ثقافة وفن

الكباش تستمع للشعر    

أ. د. محمد أبو الفضل بدران

 في مهرجان الشعر السادس الذي أقامه بيت الشعر بالأقصر تحركت الأسود والكباش  في الطريق الساحر الذي يصل معبد الأقصر بمعبد الكرنك على طول يصل قرابة ثلاثة كيلومترات حضر أربعون شاعرا وناقدا كي يحتفوا بالشعر وبالإصدارات الشعرية الجديدة التي يصدرها بيت الشعر الذي أقامه عاشق مصر سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، كان الهمس الشعري يصدح وكان الأستاذ الشاعر عبد الله بن محمد العويس رئيس دائرة الثقافة بالشارقة يتحدث عن دور الثقافة وعن مكانة مصر الثقافية والهدف من إنشاء بيوت الشعر بالعالم العربي وحضر المستشار صالح السعدي المستشار الإعلامي والثقا في بسفارة الإمارات العربية المتحدة بمصر، جاء السعدي لكي يحيي مصر قيادة وشعبا ويثمن دور مصر الثقا في على مر العصور، ويكرم المهرجان أ.د.محمد محجوب عزوز رئيس جامعة الأقصر شخصية العام الثقافية لدوره الرائد  في التحام الجامعة بالمجتمع وتثقيف الشباب؛ يقع بيت الشعر بالأقصر على طريق الكباش والأسود التي تركت جلستها الطويلة منذ قرون وركضت نحو البيت كي تسمع الشعر، كانت الأنوار الخافتة التي تنطلق من قدميْ الأسود والكباش الأماميتين شاهدة على سَيْرهم نحو بيت الشعر كي يضفوا على أمسياته جمالا وبهاء، تباينت القصائد بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة وقصيدة النثر، بين فصحى وعامية والأجمل أمسية شعراء البادية التي كانت فكرة مدهشة من الشاعر حسين القباحي مدير بيت الشعر، حيث جاءت تفيض شاعرية ووطنية وحبا  في تلقائية مرتجلة، ودائما أردد  في التعدد تكمن الوحدة فهذه الأطياف الثقافية المتعددة والمتنوعة بمصر ترسخ أطياف الثقافة وجمالها وقوتها الناعمة التي يجب أن نحافظ على ديمومتها، كانت القصائد تترى والنقد أيضا حيث اشترك الدكاترة حسين حمودة ومحمود الضبع وهدى عطية  في ندوة أدرتُها حول «تحولات القصيدة العربية»

لو طلَّعُوني الجبلْ أطْلعْ على راسي

سعدتُ بمشاركة فرق الجميزة  في مهرجان الشعر حيث منحت الجميزة بأصالتها وجمالها المهرجان ليلةً تسابق فيها الشعر والطرب، وجاء التراث والمعاصرة متعانقين، تألقت الفنانة يَم سويلم مع الفنان ناصر النوبي  في أغنية:

لو طلَّعُوني الجبلْ أطْلعْ على راسي

لو قَرّشوني الحصى

أقْرشْ على ضِراسي (ضروسي)

بكل ما تحمله هذه الأشعار من معانٍ وخيال، جاءت الجميزة التي تضافرت مع الشعراء الذين شاركوها الإنشاد والطرب  في انسجام لا يتكرر إلا نادرا، وجاء صوت عبد الله جوهر وفرقة الأقصر للفنون الشعبية بلوحاتها المستوحاة من تراث طيبة وعبق الأجداد وتحطيب الجدود الذي توارثه الأحفاد ليقدموه  في طريق الكباش وكأن آمون وحورس وأوزيريس وإيزيس يلعبون بالعصى  في تحطيب مدهش؛ ولفرقة الفنون بالأقصر حكاية طريفة معي حيث اصطحبتُ وزير الثقافة الصيني  في جولة بالأقصر عندما كنتُ رئيسا للهيئة العامة لقصور الثقافة وانبهر الوزير الصيني بأداء فناني قصْر ثقافة الأقصر وكاد أن يبكي وهو يستمع لصوت الناي فما كان من عازف الناي الأستاذ طه إلا أن قدّم نايه هدية للوزير الصيني الذي دُهِش أكثر فقال لي: «هذه أعظم هدية أتلقاها  في حياتي لأن آلة الفنان لا يفرّط فيها لأحد».. ودعاهم لزيارة الصين وتقديم الفن المصري الفريد  في مقاطعات الصين.

بينما كنت أمشي  في طريق الأسود والكباش كنت أشعر بوقْع أقدام نفرتيتي وحتشبسوت ونفرتاري وآمون وممنون وأحمس وإيزيس فعلى كل حجر  في هذا الطريق مشت أقدام الملوك المقدّسين والملكات المقدسات وحملة المباخر من أمامهم ومن خلفهم وغرّدتْ الموسيقى الفرعونية الخافتة  في قلوبهم وهم ينظرون للنيل يشربون منه ماء الحياة فرحين بامتداد هذا الطريق حتى يسير عليه أحفادهم لتغرد طيبة من جديد بوصْل التاريخ القديم بالحديث، كانت الأسود والكباش تمشي معي نحو معبد الكرنك لنقف معا عند بحيرة الأقداس لتهمس إيزيس  في أذني أوزيريس: أحبك، ليفيض النيل وتهطل الأمطار وتبتسم طيبة مرحبة بالزائرين.

تمثالا ممنون

رأيت تمثاليْ ممنون يتركان حقلهما ويركضان حتى يشاركا أحفادهما  في الاحتفال بإعادة افتتاح الكباش، كان جسداهما الكبيران يبهران أهل طيبة وسائحيها لكن ابتسامتهما أضفت طمأنينة على الجميع، رحتُ أتساءل: لقد كان جسد الفراعنة  في حجم أجسادنا فلماذا نحتوا تماثيل أضعاف أضعاف أجسادهم (ارتفاع كل من تمثالي ممنون 18 مترا) هل لأنهم رأوا أنهم بأجسادهم النحيلة بنوا حضارة عظيمة فضاعفوا حجم أجسادهم على قدر عظمة مجدهم ربما، ألم يقل عروة بن الورد:

 أُقَسِّمُ جسمي  في جسوم كثيرة، وأحسو قراح الماء والماء باردُ

وعندما كنتُ أدرِّسُ  في جامعة الإمارات العربية المتحدة زرتُ القرية العالمية بدبي و في الجناح المصري كان تمثالا ممنون يربضان  في مدخل الجناح بحجمهما العملاق لأعرف أنهما مُسْتورَدان شراءً من الصين التي نسختهما  في قطَعٍ بلاستيكية بألوانهما الطبيعية، تُركّب هذه القِطَع وتُفَكُّ أيضا ودفعنا بالدولار ما يوازي ملايين الجنيهات ثمنا لهذا المستنسخ وجاءت الطامة أننا اشترينا من الصين مستنسخا لمقبرة فرعونية واحتفلنا بافتتاحها؟ وكتبتُ آنذاك عن هاتين الواقعتين مستنكرا فكيف نسمح لهم بتقليد واستنساخ آثارنا ثم نشتريها منهم؟ كيف نسمح لهم وأين القوانين الدولية التي تمنع هذا؟ وطالبتُ أن ننسخ نحن آثارنا ونبيعها للعالم ويبدو أن فكرتي لاقت قبولا فهذا ما تحقق أخيرا.

كنتُ أمشي  في طريق الكباش وقد اصطفت الأسود والكباش عن يميني ويساري متسائلا عن الأسود والكباش المفقودة، لعلها تعود يوما ما إلى مرابضها ليجتمع شملها من جديد، فالخراف الضائعة أكثر من الموجودة ولعلها شردت بعيدا عن أسودها وآباء هولها وربما ملّت من الجلوس من أمد بعيد وتركها رَصَدها، رحتُ أتمشى  في الأقصر التي صارت متحفا عالميا مفتوحا تسير فيه مواكب الملوك والرؤساء والأمراء والشعب والسائحون لينظروا كيف تبني طيبة مجدها الأبدي وكيف يصل الأحفاد حضارة أجدادهم لينحتوا أسماءهم  في طيبة الخلود.  

في عشق طيبة

لماذا الأقصر؟ بيني والأقصر علاقة حب وعشق، إنها طيبة التي قاوم أحمسُها إرهابَ الماضى، طيبة ذات الأبواب المائة، إنها أبواب العلم والأولياء، أبواب التوحيد والكبرياء، فهنا نبع التوحيد  في قُدس الأقداس، ونشأ سيدنا إدريس عليه السلام  في أرضها، وحكَم توت عنخ آمون الدنيا من حاضرتها ووقف الخلق ينظرون جميعا كيف بنت معابد الوحدانية وحدها، وكيف انحنى العالم إجلالا لخبيئتها، وكيف اختارها الملك تحتمس الأول عاصمة مُلكه الدنيوي وبوابة خلوده الأخروى، وهنا تقلدت فتاة الأقصر الأولى حتشبسوت مقاليد عرش مصر، وهنا ترقد  في جلال الموت جميلة جميلات الدنيا نفرتارى؛ أرضُها معطّرة، وقبورها مُدهشة، ومعابدها معجزة، ترابها يجمع الكنوز والأولياء، ونيلها ينساب  في صفاء، وكيف تجوّل المؤرخ الإغريقي هوميروس فانبهر واصفا جمالها «المدينة ذات المائة باب» ودُهش العرب بمبانيها الشاهقة ومعابدها الخالدة فأسموها «الأقصر»، هذه المدينة التي ملأَ التوحيد أرضها فصار قلبُها قابلا كل صورةٍ، فطريق الكباش جمعٌ بين الأسود والبشر مع الكباش والحجر، وأعمدة معابدها عجين حجري يرسم زهرة اللوتس وقرص الشمس محتضنا كنيسة، وعلى رءوس معبدها يرقد سيدي أبي الحجاج بمئذنته ذات الأعوام الثمانمائة، هنا مدينة الشمس الجنوبية التي احتضن نيلها معابد الحياة شرقا ومعابد الخلود غربا؛ هنا مدينة الصولجان تسير  في طريق الكباش فتلمع أسطرٌ يعيا بحل رموزها الأقوام، طيبة التسامح تقف  في وجه التعصب، فهي طيبة الكرنك والقديسين، طيبة الشيخ الطيب وأبي الحجاج وممنون ويحيى الطاهر وبهاء طاهر وأحمد شمس الدين الحجاجي وحشمت يوسف ومأمون الحجاجي ومحمد عبد المولى وحسين القباحي وأدهم العبودي ومحمد إبراهيم حسان والحساني عبد الله وعبدالسلام إبراهيم ومحمود مرعي وبكري عبدالحميد وغيرهم، هنا وقف التاريخ لحضارتها منشدا، وهنا بني المصري للحضارة معبدا، ها هي طيبة التاريخ والمستقبل، لا يعيش أدباؤها  في الأبراج العالية لكنهم ينقلون ما يرون وما يحسون به؛ ألم يقل ابن رشيق «سُمي الشاعر شاعرا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره».

أمنيات للأقصر

كم أود من المستشار مصط في محمد ألهم محافظ الأقصر أن يحافظ على هذا المظهر الحضاري للأقصر وأن يضيف على ما بدأه محافظاها السابقان اللواء سمير فرج الذي بدأ إظهار طريق الكباش والدكتور محمد بدر وأن يدرس أبناؤها تاريخها ليكونوا كأجدادهم بناة حضارة. فهنيئا لمصر بطيبة وهنيئا لأهلها بافتتاح طريق الأسود والكباش.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق