
المسَافة ما بيّنْ شَرْوَنِى والجَوْدَة !
يوسف مصطفي
المسَافة ما بيّنْ شَرْوَنِى والجَوْدَة !!! بحساب الجغرافيا هي بضع مئات من الأمتار، تكاد لا تحسها وأنت عابرها مشياً على الأقدام، أما بحساب الإنسانية فهي بعيدة بعيدة جداً. عند حدها الأول حياةٌ مفعمة بالأماني، أما عند حدها الآخر ففناءٌ مضمخٌ بالدماء!! تنبتُ عند (شرونها) أحلامٌ خضراءٌ وتطلعات سامية تحكى عن غدٍ أجمل للناس والوطن، بينما تستحيل عند حدها الآخر ذات الأحلام إلى محض كوابيس مفزعة مليئة بآلامٍ مضنية وأحزانٍ عميقة … مسافة عبرتها وما زالت تعبرها أرواحٌ ملائكية غالبت في شموخٍ – كما في الملاحم المحكية – سكرات الموت الأسطوري لا على صهوات جيادٍ أصيلة كما حدثتنا الحكايا، لا بل على مقاعد دراجاتٍ بخارية حيث الأجساد الغضة محشورة بين ظهر رفيق وصدر رفيق والدماء نازفة.. رفيقان يغالبان هواجس وظنون ويرتعبان من فكرة الرجوع للرفاق الآخرين بالخبر الحزين، إلى ذات الرفاق الذين ما زالوا يُعبؤون الحناجر بالهتاف العظيم ويمارسون رقصة الموت النبيل قبالة ما كان بالأمس قصراً للسيادة!! بين دموعهم يحتسبون من كانوا بينهم قبل لحظاتٍ شهداء في صبرٍ عجيب وجلدٍ عظيم تنوء بحملِ آلامهم الجبال الراسيات وهم ما زالوا أيفاع يحلمون ب (الحريرة) والحرية وب (العديلة) والعدالة، لا فرق اصلاً بين أحلامهم وأحلام الوطن. يكظمون غيظاً فواراً، ويكتمون غلاً عظيماً. يُكفكفون دمعاً هتّاناً، لكنهم لا يستلقون أوان المعركة، بل ينتظرون نصراً، أو ذات مآل من فاضت أرواحهم على ذات الدراجات البخارية. فهم يعلمون أن جهنم الطغيان دوماً تسأل هل من مزيد!!! هي أرواحٌ سماوية كانت قبل لحظات تهتف قبالة القصر للحرية وتغنى للعدالة وترقص على أنغام السلام. تغنى شعاراتها الأماني وأهازيجها الأحلام. صدورها عارية وأياديها كما الحليب لا يخالطها سوء … حناجر عافت لغو الحديث وكلام النخب المغتغت وفاضي وخمج!! تهز عنان السماء صداحة بالأهازيج والأغاني والآمال العراض … مساءاً حينما تعود الطيور إلى أعشاشها والوحوش إلى أوكارها والطغاة إلى ثكناتها وسائر الناس إلى دفء الفراش، يعود الرفاق والرفيقات من أتون المعارك والمشافي والمقابر يغالبون دموعهم على رفاقٍ قد رحلوا، يستعيدون مشاهد دماءهم النازفة وأطرافهم المنزوعة وحرقة شهيقهم أوان الغازات الحارقة، يتوسدون آلامهم العظيمة وآمالهم المجهضة … ثم حين صباح يستقبلون موكباً جديداً من مواكب حراكهم المقدس. لا يرهبهم قمع ولا يثنيهم تهديد ولا يفت في عضدهم تخذيل، فالاستلقاء أوان المعركة ليس من خياراتهم!!! ” كثيراً ما أفكر في قتلة ابني عبد الرحمن، من هم ولماذا فعلوا به ما فعلوا وبكل تلك الوحشية والشراسة؟ كيف لم يروا فيه كل الجمال الروحي الذي رأيته أنا عليه لعشرين عاماً هي سنين عمره الجميل؟ هل لأنَّهم كانوا يرون جمالاً آخر لا ندركه نحن الذين نختلف معهم قيمياً ومفاهيمياً …؟” هكذا يتساءل والد أحد الشهداء. فهل يملك من أسرف في اغتيال الأحلام وامتهان حُرقة حشا الأمهات وانكسار ظهر أحلام الآباء وعذابات الصحاب والأخوان والرفاق بعض إجابة غير حكاية الطرف الثالث!! ولأن التاريخ بعضه من بعض! هو ذات الطرف الثالث الذي قال فيه ذلك الشيخ الكظيم ” … بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ “. قالها من ابيضت عيناه من الحزن حينما أتى أبناؤه بدمٍ كذب على قميص اخيهم الذي غاب يومها في غيابة الجُب!!! كيف ل (مطامع) أو (مخاوف) أو (مصالح) أن تبرر فداحة فقد العشرات وتعطيل المئات من زهرة شبابنا المدخورين لبناء الوطن وترسيخ قيم الخير والحق والجمال. هل شرب من يمتهنون التقتيل من ذات نيلنا وآبارنا وحفائرنا؟؟!! هل اسْتَطعمُوا ذات فتريتتنا ودخننا وقمحنا؟؟!!! هل رضعوا من ذات صدور أمهاتنا مع الحليب رأفةً ورحمة؟؟!!! هل لعبوا ذات (كمبلتنا) و (شليلنا)؟؟!! وهل تعفرت اقدامهم بذات (دافُورِينا) او (الرِمّة وحَبَاسِها)؟؟!!! هل تناجوا وتحاكوا في الليالي المقمرة حكاوينا البريئة ….. أشُكْ!!
جميع الحقوق محفوظة لصحيفة مداميك، لقراءة المزيد قم بزيارة… https://www.medameek.com/?p=80021 .