
الغَنَم والغَنَّام
أ. د. محمد أبو الفضل بدران
بصيرة طه حسين
بينما كنتُ أمشى في معرض أبو ظبى الدولى للكتاب الاثنين الماضى قابلتُ الدكتور طه حسين يتمشى في دون دليل في المعرض فقد اختارته الإمارات العربية المتحدة ليكون شخصية معرض الكتاب في هذا العام، فكل الشكر لسعادة محمد خليفة المبارك رئيس دائرة الثقافة والسياحة وللدكتور على بن تميم مدير مركز أبو ظبى للغة العربية وللأستاذ سعيد حمدان الطنيجى مدير المعرض، كان طه حسين فرحا بهذا الاختيار لأنه رأى احتفاء الوطن العربى به بل العالم، فثمانون دولة تشارك في المعرض وتحدثتُ في ندوة طه حسين التي بدأَتها أ.د. إيناس عبد الدايم وزيرة الثقافة مثمّنة اختيار طه حسين شخصية المعرض المحورية شاكرة اختيار رمز من رموز الثقافة العربية ومتوقفة أمام مقولته الخالدة «العلم كالماء والهواء» وتحدث الدكتور عمار على حسن عن أيام طه حسين وبلاغته وآرائه بينما توقفتُ حيال حياته التي انتصر فيها للعقل مثل صديقه أبى العلاء المعرى، تكلمتُ عن معاناة طه حسين ومعاركه التي خاضها من أجل نشر العلم والثقافة وحرية البحث العلمى، فالباحث الحق من يلقى بأحجار أفكاره الجديدة ليحرك البحار والبحيرات البحثية النائمة المكرورة، تناولتُ ترجماته التي نقلها بلغة تحسبها لجمالها اللغة الأصل التي كُتب بها العمل المُتَرجَم، مواقف طه حسين ومعاناته تظل قدوة لأجيال لاحقة ترى فيه العصامى الذي لم تهزه الرياح وإنما بنى نفسه علميا وتربويا ومثقفا وذا رأى يُعمل تفكيره، وسمعته وهو يتمشى مرددا مقولة صديقه أبى العلاء المعرى:
أيها الغِرّ إن خُصِصْتَ بعقلٍ
فاتّبِعْهُ، فكلُّ عقلٍ نبيُّ
ذكرى شاكر عبد الحميد
عام مضى على رحيل الصديق الناقد الدكتور شاكر عبد الحميد الذي لا أدرى متى قرأ كل مصادر كتبه وبحوثه؟ وكيف وجد وقتا ليؤلف كل هذه الكتب والترجمات التي تخدم طريقه العلمي وكل هذا وذاك في منهجية علمية محكمة ولغة أدبية رفيعة، وقد فتح آفاقا جديدة في النقد الأدبي لأنه خبُر علم النفس والاجتماع والفلسفة والفنون والآداب ووظّف كل هذه العلوم في النقد الأدبي لذا جاء نقده مختلفا عمن سبقه وعن مجايليه لأنه كان يقف على ضفة التحليل النفسي للأدب من جهة، وعلى الضفة الأخرى ترك للتأويل جموحه التخييلي الهادر ففكّ رموز بعض النصوص الأدبية التي غلقت مفاتيحها عن النقاد والمتلقين، وفي كتابه «الحلم والكيمياء والكتابة في عالم محمد عفيفي مطر نجد فك الغموض المستغلق في شعر عفيفي مطر إذ رآه بعض النقاد «يشيع في شعره ظاهرة الغموض بشكل خطير… وأنه مفتون افتنانا كبيرا بتكديس الصور وتوليد بعضها من بعض دون أن يكون في القصيدة خط شعوري أو فكرى من الأساس» وشعور الناقد بصعوبة حل بعض رموز القصيدة وصورها جعله يتهم صاحبها «بتكديس الصور ومراكمتها، ويتهم القصيدة بالغموض واستغلاق الإيحاءات بحيث يخرج القارئ من قراءته لها خالى الوفاض؛ مما يزيد من اتساع الفجوة بين القصيدة العربية الحديثة وقرائها» لكن د. شاكر عبد الحميد يشمّر عن أدواته النقدية ومكنوز معارفه في الفنون وعلم النفس والاجتماع والفلسفة والنقد الأدبي ليشرح لنا صور عفيفي مطر التي يراها «صورا مركبة لكنها قابلة للحل وعالمه الشعرى عالم عميق لكنه قابل لسَبْر غَوْره، على الرغم من تلك الصعوبات المتمثلة في تركيب الصور عنده وكذلك تراثية المفردات وأشكال المجاز المختلفة لديه» وهنا يفتح مغاليق محمد عفيفي مطر من خلال التبويب الذي ترى فيه موسوعيته المعرفية فيقسم كتابه سبعة أبواب: الكدح، النيل، الصمت، الرعب، والأشباح، الأحلام الكيمياء، الكتابة ثم خاتمة أو محاولة للخروج، وهذا التقسيم السابق تتضح فيه قراءاته في علم النفس والأدب الشعبي وأثر كارل يونج المنهجي عليه، لكنه فسّر ما لم يفسره النقاد من قبل؛ إننا لم نشعر بفقد المتنبى أو المعرى أو الجاحظ لأننا جئنا وقد رحلوا واتخذوا في عقولنا خانة الموتى فسكنوها لكن الأصعب الذي نواجهه هو تحويل الأحبة الأحياء إلى خانة الموتى، هنا صعوبة الفقد والتحوّل، هكذا كان حال مُحبى شاكر عبدالحميد الذين فُجعوا برحيله المفاجئ وانتقاله السريع دون نظرة وداع.
عبده الغنّام وغنم القرية
رجلٌ يأتي قريتنا من البادية في أوائل الصيف قبل فيضان النيل، كان منظرُ جَمَله وهو يقوده أشبه بمركبة فضاء بالنسبة للأطفال، يأتى مصطحبا أبناءه على حميرهم ومعهم كلبان للحراسة، يمرّ على بيوت القرية ليأخذ أغنام القرية للصحراء كان منظره وهو قادم من الصحراء كواحد من أبناء القرية يعود بعد غياب طويل، عاد من الصحراء لمدة يومين كي يسوق أغنام القرية التي يأخذها أمانةً عنده لمدة أربعة أشهر تقريبا ترعى هناك بعيدا عن الطوفان قبل بناء السد العالي حيث يطفو الماء فوق الأراضي الزراعية ولذا رأوا في هذا الغَنّام حلا سحريا، يأخذ الأغنام ترعى هناك في الكلأ، والعجيب أنه لأمانته عندما يعود يعيد أغنام كل بيت مصحوبة بالخراف والنعاج المولودة في أثناء فترة الرعى كان منظره مبهجا عندما يعود فوق جمَله ومعه أبناؤه فوق حميرهم مصحوبين بكلبين للحراسة لتنظيم الأغنام والعجيب أن يوم عودته يوم عيد كأنه معلوم لأفراد القرية، يأتي من بعيد حاديا لجمله والأغنام والجمع متلهف لرؤيته ويمضى كل قطيع من الأغنام إلى حوشه غير منقوص بل مزيد بما وُلد في أثناء غيبة فترة الرعي ويعطى كل بيت بعض الجبنة التي استخرجها من حليب الشياه، وقد كانت هذه الجبنة من أحلى الجبن التي أكلتها وقد بحثتُ عنها في ألمانيا فوجدتها في محلات الأتراك القدامى، وهى من أغلى الجبن وأنفعها كما عرفت مؤخرا. كما أنه لا يقصُّ صوفها في الصحراء بل بعد عودتها تستحم في النيل ثم يبدأ جزّ الصوف ويُعطى لامرأة بقريتنا كى تغزله ثم يأخذه عبد النور ليصنع منه «أكْلِمَة» وهى فُرُش من الصوف النقي الناعم تُفرَش على الدّكَك، أو نصنع منها البِرَد [مفردها بُرْدَة] والشيلان نتدثر بها في الشتاء القارس فلا نحس بالبرد مهما اشتد، لم يكن عبده الغنام يأخذ مقابل هذا العمل سوى كيلات من الفول أو القمح ويفيد من حليب الشياه والجبن المستخرج لكنه كان قصة من قصص القرية المملوءة بالأساطير عن الجنيات والحيوانات المفترسة التي يقابلها في الصحراء سنحكيها قريبا… كانت أياما جميلة.
أين التربية الوطنية؟
عندما كنا صغارا كان مقرَّر التربية الوطنية أو التربية القومية من المقررات التي يجب أن نذاكرها ونعيها جيدا ونتناقش فيها مع أستاذنا ونُمتحَن فيها وكان كِتابها يناقِش قضايا مصر والعالم العربي وواجبات المواطن وحقوقه أيضا ثم جاء زمن اختفت فيه هذه المادة أو لم تعد لها أهمية فاستهان بها الأستاذ والطلاب ولم نعد نسمع عنها إلا على استحياء ولذا وجدنا النتائج المحزنة فبعض الشباب لا يعرف شيئا عن قضايا بلده ووطنه وصارت الأنا العليا لديه مزيجا من الأنانية واللامبالاة بالآخرين كما أن القضايا الرئيسة في بلده لا تعنيه وصار يستقى معلوماته من وسائل التواصل الاجتماعي عبر أصدقائه في مجموعات مغلقة لا تتيح لهم معرفة الحقائق وهذا ما ينبغي أن نلتفت إليه في عالمنا العربي فمفهوم الدولة يتآكل لدى بعضهم ولا يعنيه أمرها لأنه يود أن يتحول إلى إنسان كوْنى وهذا بكل أسف يقتل لديه الانتماء للعائلة والبلد والوطن.. أعيدوا التربية الوطنية والقومية إلى مناهج مدارسنا مادة أساسية مع برامج ودورات تعمّق الانتماء وحب الوطن.
قصة طريفة من التراث
تروى د. سعاد الحكيم في كتابها الرائد «المرأة والتصوف والحياة» قصة تراثية «كان لهارون الرّشيد ابن زاهد، خرج من قصر أبيه تورّعًا، وقصد الحلال اليقين في كلّ شيء يُحيط به من مأكل وملبس ومسكن.. أقام في غرفة متواضعة مفتوحة على البريّة، عرف هارون الرّشيد بمكانه، قصده للزّيارة وبنيّة العودة به إلى القصر.. عندما رأى هارون الرّشيد الحال المزرية التي يعيش فيها ابنه، تحرّكت فيه مشاعر متضاربة، وبدأ – بحسب الرّواية – يلفت نظره إلى سوء وضعه، ويُشير إلى حال السّقف والجدران والأثاث وغيره، ثمّ أردف ذلك كلّه بأن قال لابنه: يا ولدى إنّك تحرجني أمام ناسي، كيف تكون ابني ويكون هذا حالك؟! لم يُحب ابن هارون الرُشيد وإنّما دعا أباه إلى الانتقال معه إلى خارج الغرفة، إلى البريّة المجاورة، جلس وإيّاه على مقعد، وقال له: يا أبى هل ترى هذا الطائر هناك على شجرة؟ قال هارون الرّشيد: نعم أراه. فقال الابن: اُدْعهُ ليقف على كفّك. فقال هارون الرّشيد: لا أستطيع يا بنى، كيف أكلّم الطّير، أو أجعله يُطيع إشارتى؟! ففرَد الابن كفّه في الهواء وأشار إلى الطّير أن يأتي ويحطّ على كفّه، فأقبل الطّير وحطّ على كفّ ابن هارون الرّشيد. هنا التفت الابن إلى أبيه وقال: وأنا أيضاً يا أبى، أنت تحرجني أمام ناسي، كيف تكون أبى ويكون هذا حالك!
في النهايات تتجلى البدايات
قال سرى السقطي:
ولمّا اِدّعيتُ الحبّ قالتْ: كذبتني
فما لى أرَى الأعضاءَ منكَ كَواسيا
فمَا الحبُّ حتى يلصق الجِلد بالحَشا
وتذبُل حتّى لا تُجيب المُناديا
و تنحلُّ حتى لا يُبقِّى لكَ الهَوَى
سِوَى مُقلَةٍ تبكى بها أو تُناجيا