ثقافة وفن

مخبرون لكن من طينة أخرى

أحمد الونزاني

تمر ترمقني بعينيها ك البومة، اتغافل عنها برهة كأنني لا أكثرت لها، فتعود لترشقني من جديد بنظراتها رشق السهام لجثة عجل أتعبه الرقص على حلبة الكوريدو فاستسلم معلنا هزيمته و سقوطه مدرجا بدماء حمراء قانية تسيل من على ظهره، فيما اشتعلت جنبات الحلبة بالتصفيق و الهتاف من جمهور بليد يعشق مصاصي الدماء و يعزف أجمل الألحان على جثث الأبرياء و يصنع أبطالا من ورق.

تمر بعجرفة وخيلاء، تتلصص و تجمع أخبار الحي لا تترك شاردة ولا واردة إلا عرفتها و تقصت عن أخبارها، الكل يعرف انها عين المقدم و المخبرة التي تستبق الأشياء قبل وقوعها، مستبصرة إلى حد ما، و صدق من قال: و يأتيك بالأخبار من لم تزود.

كانت تطلق الإشاعات تلو الإشاعات والأخبار الكاذبة و تقول للنساء خاصة بأن هذا الشخص مبهم الأسرار و يخفي أكثر مما يظهر و هو غامض إلى حد ما بل ربما يكون قريبا من التيار الباطني.

متلونة ك الحرباء، بألف لون و الف وجه (تأكل الطعام و تنفث السم من فمها ك الحية السوداء) في انيابها العطب و من عينيها  تخرج الشهاب الثاقبة تنهش في لحم الأبرياء. لا يهدأ لها بال حتى ترى الوجع على وجوه الناس و ترى السواد و القهر و الانكسار عم حياة الناس.

كانت تراقب كل شيء في الحي حتى التفاصيل التافهة، ضحكة هنا و ابتسامة هناك، لباس جديد هنا و آخر مرقع و رث هناك ،حركة عفوية هنا و أخرى لها دلالات و تحمل امتعاضا من هذا الواقع المرير و سفالة تلك البومة المتحولة و الكريهة.

لم تكن امرأة عادية فهي كاتوومان(catwoman ) تظهر في كل مكان لزرع بذور الشر و الفتنة و الخوف و الرعب في قلوب الضعفاء و تغرس مخالبها في الجثث الباردة .

مخبرة بنياشين وهمية و راتب من هواء ساخن و جاف يلفح الوجوه و ضريع لا يسمن ولايغني من جوع. هذا هو حال الكثير من بني جلدتنا، نساء ورجال، شباب وشيوخ، فهم في خدمة من لا يخدمهم ولايستثنيهم إذا ما جد الجد.

بالأمس، ظلت هي و أخواتها تراقب الوضع من بعيد، فيما كانت السيدة وردية أرملة السيد علي ايت الزويت، قد قامت بشراء بعض لوازم البناء لترميم و إعادة بناء سقف بيتها المتهالك. حضر البناءة و احضروا معهم معداتهم المعتادة لبدء العمل، كان الحي هادئا و لم يعكر صفو سكونه إلا ضجيج بعض السيارات الواقفة في باركينغ المشغلة من طرف أصحابها لتسخين محركاتها استعدادا للانطلاق بها.

بدأت أشعة الشمس تخرج ساطعة تنير أركان المكان و تزيده دفئا من لسع هذا البرد القارس. لم تكن السيدة وردية تتوقع قدوم الشيخ و المقدم في ذلك الصباح الباكر، زوار على غير العادة، يقتحمون المنزل ليصادروا معدات البناء و يأمرون البناءة بالمغادرة و يطلقون موعظة الوعيد و التهديد في وجه السيدة وردية : لا يحق لك إصلاح سقف بيتك بدون رخصة بناء و تصميم جديد. لم ستسغ السيدة وردية مقالة كل من الشيخ و المقدم و ردت قائلة :كل الجيران قد أعادوا بناء بيوتهم دون رخصة أو أي شيء فهم لديهم (إخوانهم في المعروف )أما السيدة وردية فيجب عليها البحث عن الرخص و انتم تعلمون انه لو ما زال زوجي حيا، ما كنتم تجرؤون حتى على المجيئ فما بالك بإطلاق تهديداتك على امرأة أرملة لا حول لها ولا قوة. اذهب الى الجحيم انت و رخصك و من قام بأخبارك في هذا الصباح الباكر. كانت انتفاضة السيدة وردية عظيمة فقد استطاعت بقوة صوتها أن توقظ النائمين و تخرج كل الحي ليروا و يسمعوا قصتها مع الشيخ و المقدم. ملأ الضجيج و الصخب و صياح السيدة وردية المكان، أراد بعض الجيران التدخل لصالح السيدة وردية و الدخول في مشادة كلامية مع كل من الشيخ الذي يصر على أخذ معدات البناء و ايقاف الأشغال بصفة نهائية، لكن السيدة وردية قالت بالفم المليان: راه انا فران و قاد ب حومة. و أخذت زرواطة من داخل بيتها و توجهت نحو الشيخ و المقدم اللذان فرا بالجرذان من أمامها خوفا من بطشها و قوتها و لسانها السليط. تفرقت الجوقة، و عاد كل شيء إلى حالته الطبيعية، ساد الصمت من جديد الا من سماع البناءة و هم يشتغلون  ك النحل منهمكين في إعادة بناء سقف بيت السيدة وردية.

انتهت الجولة الأولى بانتصار السيدة وردية على الشيخ و المقدم، لكن فصولا جديدة ستبدأ مع قدوم الجرافة و فرقة من العسس في سيارة من الحجم الكبير و كل من قائد الدائرة و معهم الشيخ و المقدم. كانت الغزوة ضد السيدة وردية و كل من يتطاول على المخزن و القانون. غزوة انتهت بمصادرة معدات البناء و ايقاف الأشغال بصفة نهائية، و اعتقال السيدة وردية لغاية امضاءها التزام بعدم التعرض للشيخ و المقدم و تلك المخبرة المعروفة في ذلك الحي. لكن ما لم يكن في الحسبان، هو تدخل شاب من شباب الحي المعروف بقوته و صلابة شكيمته و اتجه نحو قائد الدائرة و قال له بأن يطلق السيدة وردية فورا و ان يتركها لحالها و ان يدعها تبني سقف بيتها المتهالك.  اذعن القائد لأوامر ذلك الشاب في الحال. كان ذلك الشاب يهمس في اذن القائد بصوت منخفض، قبل أن يخرج هاتفه الخلوي من النوع الممتاز، كانت لدى الشاب أدلة تظهر تورط، كل من الشيخ و المقدم في رشاوى بناء مماثلة في ذلك الحي، و لم تتدخل الجهات المعنية لتورطهم هم كذلك في تلك الخروقات. لكن ردة فعل القائد جاءت ليقينه بأن تورط هؤلاء، يعني تورطه هو مباشرة في تلك الخروقات و البناء العشوائي.

أخذت السيدة وردية تطلق دعواتها إلى عنان السماء، و تقول الله يعز الرجال، و تشكر ذلك الشاب على ما قام به من أجلها.

غادرت الجرافة الحي و كذلك سيارة مساعدي السلطة أو المخزنية الحي بإشارة سريعة من القائد، فيما استعاد البناءة أدوات البناء و المستلزمات الأخرى.  ركب القائد سيارته و غادر المكان، كأن شيئا لم يكن.

لم تكن السيدة وردية تدري ما وراء القصة و السبب الذي جعل القائد و الشيخ و المقدم و أعوان السلطة يغادرون المكان بتلك الطريقة و بتلك السرعة، لكنها فرحت كثيرا بتدخل ذلك الشاب و فرحت أكثر لأنها ستعيد بناء سقف بيتها و ستعيش في منزلها الذي عاشت فيه اجمل ذكرياتها مع المرحوم زوجها. 

كانت ساعات الكر و الفر طويلة و قاتمة، لكن فرحة السيدة وردية أعادت البسمة لوجوهنا و انستنا تلك اللحظات من قهر الإنسان و الحكرة التي مورست في حق السيدة وردية و آخرين في كل هذا الوطن العربي.

تلك قصة واقعية لواقع مؤلم يحكي عن ظروف الحياة الصعبة و القهر و  الهشاشة ،لغياب رؤية تنموية واضحة لدى المسؤول العربي و النخب السياسية الحاكمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق