خارج الحدودسياسة

ثمن حقوقي للحرب الروسية على أوكرانيا في مصر

أحمد مفرح

رغم أن الحرب الروسية ــ الأوكرانية، التي بدأت في 24 فبراير/ شباط 2022، ويكتوي العالم بشرّها وأزماتها، وما زالت تهدّد استقراره، نتاج للديكتاتورية الاستبدادية والشعبوية الغاشمة، لم يتوقف العالم المتقدّم، الذي يؤثر النظرات والمصالح الآنية، عن دعم النظم الشمولية وشركاء القمع، في الشرق الأوسط، وكأنه يعطي ضوءًا أخضر لمزيد من الانتهاكات، ليجني في المحصلة، بلا أدنى شك، حصاد صناعة الكراهية والتطرّف.

خطورة غضّ الطرف وموازنات المصالح، في المطلق، ترتبط بالذكاء الشيطاني الذي باتت تتمتع به الديكتاتوريات المتفوقة قمعاً، والمتردّية اقتصادياً، فهي تقامر بكل شيء، وتتحرّك على الحبال بأريحية ودقة، وترهن مقدّراتها لمن يدفع أو يدعم أو يساند، وتصنع الأزمات وتصدّرها، وتتاجر بخسائرها، وتستدعي العالم ليقدّم لها العون، وتحذّره، وكأنها في موضع قوة، من خطورة انهيارها وتأثيره، وكأن العالم مدين لها بأمنه!

في هذا السياق جاء تحذير الإعلامي المصري، عماد الدين أديب، وهو ينطق بلسان النظام، في مقال له أثار جدلاً، من عواقب كارثية تهدّد أوروبا والدول العربية إذا لم تدعم الاقتصاد المصري بشكل عاجل ومباشر بمبلغ 25 مليار دولار. وقبل تلك التهديدات بساعات، دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي، في تصريحات في حفل افتتاح مشروعات الإنتاج الحيواني والألبان، دول الخليج إلى تحويل ودائعها في البنك المركزي المصري إلى استثمارات. ووضع أديب سيناريوهات كارثية، منها كابوس النزوح البرّي الكبير عبر الحدود مع ليبيا وفلسطين والسودان، والهجرة بالملايين عبر البحر المتوسط إلى أوروبا، وعبر البحر الأحمر إلى دول الخليج، وكأنه يصف الفايكنغ أو شعبا من الفوضويين مصاصي الدماء!

بيع الأصول في غيبة مؤسسات الشعب يسيل لعاب دول خليجية، الفائز الوحيد ربما من الحرب الروسية – الأوكرانية، التي أدّت إلى ارتفاع أسعار النفط، وبالتالي زيادة إيراداتها، خصوصا بعدما أعلن رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، في مؤتمر صحافي في 15 مايو/ أيار الماضي، أن إجمالي الأصول التي سيتم بيعها خلال أربع سنوات يقدر بـ 40 مليار دولار .. من حينها لم يتوقف السباق على التهام كعكة الشعب الكبير. ولكنها تمثل وضعاً كارثياً، مع تلال الديون. عدا ذلك، لم تلق لا الممارسات القمعية ولا التهديدات الكارثية في القاهرة، ولا المخاطر التي يواجهها الشعب آذاناً من الغرب، حتى أن المنظمات الحقوقية اعتبرت أن صمت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، في أثناء زيارتها مصر، تجاه القمع المتصاعد لنظامها، أو الاكتفاء بالتعبير عن القلق بعبارات ضعيفة غير واضحة، يشير إلى عدم اهتمام القادة الأوروبيين بحقوق الإنسان. فيما ذكرت صحف النظام، وكأنها تسخر من معارضيها، أن زيارة المسؤولة الأوروبية ستتمحور حول الغاز والغذاء والشراكة الجديدة.

بالتزامن مع صوت القذائف الروسية على أوكرانيا، شهدت السجون المصرية مزيدا من القمع، والتراجع الحقوقي، إلى درجة تغريب عشرات المعتقلين من مركز التأهيل والإصلاح الجديد، الذي جرى افتتاحه في نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وسط حملات بروباغندا فجّة، إلى سجني الوادي الجديد والمنيا شديد الحراسة (800 كلم جنوبي القاهرة)، مع الاستمرار في تجفيف الحوار الوطني من مضمونه، وسحب الدماء المتكلسة من شرايينه، وإبطاء حركة قرارات العفو الرئاسي، لتوازي سرعة السلحفاة، لنظام لديه جرأة، وتسرع يفتقد الحكمة، في اتخاذ القرارات الاقتصادية المصيرية، أو قرارات الاعتقال، وكأن الرسالة تضع سقفاً محدّداً للطموح، وتؤكد على أهمية القبول بما يمنحه النظام، وتحذّر من التجاوز أو الإفراط في التفاؤل.

كرّرت مراراً أن أي انفراجة في الوضع الحقوقي المصري، مع زيادة القمع والتجريف، اللذين مارستهما السلطات على مدار عقد، وغلق المجال السياسي وعدم وجود برلمان حقيقي، أو مساحة للتفاوض السلمي، تخفّف من ممارسات القمع، باتت تعتمد، بشكل كامل، على عامل الضغط الخارجي سبيلا وحيدا، للإفراج عن المحتجزين تعسفياً، ووضْع حد لقمع المجتمع المدني، والتأسيس لحق حرية التعبير والتجمع السلمي. لكن على العكس جاءت ردّة فعل الدول الغربية، وفي القلب منها الاتحاد الأوروبي، والبيت الأبيض، سلبية مجدّداً في مواجهة ممارسات النظام، وقفزه على استحقاقات مواطنيه، وكأن التقارب معه والتطبيع على حساب حقوق الإنسان والممارسة الديمقراطية باتا خياراً أصيلاً ووحيداً.

والحقيقة أنه منذ العام 2014 لم يحدث أن وصل الإنكار والإهمال الغربيان لملف انتهاكات حقوق الإنسان في مصر إلى مثل هذا المستوى. مع وجود تناغم مباشر بين المصالح الغربية والسلطوية المصرية. وهذا يعني أن الحرب الروسية على أوكرانيا لم تقتصر آثارها فقط على قضايا الأمن الغذائي، والأزمات الاقتصادية، وإنما امتدّت إلى تعاطي المجتمع الدولي مع قضايا المنطقة، خصوصا الحقوقية بالسلب، لا بالإيجاب، وكأنه لا بد أن تجتمع كل تلك المآسي على كاهل مواطنيها مجتمعة.

منذ سنوات، نحن نشير إلى عقد النظام المصري في عقد صفقات السلاح مع الدول الكبرى، وسيلة لا أخلاقية لشراء الذمم والولاءات وغضّ الطرف عن الانتهاكات، على حساب مواطنيه، ومصالح بلاده، والآن الحديث عن إفراطه في «بيع أصول البلاد» ومقدّراتها ومياهها، ليضمن البقاء بعدما أفلست خزائنه بفعل الفساد والبعد عن المحاسبة والإهدار، بينما تتراكم الأزمات على مواطنيه، وتتردّى أوضاعهم، بما يهدّد الانفجار.

يعاني النظام المصري اقتصادياً، ومن نتائج تلك المعاناة لجوؤه إلى لعبة الحوار الوطني وملهاته، وكل السياسيين في مصر الموالين والمعارضين يعلمون ذلك، ويدركون أنه يستغلّ نتائج فشله أيضاً في تهديد الدول الغربية، وكأنه البلطجي الذي يمسك بأسرار حماية أمنها. على المنوال نفسه، تدرك دول المنطقة مدى الاحتياج الأوروبي لمصادر بديلة للطاقة الروسية، واستغلت ذلك في مناقشاتها مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، من أجل تدعيم شرعيتها، وتقنين قمعها معارضيها السلميين.

في مقابل ذلك، فشلت المنظمات الحقوقية العاملة على ملفات الاتحاد الأوروبي والبيت الأبيض في مواجهة تيار التطبيع مع السلطوية، وما تقوم به من تحرّكات، مثل مبادرات الحوار والإفراج عن أعداد محدودة من المعتقلين، ما يهدّد الملف الحقوقي برمته، ويجعل المنظمات والمدافعين عن حقوق الإنسان لقمة سائغة بمفردهم في مواجهة حملات القمع والترهيب.

هناك ثلاثة احتمالات: أولا، أن يستمرّ النظام في تقديم قليل من التنازلات الحقوقية، على وقع الأزمة الاقتصادية، مع استخدام البروباغندا الإعلامية لتعظيم الانفراجة المحدودة في ملف المعتقلين السياسيين، واستمرار إطلاق العنان للأجهزة الأمنية للقمع، والتحكّم في مخرجات الحوار وإفراجات السجون. ثانيا، مؤتمر قمة المناخ ربما يعتبره النظام صكوكاً دولية في مواجهة أي ضغوط قد توجّه إليه، ويبدأ حينها بالتراجع عن وعوده، والعودة إلى استهداف المنظمات الحقوقية والمدافعين عن حقوق الإنسان في الداخل، واستئناف ملف الإعدامات السياسية، وغلق أي باب للحوار والارتداد السريع مرة أخرى إلى المربع صفر. ثالثا، أن يعمل النظام على تعديل سلوكه، ويبدأ في العمل التدريجي على تحسين الأوضاع في ظل الضغط الاقتصادي والاجتماعي الذي ربما يستمر إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2024، ولكن تلك الاحتمالية تصدم بيقين النظام أن السبب الرئيسي لثورة 25 يناير (2011) هو مساحة الحرية التي أطلقها نظام مبارك، وأنه لولا ذلك لما خرجت الأمور عن السيطرة.

السيناريو الثاني هو الأقرب إلى الواقع، يدعم ذلك الخيار معرفة تكتيكات عمل النظام وفلسفته، والتفافه الدائم على وعوده، وعدم تحقيقه أيا منها منذ أحداث 2013، وخوفه الشديد من أي انفراجةٍ سياسية، فهو يربط مصيره بالغلق والقمع. وفي كل الأحوال، سيظل الوضع الداخلي متأزّماً، وستشهد الأوضاع الاقتصادية، والأبعاد الاجتماعية، مزيداً من التدهور، والتحلّل، الذي سيظهر تأثيره مع نمو العنف المجتمعي وتصاعده، كما حدث في أسبوع القتل، بالأيام الماضية، الذي بدأ بذبح طالبة آداب المنصورة في الشارع وعلى مرأى من المارّة، وتبعته عشرات الجرائم وحالات الانتحار، يضاف إلى ذلك شيوع التطرّف، خاصة داخل مقار السجون ومراكز الاحتجاز، ما يجعل من القطر المصري مفرخة، متوقعة، للإرهاب والأفكار المتطرّفة التي سيمتدّ تأثيرها ومخاطرها إلى الإقليم المحيط.

على المدى القصير، قد تتجاوز الحكومات الغربية أزمة الطاقة، ويتعايش مواطنوها معها، ولن يتأثروا حينذاك كثيراً بسعر غالون البنزين، لكن على المدى البعيد سيدفع هؤلاء ثمن انتشار القمع الذي تدعمه حكوماتهم، والذي سيولّد فقراً مدقعاً مغلفاً بسلوكيات التطرّف ومشاعر الكراهية، وهي إشكالات لا حلول لها.

(عن العربي الجديد)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق