
كفى احتقاراً للذات!!
فضيلي جماع
يقول المثل الشعبي السوداني: (عبداً بي سِيدو، ولا حُرّاً مُجَهْجَهْ)! والمعنى واضح .. فالعبد الذي ساقته أقدارُه ليقع في القيد، يعرف أنْ لا حول له ولا قوّة. لكنه يظل يحلم بالحرّية مثله مثلَ أيِّ كائن. أما الحُر „المجَهْجَهْ» – الذي لا يدري هل هو من الرقيق أم أنه سيد نفسه ، فذاك شخص فقد كيانه، وفقد حلم الأسير بالحرّية. الحر «المجهجه» هو نصف حر ونصف عبد. من بؤسه أنه يفتقر إلى خاصّةِ حُلم الأسير بالحرية! سقت هذا المثل الشعبي بعد أن طالعتُ مع الكثرة من السودانيين بياناً – أظنه صادر من إدارة شئون الحج بالسعودية – يوزع حجيج بيت الله الحرام هذا العام إلى مسلمين عرب ومسلمين غير عرب. ربما قصدت الجهات الرسمية في السعودية بهذا الإجراء عملاً إحصائياً أو غيره من المقاصد الإدارية. الذي يعنيني في هذا المقال هو علامات الاستفهام «البلهاء» التي ارتسمت على وجوه بعض السودانيين احتجاجاً على تصنيف السعودية لهم في دائرة الحجيج غير العرب!
ينتمي كاتب هذه السطور إلى رقعة من مساحة الوطن السوداني يعتدُّ ساكنوها من البدو بأنهم عرب. هم حقيقة لا يتحدثون غير العربية بلهجتها المحلية، التي لو سمعها عربي من الخليج لحسبها رطانة، رغم أنها تحوي في قاموسها من فصيح اللسانِ العربي ما اندثر أو كاد. أما ملامح من يتحدثونها فهي ملامح أفريقية بكل ما تعني فسيفساء القارة السمراء من تنوّعٍ خلّاق. التنوع الذي حملته القارة بدءاً بأمازيغ وطوارق الصحراء الكبرى، مروراً بملامح إنسان السلطنات والممالك في غرب القارة، كالفولاني والهوسا واليوروبا والإيبو وودّاي وغيرهم. إنتهاءً بالملامح الأفريقية الوسيمة للقبائل النيلية: الدينكا والنوير والشلك والأنواك. وكذلك الملامح الكوشية في الصومال والقرن الأفريقي إنتهاءاً بملامح البانتو في وسط وشرق وجنوب القارة السمراء. تنوع في الجنس واللون واللغة والدين والعادات وسبل كسب العيش. تنوّع في الفولكلور – في الموسيقى والطبول والرقص!
تظل اللغة – أي لغة – عنصراً واحداً فقط من عدة عناصر لتحديد هوية أمة من الأمم. لكنها – أي اللغة – لن تكون الدليل القاطع على هُوِيّةِ شعبٍ من الشعوب. يتحدث العدد الأكبر من سكان الولايات المتحدة الأمريكية اللغة الإنجليزية. ورغم أنّ لون بشرة غالبية الأمريكيين وملامحهم تشبه ملامح سكان الجزر البريطانية. وأنّ بعضهم ينسبون إلى شجرة عائلة من إنجلترا – موطن اللغة الإنجليزية، إلّا إنهم لم ينسبوا هوية الإنسان الأمريكي المعتد بثقافته وتاريخه إلى إنجلترا. فقد منحهم الوطن الجديد هُويّة جديدة ميزتهم عن القارة العجوز (أوروبا). يتباهى الأمريكي إلى حد الهوس بأنه من هناك – من غرب الأطلنطي! فهموم الإنسان في أشعار روبرت فروست وروايات أرنست هيمنجواي وجون شتاينبيك وغيرهم من عمالقة المبدعين موضوعها حلم الإنسان الأمريكي وثقافته!
وكذلك الحال مع البرتغاليين الذين وفد أجدادهم البحارة ذات زمان إلى أميريكا الجنوبية واستعمروا البرازيل – إحدى أكبر الدول مساحة في أميريكا الجنوبية. فصارت وطنهم مع إثنيات أخرى. لكن يستحيل أن يدعي برازيلي أنه برتغالي، علماً أن اللغة الرسمية للبرازيل هي البرتغالية، لغة أجدادهم المستعمرين. قرأت ترجمات في الإنجليزية لروائيين برازيليين فطاحل من أمثال جورجي أمادو وباولو كويلو.. فلم أعثر على غير مناخ غابات الأمازون ومزارع قصب السكر وأسماء الانهار والنبات والناس، وهي إسقاطات مأخوذة من بيئة غنية بتعدد واختلاف ثقافات شعوبها – من وافدين أوربيين وأرقاء سيقوا قهراً ذات يوم من أفريقيا إلى تلك المناطق النائية، فصارت وطنهم الأم الذي يعتدون ويفاخرون به. أطلقت البرازيل على أسطورة كرة القدم «بيليه» لقب (جوهرة البرازيل السوداء)! ولا يعرف بيليه ذو الأصول الأفريقية وطناً غير البرازيل.
ولو أنّ اللغة وحدها تعطي المرء هويته لأصبح عمالقة الشعراء والروائيين الأفارقة مثل السينغالي ليوبولد سينغور والنيجيريين وولي شوينكا (الحائز على جائزة نوبل في الأدب) وعميد الرواية الأفريقية شينوا أشيبي بل والجنوب أفريقية البيضاء نادين غولدمير – لأصبح هؤلاء مواطنين تابعين لفرنسا وبريطانيا. بيد أنهم ظلوا جزءاً من القارة السمراء، فخورين بمكونهم الثقافي المحلي في بلدانهم. فالقارئ لمسرحيات شوينكا لابد أنه يلاحظ ضمن لغة الحوار حشو شوينكا لمفردات أو حتى عبارات من إثنيته اليوروبا وذكر أسماء لطقوسهم الدينية المحلية. هنا تصبح الهوية عاملاً إنسانياً للتفر.
مشكلة بعض السودانيين تحتاج إلى مختصين في علم النفس الإجتماعي. شخص أسمر (أسود)، لكنه يزدري لونه الجميل. يحتقر لوناً هو رمز انتمائه لأجملِ الأماكن وأفضل الشعوب. ويتعلق بشجرة نسب لا وجود لها إلا في مخيلته المريضة!!
أختم بأنّ كاتب هذه السطور لا يحمل ضغناً على العرب. بل إنّ لي منهم أصدقاء كثيرين أعتز بصداقتهم والتواصل معهم. لكنّي أعرف أنّ انتمائي لشبه جزيرة العرب لن يعطيني قيمة مضافة إلى ما أنا به فخور. إنّ تصنيف إدارة الحج السعودية للحجيج السودانيين في قائمة الشعوب غير العربية عمل ينبغي أن نشكر السعودية عليه. فالسوداني الأصيل في غنى عن التمسّح بهوية تنأى به عن المكان الذي أوجده الله فيه، ومنحه فيه من الخيرات ما تحلم به شعوب العالم قاطبة.
لقد ظل بعض السودانيين يعيشون هذا الانفصام المذري. نقول لهذا النوع منهم: كفى احتقاراً للذات! نحتاج لهويتنا الأصل في قارة المستقبل أفريقيا في عالم يمسك كل يوم بتلابيب تجمعاته الكبرى ليحمي الفرد بها هويته وأرضه وثقافته كإنسان حر.