ثقافة وفن

حرب الكلب الثانية

رواية مأساة البشرية السوداء (2)

جعفر لعزيز

هي إجراءات تامة، قامت بها جميع الدول تقريبا، للحد من انتشار وتفشي كوفيد19، وهي مسألة اعتبرها الناس قرارا صارما، لما للقضية من تبعات اقتصادية، إلا أنه السبيل الوحيد للتقليص من المرض الذي ينتشر بسرعة، في ظل عدم وجود لقاح للمرض، “أخبار فرض حظر التجوال، قرار صارم لا يسمح لأي سيارة بالتحرك، باستثناء سيارات الإسعاف والشرطة، وتم تفعيل الحواجز الالكترونية وإشارات المرور على الطرق بحيث لا تسمح سوى لسيارات الإسعاف والشرطة بالمرور”.

إحساس مؤلم أن ينعزل العالم، وأن تستقل الأمم لفترة، وأن تفرغ الأماكن، وأن يتقلص ضجيج البشرية، كأن العالم سينتهي، عبارة وردت في الرواية هي: “إحساس بأن العالم على وشك الانتهاء”، فالوباء حرب يلتهم البشر دون حد، نبأ جاء على لسان شخصية راشد في الرواية، الذي يمتلك قوة بومية خارقة، يتنبأ فيها بالكائن والممكن. والمسكوت عنه أن إبراهيم نصر الله يسعى ليرسم للعالم -بأسلوب سردي- أزمة العالم القادمة، والحرب التي سيعظم شأنها بفتك أرواح الناس، الدليل من الرواية قوله: “نحن بحاجة لملاحظاتك، بحاجة لأن نصل إلى فهم عميق يؤهلنا للنجاة من أي حرب قادمة مثل تلك التي وقعت والتهمت من البشر ما التهمت”.

بخصوص الاحتكار الذي وقع بين الناس، فلم يغفله الكاتب، فقد أشار إليه في قوله: “”بدت الشوارع أكثر حيوية، فقد استغل الناس ساعات رفع حظر التجوال، كما يحدث في كل مكان، وانطلقوا باحثين عن الأشياء الضرورية، وغير الضرورية، التي تلزمهم عاجلا أو آجلا”.

منطوق النص مُصَورٌ لما حدث في بعض المناطق العربية، لما كان الناس يتسابقون فيما بينهم من أجل أخذ عدد كبير من الحاجات التي ستكفيهم عاجلا وآجلا بسبب حظر التجوال، مع العلم أن الدولة أعلمتهم بوجود المواد الكافية في الخزينة، وأخبرتهم بأخذ ما يكفي دون إسراف، إلا أن قرار الشعب لم يأمنه القول، فتسارع للحصول على المؤونة ليكدسها في بيته. هذا مؤشر على عدم الثقة من جهة، وعدم الشعور بالأمن من جهة الثانية، والحسد والتباغض ثالثا، وعدم الوعي رابعا، مع أن الحكومة أيضا حددت أوقاتا يخرج فيها المواطن لقضاء حاجاته، قال الكاتب: “حظر التجوال الذي يفرض بين حين وحين، مع السماح للناس باستخدام أقدامهم في المناطق التي يسكنونها لشراء لوازمهم الضرورية لعدة ساعات يوميا”.

ومشكل التسارع التجاري نحو الاحتكار أمر يشير إلى عدم امتلاك فكر الجماعة، والتفكير في الآخر. الإنسان يفكر في ذاته فقط، متناسيا الآخر المسكين الفقير الضعيف، الذي لا يملك مالا كافيا يشتري به ما يكفيه عاجلا وآجلا، مع العلم أنه سيتوقف عن العمل بسبب حظر التجوال. ولتجاوز معضلة الفردانية وهذه المأساة نستحضر قول راسل: “ينبغي أن يتعلم الأطفال في مرحلة مبكرة إدراك ما يتسم به العصر الحديث من ضرورة اعتماد الجماعات المختلفة من الناس بعضها على البعض، وكذلك إدراك أهمية التعاون وسفاهة النزاع، ويجب أن يتشربوا نظما أخلاقية جديدة للنمو والتكيف المتبادل؛ بما ينطوي عليه ذلك من إمكانات في الحرية، بدلا من النظم الأخلاقية القديمة من كتب صراع وانتصارات وهزائم، وباختصار يجب إعدادهم ليكونوا مواطنين في العالم الذي سيكون عليهم أن يعيشوا فيه”.

أيام مريرة يحق فيها أن تظهر الإنسانية في أسمى تجلياتها، وخلق ترابطات تتجاوز التعصب والانتماءات الدينية والمذهبية، فالعالم جسد واحد نواته الإنسانية، ومشتقاته القيم الأخلاقية السمحة، إن العالم ينبغي أن تتساند أبعاضه لتجاوز الأزمات، و”علينا أن نتعلم التفكير في الجنس البشري بوصفه عائلة واحدة، وأن نعمل على تحقيق مصالحنا المشتركة باستعمال المصادر الطبيعة استعمالا قائما على الذكاء”. ص170.

نستمر في بيان مأساة البشرية السوداء في الرواية، لنقف على أمرين تم بيانهما بعدها نشير إلى أمور أخرى، الأمر المأسوي الأول هو استهزاء الناس من الوباء وجعله مجرد حلم عابر يصعب على الإنسان تصديقه، والأمر الثاني حظر التجوال وانعزال العالم، وانتشار الاحتكار والتباغض، مشيرين إلى تأزم حالات الناس وفزعهم من الطاعون، بحيث جعلوه “طرفة نبتت في أرض البراءة”، فصار “مأساة تتطلع جائعة لأرض الخراب”.

هما أمران يتطابقان تمام التطابق مع ما يحصل في عالمنا الحاضر، دليل مؤكد على دور السرد في وضع ارتسامات للمستقبل، ورسم معالمه الكبرى، وخطوطه العقدة، والنص المنساق مع هذا، قول إبراهيم نصر الله: “إن أسوأ مكان يمكن أن ينظر فيه الناس اليوم ليروا أنفسهم، هو المرايا”، وتحويرا لها بعبارة أخرى، إن أسوأ مكان يمكن أن ينظر فيه العالم اليوم هو المستقبل، فالمرآة قريبة من عبارة المستقبل، ولذلك إن الكاتب توقع كارثة مأسوية للبشرية هي الوباء.

حصد كوفيد19، أرواحا بشرية هائلة في دول متعددة، إلى أن فقدت بعض الدول سيطرتها على العدوى، لعدم وجود دواء يحد من تفشيه، ووجدنا في الرواية ما يدل على هذا، حينما قال الكاتب: “لم تتوقف الحرب رغم كل الإجراءات الرادعة التي اتخذتها القلعة، كان باستطاعة من ينظرون عبر زجاج نوافذ بيوتهم، ومن هم في السيارات أن يروا الناس يتساقطون موتى بسبب نوبات السعال وهم يتخبطون كالطيور الذبيحة”.

لقد تطايرت أرواح الناس، وتكاثرت بسبب الوباء، إنه حرب مأسوية، جعلت الناس يعيشون نهارهم ظلاما وهم في منازلهم، وليلهم فظاعة وهم على جمر الضرر والضرارة والذعر، أيامهم مريرة مسودة، لا طعم لها، أحزان وأتراح وكآبة شديدة، العالم مليء بصخب الضجر، ألوان السماء تتناسب مع حالة الناس، عبارات لا تحملك على الشعور بالأمل، الخوف يملأ جوف الناس، إنك تحس بالاسوداد يتماثل أمامك شبحا يريد أن يقضي عليك، والازرقاق ذعرا يلقي بك في غيابات الموت، ويشدنا الأسف والبكاء كثيرا على الأيام السوداء التي ندللها ونعيش معها، ونشرب مآسيها، راجين من القدر الإلهي أن يتدخل عن دفع البلاء.

كان الحل الوحيد للتخلص من المأساة وتناسيها، هو أن يتحرر الإنسان من الخوف والفزع، حتى يقوي من مناعته لمواجهة الأحداث اليومية المأسوية، الإحساس بالأمل والهدوء، وتحدي الطاعون، وعبرت الرواية عن هذا بقول الكاتب: “الهدوء هو الابتسامة الوحيدة في هذه المأساة”، أن تشعر بالهدوء سبيلك الوحيد لتحس بالابتسامة في ظل الوقائع الأليمة التي تتوارد كل ساعة وكل يوم، وأورد لفظة الابتسامة دون الضحك، لأنه ليس من المعقول أن يتضاحك الإنسان من أمر حسبه في الوهلة الأولى طرفة فانتقل إلى مأساة، إن الابتسامة تقودنا إلى باب التشبث بالأمل وتقوية خطوطه، إنها البسمة التي تزهر ولا تذبل، إنها غير متناهية، إحساسك بالبسمة بعد الهدوء يقربك من النجاة، ومعلوم في ديننا أن الابتسامة صدقة، يتعاظم أجرها إذا جعلت الآخر يحس بها.

هذه بعض محامل الرواية الدالة، التي تعبر عن حالة مأسوية تتعالق مع مستجدات الحياة المعيشية للبشرية، صور جسد فيها الأديب حياة مستقبلية تعايشها البشرية بطعم المأساة السوداء، إن رواية حرب الكلب الثانية فتحتنا على فكرة المتعة السردية بدل الرضة السردية، قربتنا أكثر من فكرة الحياة في سبيل الأدب، ونقول: إننا وجدنا في الرواية حياة ماتعة، قلّ ما تجدها في أعمال تشدك الحسرة على قراءتها، قال إبراهيم نصر الله: “لا شيء أكرهه في عالم الفن أكثر من تلك الصور التي لا حياة فيها”، ونسقطها على الأعمال السردية، فنقول: لا شيء أكرهه في عالم الرواية أكثر من تلك الروايات التي لا حياة فيها، وههنا نصل إلى ختام المقالة، بعد الإجابة عن سؤال تجليات مأساة البشرية السوداء في رواية حرب الكلب الثانية، المرتبطة أساسا بمستقبل الإنسانية والبشرية، الذي ينساق مع مآسي عصرنا اليوم.

(الطالب الباحث: جعفر لعزيز – المغرب – طالب باحث في صف الدكتوراه، جامعة محمد الخامس بالرباط)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق