آراء

كوكاسيات

المقابر العربية أغنى أراضينا

عبد العزيز كوكاس

في إحدى الندوات، حول الذاكرة والتاريخ،  صرح الإعلامي الصديق معنينو، “إن المقابر هي أغنى أرض لدينا”، وكان قصده من هذه الاستعارة الجارحة أن يؤكد أن المسؤولين والقياديين ومختلف الفاعلين عندنا لا يكتبون مذكراتهم التي هي جزء من تراث الأمة، فيرحلون بأحداث ومعلومات ويموتون وفي صدورهم شهادات مفيدة للتأريخ، فتصبح بذلك المقابر التي تضم هذه الشخصيات بعد رحيلها أغنى من حيث ما تحتويه من شهادات قبرت مع أصحابها، وكان يمكن أن تكون لمذكراتهم وشهاداتهم فائدة ثرية على تاريخنا وعلى مستقبل أجيالنا لفهم أكبر لحاضرهم من خلال استيعاب مفاتيح ماضيهم.

ما الذي يجعل أغلب قادتنا وزعمائنا ومسؤولي أحزابنا ومنظماتنا وحتى المشاهير من فنانينا والأطر الكبرى في شتى المجالات تستنكف من كتابة مذكراتها والإدلاء بشهادتها حول عصرها في الوقت الذي تزخر به الأمم المتقدمة بسيل عارم من المذكرات من رئيس الدولة حتى عامل النظافة، ومن المشاهير إلى شخص مجهول في هامش منسي، الكل يضع تجربته في خدمة الذاكرة الجماعية؟

وأنا أعرض لهذا الموضوع انتبهت لكتاب “بين الصحافة والسياسة” للصحفي الراحل “محمد حسنين هيكل” حيث شدتني قدرة الرجل ـ من خلال كتابه ـ على اختراق جدران الصمت وكشف المسكوت عنه في زمن صعب، والإدلاء بشهادته الحية عن وقائع كان في قلبها.

لقد تردد كثيرا في كشف صفحات غامضة من التاريخ المعاصر لمصر مع مجيء الثورة الناصرية، وكشف الترابطات التي عاشها داخل عالم الصحافة في اشتباكه مع المجال السياسي… تردد كثيرا في هذا البوح لكن نداء داخليا كان يجذبه إلى الكلام، رغم أنه يعرف مسبقا أنه مهمة تجر خلفها سيلا من الصعاب والأهوال، يقول: “فلدى الآخرين سلطة وليس في يدي شيء، ولدى الآخرين منابر ضخمة كأنها الصحون وأنا في الهواء الطلق أو في العراء..”

كان يمكن أن يرحل بكل ما عاشه دون أن يثير من حوله غبار النقد والسخط، لكن كان هاجسه الكشف عن الحقائق وإيصالها إلى الناس، إذ أننا نجده عند تقديمه للكتاب يلح قائلا: “لابد، إذا كانت لهذه الصفحات قيمة أن تصدر بينما جميع الأطراف على قيد الحياة يملكون فرصة الرد إذا شاؤوا، وبأي وسيلة يختارون”.

لماذا لا نجرب الحديث في موضوعات انقضت بالفعل احتمالات التأثير على مجراها؟ لماذا لم يتم حتى الآن الكشف عن المسكوت عنه في مسارنا السياسي، خاصة في مرحلة الكفاح الوطني والديمقراطي؟ لماذا لم يكتب ساستنا وصناع القرار لدينا مذكراتهم؟ وإذا كُتبت لماذا لم تنشر إلا لدى فئة قليلة؟ وحين تكتب ألا يتم حجب الكثير من المعطيات عنها كما عشنا في مذكرات زعماء كبار، كانت شهادتهم ناقصة عن العصر الذي عاشوه.

هناك نوع من التضخيم في تسييح الحقائق وحجب المعطيات والوقائع، مع العلم أن معرفة ماضينا القريب ستساعد بدون شك على فهم سلوكاتنا الحاضرة، إن هذا الصمت هو الذي يجعل كل طرف/ فاعل يعتقد بأنه وحده له أحقية الكلام وسلطة توزيع الحقيقة، مع العلم أن الذاكرة مشتركة والتاريخ ملك جماعي.

اكتبوا يرحمك الله لتصبح الخزانات والمكتبات وذاكرة الأحياء الجماعية أغنى من المقابر.. فالآن وقت الكتابة وإلا فلا كتابة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق