضد الشخص أو الأشخاص المتهمين. من لحظة فتح الدعوى الجنائية يستمر عرض الأوراق على وكيل النيابة المختص وليس كل أعضاء النيابة العامة لأن الاختصاص، كما هو معلوم، لا ينعقد إلا لوكلاء النيابة الذين بدائرتهم وقع الجرم، وفيما بعد تتم الإحالة للمحاكمة أمام القاضي المختص وليس كل أعضاء السلطة القضائية.
المسألة محل النظر (تحجيم دور القاضي أو وكيل النيابة في التعبير في حالات استثنائية) لا يجوز التعاطي معها في السياق التقليدي أو العاطفي أو بالحظر المطلق. فالقضاء والقاضي ووكيل النيابة يجوز ان تتم مقاضاتهم دون ان يكون ذلك مطعناً في المحكمة المختصة لمجرد شخص المتهم أو المدعى عليه. فالطبيعي أن يكون للقاضي أو وكيل النيابة وجهة نظر ورأي قانوني واضح في كافة الموضوعات القانونية التي تعرض عليهم سواء أكانت متعلقة بالأحوال الشخصية أو الاقتصادية أو السياسية أو الدستورية أو حتى الرياضية. من هذا المنطلق، فهل القضاة ووكلاء النيابة يظلون ممنوعين من نظر ذات المسألة لسبق وجهة النظر فيها وبالتالي لا يجوز عرضها عليهم؟ هل سبق وجهة النظر العامة تسري مطلقاً حتى إذا لم تكن هناك قضية معينة بأطرافها ووقائعها؟ إن استخدام لفظ الحياد في بعض الظروف يكون من باب كلمة الحق التي يراد بها الباطل. أي أن الحياد المطلق قد يفضي للمغالاة التي تمنع القاضي أو وكيل النيابة من البحث والتدريب في اي مسألة من المحتمل أن تعرض عليه مستقبلاً. مطلوب من القاضي ووكيل النيابة أن يكونا عالمين وجاهزين للنظر في كل الموضوعات وبلا استثناء.
صحيح أن تقديم الاستشارات والتعبير عن الرأي وإن كان ليس دور وكلاء النيابة والقضاة إلا أن القاعدة ليست مطلقة، ففي بعض الحالات يكون ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وذلك امتداداً للقاعدة الفقهية التي تتراوح بين: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وما يقابلها من مبدأ: وجوب تأخير البيان لوقت الحاجة. بين هاتين القاعدتين يجب اجتهاد المؤسسات العدلية ولا يجوز لمن يخشى في الحق أو يلزم الصمت في سياق التعبير عن الرفض أن يخذّل شجاعة من يتصدى للبيان باليد واللسان.
إفادة الأستاذ هشام عبد الملك الجعلي:
الأستاذ هشام رجل مذهب، مثقف وخلوق. نتحدث عبر الأثير في الكثير من المواضيع وكنا نتجابد أطراف الحديث عن مخطوطات الأستاذ محمود محمد طه، ونظرته السلمية للرسالة المحمدية. ففاجأني بذكر الكثير من الأحداث والروايات التي لا يمكن فصلها من الراهن الذي يعيشه السودان. يقول عن كاتب مؤلفات الأستاذ محمود محمد طه، الدكتور العالم عبد البشير الفكي الآتي:
«صباح الخير شكرا لك اولا يا دكتور علي ثقتك بي بان وضعتني في مقام رجال عركتهم خبرة الصحافة، ثانيا احييك علي تفاعلك وانغماسك من خلال اصدارتك في محاولة إظهار مخاوف شعب وتسليط الضوء علي ما يحدث الان ولكن دعني اعبر لك عن نظرتي كمواطن في ما يواجه الوطن الان من مخاطر من خلال ما اراه في من حولي من اهل وأصدقاء والمعارف فمجموعة اراءهم جزء من اراء عامة الشعب، وأن كان الأمر كذلك فارجو ان اعيد صياغة ما أرسلته لك سابقا،، ،،،وشكرا».
ومشى يسرد متخذًا نهجًا آخرا ويستطرد قائلاً:
«د. عبدالله الفكي البشير ، إضافة كبيرة لإصدارتكم وهو مفكر كبير ومثقف واظنه صاحب ميول جمهورية، وتناول فعلا في احدي نشراته باستفاضة اثر فتوي الازهر علي الحكم علي محمود محمد طه، واستشهاد الكثيرين بفتوي الازهر التي صدرت في العام ١٩٧٢ بحقه وحق فكره، لكن سبحان الله لم يذكر جانب مهم او الطريق الثالث من الاخرين الذين يرون خطأ ما يدعو اليه ولكن يرون مجاراته بالحجة والفكر وان فكره إلى زوال ولا يرون جدوي من اعدامه وهم جماعة من العلماء في السودان حتي ان محمود محمد طه أشار في احد كتبة إلى هؤلاء العلماء باحترام كبير ومنهم الشيخ المرحوم أبوزيد محمد الأمين الجعلي أمام جامع عطبرة الكبير آنذاك حيث كانت بينهم في ذاك الزمان مساجلات شهدها الكثيرون بمنطقة ومدينة عطبرة، كما أنه كان لكثير من العلماء في أواخر عهد النميري وفي تلك الفترة التي شهدت اندماجه مع الحركة الإسلامية الترابية وسيطرتها عليه وتأثيرها علي كثير من قراراته، في تلك الاثناء رأي كثير من العلماء الوقوف ضد اعدامه مع وقوفهم ضد أفكاره ويرون ان في مقارعته واستتابته بالحجة والبرهان وكانت الحملة علي النميري شديدة في تلك الفترة من العالم الإسلامي بقياده السعودية الوهابية بل تعرضت وزارة الشؤون الدينية والاوقاف السودانية التي كان وزيرها المرحوم د. عون الشريف قاسم وامينها العام المرحوم د. عبدالملك الجعلي، إلى هجوم شديد ويمكن الرجوع إلى صحيفة العروة الوثقي ١٩٨٤ ولقاؤها مع الامين العام الذي قلل من أثر الفكر الجمهوري ويري ان مواجهته تكون بالفكر والدعوة.»
إفادة د. زينب السعيد:
الأستاذة المحامية د. زينب السعيد هي متعددة المواهب والحرف والمهنيات: روائية وقاصة ومحامية وناشطة اجتماعية: الوضع في السودان – كما يرى الكل – أبعد من أن يكون آمنًا. وأرى أن كل ولاية تنتفض وتصرخ على حدا، دون التناغم من الولايات الأخرى. فالمرض والألم الغائر الذي حملته هذه الحفنة إلى السودان قد مسّ كل الولايات وكل الأقاليم دون فرز. فلننظر إلى قضية الشمالية التي انفجرت بين يوم وليلة. ولكن كان لابد لها أن تنفجر. وكما ذكرت سلفًا كل إقليم يتفاعل ويتحرك حراكه الثوري أو المقاوميّ على حدا، وبصورة شبه مستقلة عن الأقاليم الأخرى. فماذا عن تتريس الشوارع، وقف تدفق المنتجات السودانية ودخولها إلى مصر بأبخس الاسعار والتي تبرع الاخيرة في تغليفها وتصدرها بالعملة الحرة الي الخارج باعتبارها منتجات مصرية دون أن يجني الشعب السوداني سوى الغلاء الطاحن رغم عشرات الآلاف من الحاويات التي تخرج يوميا عن طريق المعابر ارقين وقسطل وغيرها، وزيارة الرئيس المصري السيسي وما لها من أبعاد على آفاق السياسة في السودان. ومن جهة أخرى زيارة نائب المجلس السيادي محمد حمدان دقلو المتزامنة إلى أثيوبيا وفي نفس الفترة. فهذه كلها مؤشرات تعكس وهن الحالة الأمنية بالبلاد. إذ كان عليه في نظري، أن يكون متواجدًا حتى يستطيع هو وأهل الحل والربط الآني بالسودان أن يعملوا تسويات في الموضوعات المطروحة على شارع السياسية السودانية المتأزم. ويجب أن أذّكر من جهة أخرى أن الوعي الجماهيري الآن بلغ أوجه ولن يتخاذل ولن يتزعزع أبدًا. فالشعب لم يعد مستكيناً كما كانت الحال فيما قبل، يهلل ويرقص ويطبل لكل من ركبه وصفعه كفًا. ينبغي علينا في هذا السياق أن نذكر أيضًا باتفاقيات الحريات الأربع التي تتضمن إهدار موارد البلاد عبر آلاف الشاحنات إلى كل بلدان الجوار لا سيما مصر دون أن يجني منها أبناء السودان شيئا. فهل يعقل ذلك؟!
وكل ذلك قاد إلى ارتفاع نسبة التضخم المالي في البلد حيث ارتفعت إلى ثلاثة أرقام ومثل هذه المرحلة لم تشهدها البلاد منذ أن استقلت، فهي حقيقة فترة حرجة وصعبة لأبعد الحدود. فصرنا لكل تلك الأسباب التي تجنى فيها قادة السودان على أوضاعه وأهله، في ذيل الأمم ويشار إلينا بالبنان في كل ما يتعلق بالفقر والتخلف والهمجية فضلًا عن رعونة السياسة وتخبطها بالبلاد. وذلك بدوره يقودني إلى التدهور المريع الذي ساقته الأحوال المتأزمة، ليتدنى بالحالة الاجتماعية ويصل بها أسفل سافلين. وبدلاً أن يعمل القادة في تهدئة الخواطر فهم لا يزالون يهاجمون أفواج الثوار السلمية بيد من حديد. نعم، إنهم لا يهابون قتلهم واضطهادهم ورميهم بكل ما حملوا من عتاد. وهذا من شأنه أن يزيد الطين بلّه ويشعل النيران. فالسودان يا إخوة يحتاج إلى عقلاء، حكماء، أوفياء يقدرون على السيطرة التامة على الأجهزة الأمنية من قوات مسلحة، قوات دعم سريع، شرطة وأمن، وهذه من أسس سيادية الدولة وألا تترك أدنى فرصة للمندسين وله مصلحة في اشعال النيران بين أبناء الوطن الواحد. فالمشهد العام يوحي أيضا بهذا الانقسام: الشرق، والغرب المنفجر منذ سنوات، والشمال ناهيك عن الجنوب. فطفقت حالة اللاأمن تمتد أياديها المشبوهة إلى كل بقع السودان؛ شمالًا وجنوبًا شرقًا وغربًا، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: إلى أين تمور بنا الأرض؟ أإلى هاوية لا يحمد عقباها؟ أم إلى جحيم أبدي كما في سوريا والعراق؟