وجوه في الزحام

حاجة ماريا

بقلم: د. محمد بدوي مصطفى

يُحدّث الطفل الفَتِيّ وقتذاك نفسه وترجع به ذكرى حالمة طالما أرّقته وجعلته من فرط حاله حزينا أسفا. يُساءل نفسه: لماذا يا تُرى تتراءى إليه إشعاعات تلك الأيّام حالمة، قدسيّة كما موحشة ولطالما تُوثُقُهُ بتفاصيلها المتباينة وثاقا. نعم، أيّام خوالي لسنوات مضت. أحداثُ أيّامٍ خلت، منها ما قضى نحبه، منها ما ينتظر وما بُدِّلَت تبديلا. فبعد أن طافت به سفن الدهر حول الدنيا قرابة الثلاثة عقود من العيار الثقيل، ظلّ يخاطبها ويرجع البصر وكأن الأعوام قد عادت لتقذف به متلاشية، رويدا رويدا إلى مسقط رأسه: ضفاف النيل. حملته إلى تلك اللالوبة الوارفة إمام المشتل، المشرئبة بثمارها المباركة إلى بنيان إذاعة أمدرمان المتراص ومن الجانب الآخر المتهادية صوب جنائن عم سعد المخضرّة بفومها وعدسها وبقلها. ولطالما داعبت أطياف هاتيك الذكرى أوتار قلبه وهو في وحدة ووحشة إلا من كتاب، بينما النيل الحالم يبتعدُ وينأى. حَسِب بجلسته تلك على ضفة نهر الراين أنَّهُ مصطفى سعيد، يخاطب محبوبته متفاخرا بالحديث، ثمّ قائلا: عندما كنت أخلد بغرفتي الصغيرة في قريتنا إلى الراحة، كنت أمدّ يديّ من خلال النافذة لأداعب أمواج النيل، فلا تلبث تُميسيحات صغيرة وفي بضع لحظات مهرولة نحوي، أتت بفرحٍ من كل فجّ عميق، رانية لِتعبثَ بيديّ، أداعبها، فتداعبني وترقد طوال الليل بجانب نافذتي. يعود الطفل إلى أمدرمان ويتذكر قعدته بالبيت ينتظر بلهفة مجيء من أحب وعشق: تتهادى من على البعد أطياف أغنية في الأفق، مدندنة، تشوب مقاطعها لكنة جميلة، هل يا ترى هي بعينها؟ صوت يتغنّى بلحن للمطرب أحمد المصطفى، يُدَندِن، يُدَوزِن يُلحِن ويُفَنِّن بحلاوته نَغمَ الأغنية:

البوربو يهني – البوربو يقني – الهيّا وليّا – وديي وهِنيّا – شغل بالي!

إنها يا أحبتي حاجة ماريا. امرأة سودانية فُلانيّة، حملتني كأمِّي وهناً على وهن، حتى فصالي في عامين، أنِ أشكر لها ولوالديّ، فطيلة فترة طفولتي وصباي لم تقلْ لي أفّ ولم تنهرني فاتخذت بذلك إلى قلبي سبيلا. حملتني مِن بعدُ على كتفيّها وعلى ظهرها وعلى بطنها سِنييّ عمري البَضّ، تارة تدق الفندك (الهاون) لتسحق بإيقاعية فايقة البهار والتوابل، تارة تعوس الكسرة وتارة أخرى تُحرك عجين الحلومر، فَينة مازحة مهرولة بين المطبخ وغرفتي، وفينة أخرى هايمة سابحة في حيواتها الكثيرة التي امتدت فقط في حيز دنياها المتواضع الممتد بين العباسية والملازمين. رحلة القارّة، يا لها من رحلة! لقد عبرت من خلالها القارّة السمراء، هي وأولادها، منهم بِكرَتُها مُجِّدة. رحلة لم يُكتَبْ لنظيراتها في صفحات التاريخ مثيل، قبيل أو خليل. تخيلوا إنها وأسرتها وربعِها قد شدّوا الرحال من مدينة كانو بنيجيريا قاصدين مكّة. عام بأكمله وهم يردحون على الأرجل في قيعان إفريقيا الواسعة، عابرين النيجر، مالي، تشاد حتى وطئت أقدامهم الموجوعة إقليم دارفور. سنة بأكملها وهم يُولدون ويحيون ويموتون على قارعة الطرق، يجوعون ويعطشون ويزحفون عندما تشدُّ بهم وطأة السير أو المرض على أربع، زحفا حتى بلغت بهم السبل نقطة الحدود السودانية ومنّ ثمّة واصلوا الجهد بالأرجل إلى أن ألقت الأسرة عصاها بعباسية أمدرمان وبنت بها بيتا وخيمة. سألتها ذات يوم: هل تذهبين إلى الطبيب؟ فأومأت إلى مجيبة: “بري مالي، بحياتي ما مشيت لي دكتور، ما في شي بيوجعني الحمد لله يا ولدي حمودي”. حاجة ماريا أيقونة تاريخيّة ومثال للعالم، لحن خالد وشمعة لن تنطفئ ما دمتُ على قيد الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق