مجتمع

حتمية العواطف وحرية العقل

عبد الحي كريط

 في مستوى من مستويات الإنسان والمجتمع قد يكون من الصعب فصل وفهم ماهية العقل عن ماهية النفس, التي تتبلور من خلال العواطف والغرائز, وهذا يحيلنا إلى نظرية الحتمية التي تعتبر من المواضيع الهامة في المجال الفلسفي والديني, وهي من القضايا الفكرية الفلسفية الشائكة التي سال فيها الكثير من المداد والمناقشات والجدالات بين مختلف التيارات والمذاهب الفلسفية،وتكمن أهمية موضوع مقالنا هذا في تعلق الكثير من المواضيع الدينية والأخلاقية والاجتماعية بمفهوم الحتمية والإرادة والحرية, فجميع الفلسفات تطرقت إلى هذا الموضوع وتفرعت عنه فروع شجرة الحتمية وتوالدت هذا الأخير من خلال سلسلة من الحتميات ك الحتمية العلمية والسببية والحتمية البيولوجية واللاهوتية والمنطقية والحتمية التاريخية …إضافة إلى مذهب الملائمة التي تتوافق مع حرية الإرادة وتتلاءم مع الحتمية وأنه لا يوجد بالفعل تناقض أو تعارض بين الحرية والحتمية.

ولقد تطرق إلى هذا الموضوع الفلاسفة المسلمون والمتكلمون من خلال عدة زوايا ومناظير والتي تناولت حتمية أفعال الإنسان من خلال نظرية الجبر والاختيار، وهي من المواضيع الفلسفية التي شغلت الفكر الإسلامي خاصة بعد التغيرات السياسية والثقافية مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية واحتكاكها بحضارات وثقافات، والصراع على السلطة الذي خلف العديد من الردود والرفض من جانب الخاصة والعامة وفلسفة التبرير المصاحبة لهذه التغيرات التي حلت مكان الشورى أو الديمقراطية بمفهومها العصري وظهور فرق وتيارات فكرية وعقائدية.

ولعل الفيلسوف ابن رشد الذي تأثر بفكر ابن سينا فيما يخص بأفعال الإنسان، قد فرق 

بين العقل المادي والعقل بالفعل والعقل الفعال، وهذه العقول وداخل النفس وقد انتقد آراء المتكلمين فيما يخص بمسألة الجبر والاختيار وأن الاصل في الإنسان الحرية وهذا ما ذهب إليه الإمام الشيخ محمد عبده الذي قال إن الانسان حر بشهادة العقل والشريعة وأن الحتمية ماهي الا عبارة عن أسبقية العلم الإلهي، ولعل الإمام والفيلسوف حجة الاسلام أبي حامد الغزالي كان أكثر فهما ربما لآليات الجبرية والاختيارية عندنا قال: ((أننا مجبورين على الاختيار)).

وقد فرق الغزالي بين أربع قوى نفسية تقابل كل قوة منها عقلا خاصا، ولعل التراث العرفاني الصوفي الاسلامي كان أيضا من أكثر المذاهب التي تناولت حرية العقل والروح وحتمية القدر المعقدة التي لا يمكن أن نحيط بها من جميع النواحي ومحيي الدين ابن عربي هو من أكثر الفلاسفة المتصوفين الذين حاولوا فك شيفرة الحتمية لفهم حدود الترابط بين النفس والعقل وسلوكياته ومنعرجاته الامتدادية الماورائية.

ولعل أعظم الحتميين المحدثين الفيلسوف باروخ إسبينوزا الذي اعترف بقدرة الإنسان على تصور أي هدف والسلوك في اتجاه ذلك الهدف، فإنه مع ذلك قد وضع للسلوك الإنساني قانونا عليا يربطنا ببقية العالم الطبيعي ربطا مباشرا،أما شعورنا بالحرية فما هو إلا وهم، حيث يقول ((إن الناس يولدون جاهلين بأسباب الأشياء فيظنون أنفسهم أحرارا )).

ويقول أيضا ((أن أوامر العقل إلا الشهوات ذاتها التي تختلف بالتالي باختلاف الحالة المزاجية للجسم))

فالحتمية تلغي المسؤولية الأخلاقية عكس الحرية التي تؤكد هذه المسؤولية وما يلحق بها من الثواب والعقاب والتعلق في هذا الموضوع يدخلنا إلى مجاهل الميتافيزيقيا الجدالية المتشابكة التي من الصعب حصرها وضبطها لأن الحتمية يمكن تبنيها من قبل الملحدين ومن قبل المتدينين على حد سواء.

بين العواطف والعقل حتمية وحرية

العواطف حاجات حياتية حصلت للأحياء نتيجة تفاعل العقل بحوادث الواقع والغرائز، عادات عضوية معبرة عن الانفعالات العاطفية والتي تكررت بألوف الأجيال حتى أضحت وتبلورت إلى غرائز لاشعورية موروثة ولم توصف العواطف والغرائز باللاشعور اعتباطا ﻷنها حركات شبه آلية لخلوها من الاستنتاج والاستنباط خاضعة كل الخضوع للعلل المتتابعة.

أما العقل ذو الملكات العقلية الخمس فإنه شعور حر في تصرفاته كل الحرية لم يخضع لمبدأ العلة والمعلول.

فالعواطف وغرائزها أوجدها العقل عند تفاعل كائنه الحي بالواقع، ولم يوجد الواقع الملكات العقلية كما أن الملكات لم تكن معلولة لعلة من العلل الذاتية أو الطبيعية، لأنها كل الذات الإنسانية ولو أن ملكات العقل حصلت الواحدة بعد الأخرى بعد أن لم تكن موجودة لقلنا إنها معلولة ولكنها أصيلة في الأحياء بل ولا يخلوا أي كائن حي أو غير حي منها بنسب متفاوتة لاعتقادنا بحياة كل دقائق الطبيعة وعقليتها التي يتكون منها الكون العقلي أو العقل العام بعبارة أخرى.

وربما أن سبب حتمية إسبينوزا جهله أو عدم إدراكه بالفرق الجوهري بين عمل النفس أي العواطف والغرائز وعمل العقل أي الملكات العقلية فلا نقول بحرية إرادة العواطف ولكن نقول بحرية العقل وحده فمثلا عندما أتقدم لعمل شيء ما بنتيجة حساب عقلي شعوري استنتاجي فأنا حر بقدر عدم تدخل عواطفي وغرائزي بهذا العمل ومجبر بقدر تدخل عواطفي وغرائزي، وهذا ماأشار إليه الإمام أبي حامد الغزالي كما سبق ذكره في بداية الموضوع.

فلا نقول بحرية إرادة السكران والصبي والغاضب وهروب الجبان، فالسكران قد هجر عقله بخمرته فاستحال إلى عواطف خالصة والغضب من العواطف الحتمية وهكذا هرب الجبان من الخوف فالهرب غريزة والخوف عاطفة من العواطف لم تتملكها الإرادة العقلية الحرة. 

موقف القرآن الكريم بين الحتمية واللاحتمية

إن موقف القران الكريم بين الحتمية واللاحتمية يتضمن الحكمة الغالية لأن الإنسان لم يكن مجبرا كل الجبر ولا مختارا كل الاختيار بل أنه مختار بقدر تدخل عقله بعمله ومجبر بقدر تدخل عواطفه فقوله تعالى :((إنا أهديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا )) والذي يدل على حرية الإنسان لا يتعارض مع قوله ((إن الإنسان خلق هلوعا إن مسه الخير منوعا وإن مسه الشر جزوعا )). أي أنه مخلوق على عواطف الهلع والجزع والخوف وإمساك اليد في الإنفاق ولا استحالة في تدخل عقله للحد من هذه العواطف والتغلب عليها.

ولم يكن الإنسان على شيء من حرية الإرادة لما قال تعالى :((وما يظلم ربك أحدا )).أما قوله تعالى ((فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء )).فلا تتضمن معنى التعميم والشمولية، فقد تشاء حكمته أن يضل إنسانا فيورطه بالمشاكل والمنغصات التي تعطيه درسا نافعا قد يهديه إلى الخير لاستحقاقه الخير العاجل ومعنى هذا كله يشاء الله فهو إما أن يكون خيرا آجلا أو خيرا عاجلا ﻻ استحالة الظلم على مطلق الكمال ولهذا يقال الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه

فالعقل مناط المسؤولية الذي عبر عنه الحديث القدسي بمخاطبة العقل ((بك أعاقب وبك أثيب)) ومن باب الامانة العلمية فإن هذا الحديث اعتبر عند أغلب المحدثين من الأحاديث الموضوعة رغم أن الإمام أبي حامد الغزالي ذكره في كتابه إحياء علوم الدين إلا أن هذا لا يمنع أن جزء من الحديث ربما يكون على قدر من الصحة. وقد اعترف الغزالي انه ضعيف في علم صنعة الحديث وعلى العموم فإن الفرق الجوهري بين العقل والنفس (العواطف)، لو أن النفس امتلكت الاستنتاج لأصبحت عقلا آخر، وبما أن النفس تعمل بملكات العقل ولا ينقصها إلا الاستنتاج لهذا نجد العقل يضعف بقدر هياج النفس وتضعف النفس بقدر تفكر العقل وهذا يدل على وحدتها واشتراكهما بملكات واحدة وأفكار واحدة.

هوامش

القرآن الكريم

إحياء علوم الدين: ابي حامد الغزالي

الضرورة والاحتمال بين الفلسفة والعلم: السيد النفادي

Filosofía de la mente:artículo autour juan José sanguinete

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق