ثقافة وفن

تقديمي لكتاب المهدية بأقلام غربية للبروفيسور بدر الدين حامد الهاشمي

د. عثمان أبوزيد عثمان

[تسلمت هذه اللحظة كتاب البروفيسور بدر الدين حامد الهاشمي بعنوان: المهدية بعيون غربية، وقد شرفني المؤلف الكريم بكتابة مقدمة الكتاب الذي اشتمل أيضاً على مقدمتين بليغتين لكل من البروفيسور عبد اللطيف البوني والأستاذة أم سلمة الصادق المهدي. وفي الأسطر التالية مقدمتي للكتاب:

سُئل عشرون من الكتاب الناجحين في الغرب: لماذا يكتبون؟ فكانت إجاباتهم متباينة، فمن قائل: أريد أن أوقع تأثيرًا في قلب القارئ وعقله، ومن قائل: “لدي عائلة وأحتاج إلى النقود”، وهناك أكثر من كاتب وكاتبة قالوا: “نكتب لأن الكتابة هي الشيء الوحيد الذي نتقن فعله”! أما تيري ماكميلان من كاليفورنيا، فقد أجابت بعبارة حاسمة: “أكتب لأن العالم ليس مكانًا مثاليًا، ونحن لا نتصرف بشكل مثالي…”.

يزورني من وقت لآخر صديق حميم، عرف حبي للكتب والكُتَّاب، وفي كل مرة، يُهديني واحدًا من مؤلفاته الكثيرة التي صارحته بأنني لا أرى فيها شيئًا ذا بال. سألته ذات مرة: أراك مجدًا في إنتاج الكتب، هل تكسب منها المال الوفير؟ فقال لي: “والله لا أطالُ من هذه الكتب شيئًا، إنها مخزنة الآن في غرفة أتكبد إجارها! كنت أعمل بالتجارة، أحمل بضاعتي من مكان إلى آخر، فانقلبت سيارتي، وأصبت بحالة نفسية ألزمتني ما ترى من العمل المستمر في النشر والتأليف…”.

أستطيع أن أجزم بأن البروفيسور بدر الدين حامد ليست فيه تلك الحالة النفسية ـ لا قدَّر الله ـ وهو لا يكتب من أجل النقود، فليس في بلادنا من يكسب عيشه من تأليف الكتب، بل إن الكاتب عندنا يعتاد الصرف على كتبه من حرِّ ماله… وشخص مثل البروفيسور بدر الدين بلغ الغاية في الترقية الأكاديمية، ونال ما نال من الدرجات العلا ـ تبارك الله ـ لا يكتب من أجل المال.

إذن ما الذي يدفع عالمًا في حقل الأدوية والسموم إلى ترجمة التاريخ، وهما تخصصان ليست بينهما واشجة. وجدت الإجابة الشافية في مكان آخر من هذا الكتاب، وهي (جملة مفيدة) ضمن كلمة ابتدر بها المترجم هذه المجموعة المتفردة من المقالات والأوراق عن الثورة المهدية في السودان، متحدثًا فيها عن: “مسئولية فتح ملفات الماضي وتقويمه، لا بغرض التراشق وتبادل الاتهامات، بل بنية استخلاص عبراته وتجاوز أوضاره. فعسى أن يهدينا ذلك إلى استشراف مستقبلٍ طليق، خالٍ من عقابيل الماضي، متحرر من  مراراته … ويبقى غرضي من نشر هذه المقالات هو الإسهام بقدر المستطاع في جهد التنوير الثقافي، وتسليط الأضواء الكاشفة على جوانب من تاريخ  بلادنا، قد لا يقع عليها الكثيرون، لا سيما أجيالنا الطالعة من الشباب”.

إنها مسئولية جسيمة، استشعرتها مع المترجم، لأني تجشمت مثله مشقة نقل التاريخ من اللغة الإنجليزية إلى العربية، وذلك عند مشاركتي الدكتور محمد الخضر سالم في مراجعة ترجمته كتاب “السودان في عهد ونجت” لمؤلفه جبرائيل ويربيرق، المنشور بمناسبة كادقلي عاصمة للتراث السوداني 2015م.

فوائد كثيرة يخرج بها القارئ لهذا الكتاب، ولكن ثمة خلاصةٌ مهمة يجدر التنويه بها، وهي خاصة بتناول الغربيين للتاريخ الإسلامي، وما قد يوجد لديهم من نقص في الرؤية والفهم.

قد يقال ـ وهذا حق ـ إن فلاسفة التاريخ في الغرب ربما فاقوا المؤرخين المسلمين أنفسهم في تفسير التاريخ الإسلامي، ولكن يبقى شك كبير في زاوية الرؤية التي ينظر بها أصحاب الدراسات التاريخية الغربية للإسلام. لذا وجب علينا التحرز من قبول كل ما يقول به المؤلفون الغربيون في التاريخ الإسلامي، ولا سيما معدُّو الروايات التاريخية والصحفيون.

حسبنا في ذلك المقارنة بين رؤية السيد أحمد بن زيني دحلان (1817 – 1886م) كبير فقهاء ومفتي المذهب الشافعي في مكة، وإمام المسجد المكي في أخريات سنوات العهد العثماني، وبين كتابات الغربيين عن الإمام محمد أحمد المهدي. الأول يراها “دعوة ربانية صادقة لا تهدف إلا لبعث الدين وإعادة مجده والدفاع عن المسلمين روحيًا وسياسيا”، في حين يختصرها كثير من الغربيين في مجرد “رد فعل لدراويش دافعوا عن مصالحهم عقب حظر تجارة الرقيق”.

وهناك الهجاء اللفظي الذي يقف عليه القارئ في ثنايا الكتاب، والذي لا يتسق كثيرًا مع المنهج ، مثل وصف أحدهم الثورة المهدية بـ “الاحتلال المهدوي للسودان” ومثل نعوت سلاطين باشا الجائرة للأنصار بـ “الوحوش البرابرة”، التي جاءت في كتابه السيف والنار.

إن قارئ هذا الكتاب يلمُّ بالكثير من التفاصيل الغائبة عن تاريخ السودان، جاءت في مقالات يتخذ بعضها قالب الكتابة الفنية التعبيرية، وعهدنا بالكتابة التاريخية أنها نمطية ورتيبة إن لم نقل كئيبة!

لقد شاقني المقال الجيد للبريطاني بولتون بعنوان: إسماعيل المنا فكي وأمير من كردفان. إنه نقل أمين من أفواه الرجال والنساء بمن فيهم إحدى زوجات الإمام المهدي في منطقة التيارة بكردفان عام 1934م. والمقال مكتوب بصيغة السرد الروائي عن الفكي المنا أحد أمراء المهدية ممن أوقعه حظه العاثر في طريق رجال حول المهدي، فثارت غيرتهم السياسية عليه، وكان ما كان من النهاية المحتومة.

وأنا لا أريد أن أستبق الكتاب، ولكني أشير إلى الأثر العميق الذي يتركه في قلب القارئ وعقله…

لقد تأملت مليًا وثيقة الاستسلام التي كتبها وجهاء أم درمان عقب دخول جيش كتشنر إليها، والتي نقلها وعلَّق عليها بروفسيور روبرت كرامر (أستاذ تاريخ الشرق الأوسط وإفريقيا بكلية سانت نوربينت بولاية وسيكنسون الأمريكية). كأن التاريخ ينسخ نفسه. لننظر في أوضاع الشعوب التي تعايش قصة (الغالب والمغلوب) في وقتنا الحاضر، فنرى كيف ينتقل الولاء من عهد إلى عهد ومن رئيس إلى آخر، بل كيف تنتقل البندقية من كتف إلى كتف، كلما حالت الأحوال بالناس ودالت بهم الدول. 

كنت مستغرقًا في موضع آخر من الكتاب في قراءة مقال ” من رسائل ونستون تشرشل” حين دخلت عليَّ زوجتي، فتساءَلَت بقلق: “في شنو… في زول مات؟! قلت في نفسي: “زول واحد؟ إنهم ثمانية عشر ألفًا من أبناء الوطن حصدتهم مدافع (المكسيم) في ساعتين! يالها من  مشاهد فظيعة نقلها تشرشل من ساحة القتال في اليوم التالي لمعركة كرري.

ما أكثر العبر، وما أقل الاعتبار!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق