بدوياتسلايدر

عندما تنعي القوافي مظفر نوّابها وتبكي بحورها بالدمع الغزير (2-2)

الأديب عبد الله مرير وذكرى أغنيات مظفرية خالدة بدمشق الصمود

د. محمد بدوي مصطفى

مقدمة:

حينما أرسلت الجزء الأول من مقالي عن مظفر النور، جاءني في الفور رد صديقي الدكتور المغربي سعيد يفلح العمراني كما يلي: «الله على مظفر… نعيته يوم موته في منبر جامعي حين كنت ألقي مداخلتي، في الوقت الذي لم يعلم الدكاتير بموته بعد… مظفر.. الثائر الفار من الإعدام المحب للموت.. وجهان في عملة تناقض.. العراقي الذي فاق الجواهري وجوهر قريضه… حياك الله صديقي واهي سيدي محمد وصباح النور والورد، النعي كان عبارة عن ترحم عليه في بداية كلمتي.»

الأديب عبد الله مرير وذكرى مظفر النوّاب ومن تغنوا بقصائده:

وعندما سألت صديقي الأديب عبد الله مرير، ابن دير الزور، يقول:

أذكر عندما كنت طالبًا بجامعة دمشق، كنت ألمحه يؤثر الجلوس وحيدًا بمقهى هافانا بمدينة دمشق. يجالس خياله في ركن من أركان هذا المقهى العتيق. يكتب ما تمليه عليه نفسه. وكنت في ذلك الوقت كلّي شغف ووله، أن أجلس إليه وأتجابد وإيّاه أطراف الحديث ولو حتى شذرات. بيد أنني لم أتجرأ البتّة في أيّ من أيامي تلك أن أقاطع خيوط أفكار هذه العبقريّة الفذّة أو حتى أسمح لنفسي أن أعيق وأمنع نزول وحي آله الشعر إليه. فهو كما كثير من الشعراء والأدباء، مثال نجيب محفوظ، لا تتنزل عليهم الآله إلا في تلك الأماكن المعشوقة العاشقة في عشقتها بالناس. وحتى عندما أمر بذاك المكان مع أصدقاء الدراسة، فاستحضر كلامهم إلى يومنا هذا وأنهم ذكروا لي في غير مرّة أنّه يؤثر الجلوس وحيدًا، السفر في خيال العوالم وحيدًا، العوم في مجرات الشعر وحيدًا وكأنه ولد وحيدًا وعاش وحيدًا ومات وحيدًا وسوف يبعث وحيدًا، على أيّة حال ذكروا فيما ذكروا عنها وعن سيرته النيرة أنّه لا يحب مجالسة رواد نادي المقاهي الرياضي، ويكره ويبغض أن أن يقاطع سلسلة أفكاره إنسان أو حتى جان. ويسترسل الأديب عبد الله مرير قائلًا، بيد أنّ أهلي بدير الزور، تؤثرهم أشعاره، وعمومًا بسبب القرب الجغرافي للعراق، فهم يعشقون لدرجة الثمالة أحاديث بابل، ويحبّون الأدب والزجل الآتي من بلاد الرافدين. الياس خضر وطالب القرقلي ومظفر النواب هذا الثلاثي الخطير، يعتبرون من جهابذة الأغنية العربية بالعراق. فهم دون أدنى شك أساطير، انطبعت بالذاكرة الجمعية لبلاد دجلة والفرات، إذ اجتمعت هذه الطاقات بين الغناء، الشعر والتلحين، لتتفجر دررا وياقوتًا. مثال أغنية ليل البنفسج التي لم تصنع في نظري للغناء، بيد أن عبقرية الياس خضر جعلت منها تحفة فنية لن تنسى:

يا طعم … يا ليله من ليل البنفسج

يا عذر …

يمامش بمامش وأحبك

طبع بگلبي من اطباعك ذهب

ترخص … أغلّيك وأحبّك

أنه متعلّم عليك هواي

يا سولة سكتّي

يا طواريّك … من الظلمة تجيني

چانن ثيابي عليَ غربه گبل جيتك

و مستاحش من عيوني

وعلىٰ المامش حنيني

چلمة الهجران زارتني

گبل حبك يغالي و ألّمتني

علىٰ المامش علّمتني

گبل حبك …

آنه حب چثير گبلك ذوّباني

لگّحت بعيوني كل الطّلِع

گبلك …

و إنت توَّك عوِّگك يلفيَّك أشگر

عوّگك كلش زمانك عن زماني

شلون اوصفك ؟

و إنت كهرب

و آنه دمعة عيني … دمعة ليل ظلمه

شلون اوصفك؟

و إنت دفتر … و آني چلمه

يلّي ما جاسك فكر بالليل

ولا جاسك سهر

يلّي بين حواجبك غفوة نهر

يلّي جرّة سما بعينك

خاف أفزّزها من اگلّك

آنه أحبّك …

مامش بمامش … و للمامش

يميزان الذهب و أدغش و أحبّك

سلّمت كل الحجي الوادم

و أرد أگلّك …

فرني حسنك يا بنفسج

و إنت وحدك دوختني

و علىٰ حبّك …

أنه حبيت الذي بحبهم لمتني

يا طعم … يا ليله من ليل البنفسج

يا عذر …

يمامش بمامش وأحبّك

أذكر أنني التقيت مع عباقرة الغناء مثال فؤاد سالم، رحمه الله، وكنت قد التقيت به مرّتين أو ثلاث مرّات وجلس معه ونعمت بحديثه العذب. وجلس أيضا مع الياس خضر بدمشق في عام ١٩٩٧، ويا لها من نصف ساعة كنت قد حظيت بها وحدي، قبل أن يصعد إلى خشبة المسرح ليغني في تلك الليلة الغنّاء. واستحضرنا في ذاك اللقاء طالب القرقلي والشاعر الفذ مظفر النواب. وهذا المطرب على نيته، عندما ذكرت له «زرازير البراري» وأغنية حنوان أحن، فحزن وآثر إليّ أن تلك الأغنيات من أجود وأعمق ما غناه بحياته على الإطلاق.

مظفر وأسرة النوّاب:

ينتمي هذا الشاعر الصنديد إلى عائلة عراقية عريقة وولد بمدينة بغداد في عام ١٩٣٤ التي عانى فيها وأوصدت أبوابها من دونه فتركها على مضد، مجاريًا المقولة الشهيرة: مجبر أخاك لا بطل. ولكنه في كل الأحوال خرج منها بطلًا وحلقت أطيافه على سمواتها تتحف الناس ببهاء الكلم وقوة الأحاديث وصلابة النضال. مظفر النواب اسم على مسمى، وقد سميت أسرته بهذا الاسم لأن أجداده كانوا نوّابًا للحكام وذلك في الهند عندما كان جدّه حاكمًا لإحدى الولايات. ويحكى أن أصول الأسرة تعود إلى موسى الكاظم، الشخص الذي تم قتله في خلافة هارون الرشيد بالسمّ، فلاذت العائلة بالهروب إلى الهند.

ويحكي التاريخ عن حكمة هذه الأسرة ودخولها في مجال السياسة مبكرًا وحتى في مجال الإدارة، لذا ذاع صيتها في الهند وعرض عليهم، حسب الروايات، أن يحكموا ولايات البنجاب، لكناو وكشمير. لكن عندما أتى الإنجليز كمستعمرين حاولوا الاستيلاء عليها ومنزعها من إدارتهم. ولم يبطر هذه الأسرة الكريمة أن تقف مع المقاومة موقفًا شريفًا، فانضموا إلى معاول الكفاح ضد المستعمرين، لكن باءت كل تلك المحاولات التي نشدت صد الاستعمار عن الهند بالفشل، فما كان من الإنجليز إلا أن خيروهم بالخروج والنفي إلى بلد من اختيارهم. فاختاروا مسقط رأسهم الأصلي، وفي هذه البقعة الطاهرة الفتية بغداد، بين الرصافة والجسر، حسب قول شاعر العرب علي بن الجهم، ولد مظفر نوّابها. عادت الأسرة محملة بكل أملاكها من مجوهرات، ثروات طائلة وبنى والده قصرًا آية في الجمال وكان ساعتئذ حديث الناس. بيد أن أياد القدر مدّت ألسنتها النارية على ظهر والده فجارت عليهم الحياة بكل ما لا يحمد عقباه، فتعرض الوالد للعديد من الإشكالات التي أسفرت عن فقده ثروته رويدًا رويدًا حتى صار مفلسًا في نهاية الأمر وكانت هذه نهاية مريرة لعامة الأسرة.

حياة مظفر في الصغر:

نشأ هذا الابن في بيت عز ورفاهية، حتى بعد انتكاسة الأسرة، وعرف الآداب وكان من شدّة فطنته ذواقًا للفنون والشعر والعلوم. ولم يفلت هذا النبوغ من أعين أساتذته بالمدرسة، لا سيما موهبته الأدبية وشاعريته الفتيّة إذذاك. فكان سليم النظم ودقيقا في استعمال بحور الشعر، لذلك شجعه أساتذة اللغة العربية بالمدرسة في أن يسير في طريق الشعر والعروض قدمًا. وكان نشطًا بالمدرسة في الجمعيات الأدبية والنشاطات الثقافية وبزغ نجمه حينئذ في سماء الدراسة بين الطلاب وساقته حرفيته وصنعته المتألقة إلى جامعة بغداد ليدرس في كلية آدابها الشهيرة والتي قادها عظماء الأساتيذ مثال أستاذنا إبراهيم السامرائي، هذا العبقري الفذ، وغيره من عباقرة أفذاذ. لكن بعد انهيار نظام الملك في بلاد الرافدين انتقل الحكم الملكي إلى النظام الجمهوري، ذلك بعد عام ألف وتسع مئة وثلاث وخمسين، وقد تمَّ تعيينه حينئذ مفتشًا فنيًا بوزارة التربية والتعليم، فأتاحت له هذه الوظيفة الاهتمام بالفن والفنانين وألا تدفن تلك المواهب بداخل المكاتب الرَّسمية كما اعتاد الناس على ذلك في تلك الحقبة.

الشعر وجريمة الكلمات:

طريق الشعر في عالمنا العربي وعر وخطر، وعندما اختار شاعرنا مظفر هذا الطريق كان على علمٍ تام بوعورته وخطورته. ذلك لسبب واحد: الكلمة تقتل وهي في كل الأحوال أنجع من الرصاصة. لماذا؟ لأنها تبقى وتنتشر وتعبر البحور والصحاري. انتظم مظفر في الحركة الشيوعية والتي كانت تناهضها إذذاك الحركة القومية، حيث اشتد الوطيس بينهما إلى درجة الكراهية المطلقة. وعند ضيق الطوق على الشيوعيين فرّ شاعرنا إلى إيران بسبب ازديار ملاحقة القوميين له ولشعره وأدبه. وفي إيران خطط للهروب إلى روسيا ذلك بالطبع قبيل الحرب العراقية الإيرانية، لكن السلطات الإيرانية ألقت عليه القبض وقامت بتسليمه إلى السلطات العراقية. ولأسباب عدّة منها كلماته الرصاصية المؤلمة، وشعره الصريح الخالد الذي أوجع النظام العراقي إذذاك وهزّ أسواره العاتية بل وضمائر أربابه في عقر ديارهم،ف ما كان على هؤلاء الجبناء إلا أن يخرسوها عبر التعذيب النفسي والجسدي لكن هيهات! وأجبروا شاعرنا أن يلتزم الصمت المطبق، فحاولوا معه مرارًا وتكرارًا إن يلبسوه تهمًا لم يقم بها وعليه عبر ماكينة التعذيب وتحتها، الاعتراف بها، ولم يكن له حقيقة علاقة بها ولم يفعلها أو يعرفها بالأصل. والشيء المؤسف أن تمّ تغييبه في غياهب السجون فجاء من بعد الحكم الدامغ عليه بالإعدام شنقًا، بيد أن أسرته وذويه لم يبطرهم أن يسعوا  في أمره وأن يخفف الحكم عليه، فكللت مساعيهم بالنجاح وتمّ تخفيف الحكم عليه إلى السجن المؤبد. وجلس ينتظر الخلاص!

سُجن في البداية بسجن نقرت السلمان وهو يقع على الحدود العراقية السعودية، ومن ثم أودع بسجن الحلة الواقع جنوبيّ العراق. إلا أنَّ طعم الحرية كان أقوى من طعم المذلة لمظفر ومن كان معه من زملائه من الشيوعيين، الذين حُكم عليهم بالسجن المؤبد. نعم، قالوا في أنفسهم مقولات الحريّة، رددوها وتغنوا بها، وعرفوا إذا المرء يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر، ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر. وكان كذلك. فقام مظفر ومن معه بحفر نفق يصل بهم إلى خارج أسوار السجن، وعند الخلاص تنفسوا الصعداء ولعقوا طعم الحرية حتى ولو كانت محدودة بعد الخروج من تلك الخنادق. وأحدث هروبهم من السجن ضجة إعلامية عظيمة في الوطن العربي، وعاش شاعرنا ستة أشهر خلف الأستار بمسقط رأسه بغداد، ومن ثمّة انتقل إلى الأهواز في إيران وعاش بين الفلاحين والبسطاء إلى أن شاءت الأقدر وأُطلق عفو عنه وعن المعتقلين المعارضين من زملائه الشيوعيين، فعاد إلى سلك التربية والتعليم مرة أخرى، إلا أنَّ الاعتقالات طالته مرة أخرى وفي هذه المرة تدخل علي السعدي ليتم إطلاق سراحه، بيد أنّه آثر الخروج من بغداد فساقته أرجله إلى لبنان، وبيروتها الحسناء، ومن ثمّة إلى ساحرة بردى،  دمشق ومن بعد تنقل بين العديد من العواصم العربية والأوروبية ليستقر في النهاية في قلب دمشق النابض، حيث التقاه أديبنا الفذ عبد الله مرير، صاحب رواية سارة سيدة الخنادق، والتي صاغها من تحف أدب الحرب.

خاتمة:

إلا رحم الله مظفر النوّاب بقدر ما أعطى شعر وأدب وبقدر من تكبد ألم وتعب، اللهم اجعل مثواه الجنّة. فسوف تظل يا شاعرنا نبضًا حيًّا في ذاكرتنا الجمعية وسيبقى شعرك أبديًا في نفوسنا المجروحة، ومن بعد سلوى لنا وللشعوب والأمم الباكية، مهضومة الحقوق، ويستظل قدوة لنا ونبراسا في الشجاعة والبسالة والوفاء، وعلمًا بين الشعراء والأدباء من بين أولئك الذين كتبوا أسماءهم على صحائف التاريخ بمداد من نور. وداعًا أيها الشاعر، الأديب، وداعًا يا شاعر العرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق