ثقافة وفن

الصورة والاحتجاج بالمغرب

هكذا أصبحت الصورة جزءا من المظهر الاحتفالي للاحتجاج

نقاد وباحثون كبار في مجال الجماليات يحللون أبعاد توظيف الصور في الاحتجاجات

عبد العزيز كوكاس

«قد لا تكذب الصور، إنما الكاذبون يستطيعون أن يصوروا» لويس هين

يعتبر الاحتجاج السياسي أحد أشكال العمل السياسي الجماعي «الموجه نحو الاعتراض على سياسة أو العديد من السياسات، والتي تتميز ببراعة الظهور أو عرض ذي طبيعة غير تقليدية، كما يذهب إلى ذلك ليبسكيLipsky ، يتطلب الاحتجاج نية الانخراط في عمل سياسي أو اجتماعي للتعبير عن التغيير المنشود في السياسة أو الممارسة أو حتى التمثيل. اعتمادا على مستوى المشاركة، يمكن أن يتراوح السلوك الاحتجاجي من تقديم شكوى أو رفع عريضة إلى الإضرابات التخريبية.

منذ بداية التسعينيات أصبح الاحتجاج عُملة السياسة في المغرب وتحولت الساحات العامة في الحواضر كما في المداشر والقرى الهامشية إلى ساحة «أكورا» مليئة بالرموز والإشارات والأيقونات والخطابات واللغات الملفوظة وغير الملفوظة، وأصبح الشعار مثل نشرة إخبارية محملة بانفعالات جماعية، لا نجاعة للشعارات خارج الجماعة؛ فهي التي توحد أصوات الحشود المتضررة من قرار أو إهمال أو ظلم مس مصالحها ووحد أفرادها للصراخ، من أجل إبلاغ صوتها إلى من يهمه الأمر..

الصورة حاضرة هنا أيضا في الفضاء العام للاحتجاج، لقد أضحت جورنال الشارع العام، جزءا من المظهر الاحتفالي للاحتجاج، ليست الشعارات المكتوبة أو الشفوية والأعلام والرايات، وحدها من يؤثث فضاء الاحتجاج، إن الجيل الجديد من المحتجين يعبرون عن قضاياهم عبر الملصقات، المحمولات، العلامات، الكرافيتي، الصورة الفوتوغرافية ومن خلال الكاريكاتور، بل إن الجسد هنا أيضا أصبح أداة للتعبير، يُمسرح الاحتجاج، لبس أقنعة صباغة الجسد، تمثيل وضعيات، عاريات الصدور… تحرض، تعبر وأثرها بلا حدود، تترسخ في الذاكرة وتخضع لتعدد التأويلات المفتوحة.

إن الاحتجاج هنا آلية للممارسة السياسية الشعبية أكثر تأثيرا من النشاط الانتخابي ومن الانخراط الحزبي التقليدي الذي لم يعد يؤثر -كما في السابق- على صناعة القرار السياسي أو في تمثيلية حقيقية للمواطنين… فاحتلال المحتجين بشكل يومي في المغرب لمساحات واسعة من الفضاء العام وأمام أمكنة ذات رمزية سياسية: عمالة أو ولاية، برلمان، وزارة أو مؤسسة عمومية، هو الذي يسهم الآن في ترسيخ ثقافة المواطنة، وينزع عن الاحتجاجات الاجتماعية الطابع الغرائزي والدموي.. ومع الانتشار الواسع للأنترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي، زاد إبداع المغاربة في مجال توظيف الصور في الاحتجاجات بشكل ملفت للانتباه.. لا احتجاج في غياب الصور، لكن كيف يوظف المغاربة الصور في احتجاجاتهم؟ ما هي الدلالات التي تقوم بها الصورة كحامل لرسالة ولمشاعر وذات تأثير أقوى من الشعار المكتوب أو الشفوي؟

اشتغلت أبحاث عديدة، أمريكية خاصة، على الصورة في علاقتها بالاحتجاج من نواحي متباينة، وانصب اهتمامها على الإجابة على أسئلة من مثل: كيف تزيد الصور من المشاركة في سياق التعبئة للاحتجاج عبر الإنترنت؟ ولم تنجح الصور في الحركات الاحتجاجية الجديدة باعتبار أنها تولد أقوى ردود فعل عاطفية من النص المكتوب؟ وكيف تثير الصورة مشاعر الحماس والغضب والخوف للتأثير بشكل إيجابي على المشاركة في مجموعة واسعة ورفع مستوى الوعي لدى الجمهور أو مجموعات القضايا أو في إيصال رسائل المحتجين وبقاء أثرها حتى بعد انتهاء الاحتجاج؟

أصبح من المؤكد وعبر بحوث جادة اليوم أن للصورة تأثيرا كبيرا على العمليات الاجتماعية والسياسية نظرا لأن الدماغ البشري يدرك المعلومات المرئية واللفظية ويخزنها ويعالجها بآليات متميزة، فقد أكدت نظرية «بيفيو» Paivio›s Dual Coding 1989 التي تشير إلى أن الصور والنصوص تتم معالجتها من خلال طرق مميزة في القشرة المخية ويتم تخزينها بشكل مختلف، مع ترميز المعلومات المرئية مرتين وبالتالي فإن عملية تخزينها أكثر سهولة في الذاكرة. تتم معالجة المعلومات المرئية بشكل أسرع من المعلومات اللفظية. فبينما يستغرق الأمر حوالي 500 مللي ثانية أو نصف ثانية لترجمة الاستشعار (على سبيل المثال، السمع والشم) إلى إدراك واع (Libet 1991) ، يمكن للأفراد تحديد المحفزات البصرية المهمة من الناحية التطورية مثل الوجوه بعد 47 مللي ثانية فقط (تودوروف وآخرون 2005).

يرتبط الإدراك الحسي للمعلومات المرئية ومعالجتها العقلية الأخرى ارتباطا وثيقا. باستخدام تتبع العين، فالمعلومات المرئية لا تتم معالجتها بسرعة فحسب بل تستمر المعالجة المعرفية طالما استمرت فترة المراقبة. باتباع «افتراض العين والعقل» نفترض أنه كلما طال وقت المراقبة الذي يتم فيه توجيه الانتباه البصري إلى الصور، كان تأثيرها أكثر وضوحا على الإدراك.

حاجة الاحتجاج إلى الصورة دفع فنانين عديدين إلى استعمال الصورة كمنصة قوية للاحتجاج. ضد الاضطهاد والعنف والظلم وعدم المساواة. الصورة هنا أصبحت صوت من لا صوت لهم… يتحدى فن توظيف الصورة في الاحتجاج الحدود والتسلسلات الهرمية والقواعد التقليدية التي يفرضها من هم في السلطة. إنه عمل تحد. وهي مهمة للغاية لأنها يمكن أن تؤثر على تفكير عامة الناس، وعلى القادة والسياسيين. إذ غالبا ما تتحدث الصور بصوت أعلى من الكلمات.

نتذكر كيف أصبح دييغو ريفيرا أحد قادة الحركة الجدارية المكسيكية في عشرينيات القرن الماضي. حيث قام بإنشاء جداريات سياسية شعبية في جميع أنحاء المكسيك تضمنت هجمات على الطبقة الحاكمة والكنيسة والرأسمالية. على عكس ما اعتبره الطابع النخبوي للوحات في صالات العرض والمتاحف.

لكن ليست كل الصور حقيقية، فمن شر وسائل التواصل الاجتماعي أيضا، أن لا أحد أصبح يطالب بالحقيقة، ولم تنج الصورة من الكذب والتزييف بحذف السياقات والتحوير والفبركة والتضخيم وإسقاط وقائع قديمة على أحداث حية، وخطرها أقوى من المعلومات النصية الكاذبة، لذلك نجد الفاعلين وصناع القرار أصبحوا يهتمون بما ينشر ويخصصون خلايا لبحث وتحليل الصور المنشورة هنا وهناك خاصة في المسيرات الاحتجاجية، بل أصبح لصناع الرأي العام أيضا طرقهم في توظيف الصورة في الإخبار وفق ما تمليه عليها مصالحها.

في هذا الملف حاولت أن أستضيف هنا نقادا وباحثين جماليين مهتمين بالصورة، لدراسة أبعاد ودلالات توظيف الجيل الجديد للصور في الاحتجاجات بالمغرب.

المبدع والباحث في الجماليات موليم العروسي:

الاحتجاج يبدأ أولا بالثقافي والفني خصوصا

عندما تتضايق الناس من القيود

-أصبحت الصورة اليوم جزءا من الدعوة إلى الاحتجاج، في أي ظروف يمكن أن «تحرك» الصور الإخبارية للاحتجاج الناس وتؤثر على استعدادهم للمشاركة؟

ربما وجب الوقوف ولو لهنينهة عند مفهوم الصورة. فعندما نتحدث عن عصر الصورة وعن عصر البصري كما سماه ريجيس دوبري في كتابه «حياة وموت الصورة» فإننا بالتأكيد لا نتحدث عن الصورة الإخبارية فقط. ذلك أن مفهوم الصورة يتمطط اليوم ليشمل كل امتدادات الممارسة التشكيلية التقليدية وخصوصا في شقها المعاصر. من ذلك التنصيبات (installation) حتى ولو لم تكن هناك صورة، أو تبدأ في صيغة مواد صلبة لتتحول بعد ذلك إلى صورة؛ كما نتحدث عن الأداء الجسدي (performance) حتى ولو كان أقرب إلى المسرح منه إلى الصورة في شكلها التقليدي.

لذا بإمكاننا -خصوصا بالنسبة لهذا المنحى التعبيري الأخير- أن نذكر بما حدث في العالم العربي خلال العقدين الأخيرين والذي كان له وقع كبير على تصرفات الناس، بل وأدى في بعضه إلى ثورات أو ما سمي كذلك إبانه.. ويتعلق الأمر أولا ببرفورمانس منتظر الزيدي الصحافي العراقي الذي رمى رئيس أكبر دولة في العالم بحذائه قاصدا بذلك إهانته أمام كاميرات العالم. لم يكن منتظر يفكر في الفن أو في أية عملية فنية لكن ما قام به يعتبر فعلاً فنيا، ذلك أن الصحافي الشاب فكر في فعلته، وهيأ لها أسباب النجاح واغتنم فرصة فتح العالم أعينه على خطاب رئيس كان يريد أن ينتشي بالانتصار فنغّص عليه تلك اللحظة. جاءت الصورة بعد ذلك لتنشر الحدث على أوسع نطاق ولتحول العمل من محلي إلى عالمي.

الحالة الثانية وهي حال محمد البوعزيزي. اقتنع هذا الشاب أن ليس لديه شيء للاحتجاج به إلا جسده. فكر في العملية: اشترى البنزين وذهب إلى الساحة العمومية وأشعل النار لتأتي عليه. لم يفكر أنه سوف يقوم بثورة وإنما احتج على ظلم أصابه، تكفلت الصورة بالباقي ونشرته على أوسع نطاق ونشرته عبر العالم وسجلته للتاريخ.

يمكن أن أذكر أيضا كل الشابات اللواتي عبرن عن تضايقهن من التقاليد واللواتي عمدن إلى تعرية أجسادهن، سواء أكن من الغرب (فيمن) أم الشرق، المصرية والتونسية. بفضل الصورة ووصولها إلى أكبر عدد ممكن من المتلقين استطاعت هؤلاء الفتيات أن تطرحن مشكلة الجسد للنقاش العمومي.

-تعتبر الصور الإعلامية حاملة فعالة للمحتوى السياسي والاجتماعي الذي يمكن أن يحفز المواطنين على الاحتجاج، ما التغيرات التي عرفها توظيف الصورة بين الأمس واليوم في حشد الدعم للاحتجاج المدني بالمغرب؟

يتم استغلال الصورة بشكل رديئ جدا في المغرب ذلك أن المناضلين الذين يقررون الاحتجاجات أو يدعون إليها يعتقدون أن بإمكانهم أن يستعملوا الصور كما شاءوا أو كما اتفق لهم. لا يعرفون أن هناك مختصين في هذا الباب وأن بإمكانهم الثأثير على المتلقين. لذلك رأينا عددا قليلا من الصور تدفع إلى الاحتجاج وتؤثر لكننا لا نعرف من الذي وضعها في وسائل التواصل ومن سهر على وصولها إلى أكبر عدد ممكن من المتلقين. لا يمكنك أن تنشر صورة وتتركها تقوم بدورها لوحدها من اللازم أن يكون هناك دعم من طرف الصحافة والمؤثرين والمناضلين لكي تصل إلى مبتغاك.

رأينا في المغرب انتشار فيديو لرجم شاب مثلي في فاس لكننا لا نعرف من نشر الفيديو حتى ولو كنا نعرف ما هي المواقع الإلكترونية التي ساندته.. كنت قريبا جدا من حادثة أخرى تصلح لكي تذكر في هذا الباب إذ كان لها حظها من النقاش المجتمعي؛ يتعلق الأمر بصورة القُبلة التي نشرتها الفنانة البصرية كنزة بنجلون احتجاجا على حادثة الطائرة المصرية حيث حاول مجموعة من متشددي العدالة والتنمية منع فيلم «سبيدرمان» بسبب قبلة افتراضية على شاشة ضوئية. الصورة عبارة عن بيرفورمانس حيث تُقبل الفنانة زوجها وتدعو الناس إلى القيام بنفس الشيء احتجاجا على تزمت السياسيين الإسلاميين الذين كان يمكن أن يمثلوا خطرا على الحريات الفردية في المغرب. لكن نجاح الصورة هنا ارتبط بشخصية الفنانة وبكونها وضعتها في مواجهة أعتى الإسلاميين الذين كانوا منتشين بنجاح التجربة الإخوانية في العالم العربي سيما وأنهم كانوا عائدين إلى المغرب بعد تهنئتهم للرئيس مرسي بنجاحه في الانتخابات.

-الاحتجاج ليس فقط حركة اجتماعية أو سياسية تنشد التغيير أو الشكوى من ظلم أو رفض قرار مضر بجماعة ما… إنه طقوس معقدة، تعتبر الصورة ضمنها كأحد أبرز أدوات التعبير الرافض في الحركات الاحتجاجية، ما الدور الذي تحاول أن تقوم به الصورة إلى جانب الشعار أو رموز اللباس في لحظة الاحتجاج؟

أكيد أن الاحتجاج يبدأ أولا بالثقافي والفني خصوصا عندا تتضايق الناس من القيود سواء كانت اقتصادية أو قانونية أو اجتماعية. لذا فإن الصورة بما هي مكون ثقافي توجد في قلب الاحتجاج. وعندما نتحدث عن الثقافي فإننا نعني كل الممارسات اللامادية التي يعبر بها الإنسان عن وجوده أو عن حالاته التي يفرح فيها أو يقرح. ويتم الاعتماد في التعبير على عناصر مستلهمة من الواقع ومن الحياة اليومية وتحويلها لكي تصبح تعبيرا يمس الناس جميعا أو على الأقل إلى هذا يطمح.

خلال الاحتجاجات إذن، نجد الناس وكل حسب هواه يستعملون رموزا من الحياة اليومية. حدث أن رأيت في مظاهرات عشرين فبراير شابا وقد ربط قوقة إلى رأسه وهو يردد ‹›طلعتوا لينا القوق ف الراس››، وهذا تعبير شعبي رائج بين الشباب لكن الصورة تزيده حدة. أو آخر ربط صنبور ماء إلى خشبة وحمله مع شعار ‹›أهلكتنا فاتورة الماء››. أو شبابا آخرين كانوا يتظاهرون وهم يحملون مكانس (شطابة) مع شعار ‹›الما والشطابة حتا لقاع البحر››… هذه بعض الصور الخارجة عن التأطير الحزبي والإيديولوجي. هذا الأخير يبقى فقيرا ويعتمد كثيرا على ما ينتج خارج المغرب كاستعمال الألوان: الأسود، الأحمر والأخضر التي لها ارتباطات إيديولوجية بمنظمات معروفة، سواء تعلق الأمر بالألوان أو بالصور. صور الاحتجاج الرسمية أي تلك التي توافق عليها قيادات المحتجين فيها كثير من النمطية وقليل من الإبداع.

الصور المستعملة كما رأينا في الأمثلة الثلاث تطمح إلى أن تلخص في ومضة كل المعاناة التي خرج من أجله المواطن إلى الشارع، خصوصا عندما تكون الشعارات مكرورة ومملة ولم تتغير منذ أربعين سنة أو يزيد. يعود المواطن إلى بيته وقد علقت بذهنه صورة معبرة هي التي سوف يحاول فك رموزها مع جيرانه وأفراد عائلته ويتابع بذاك دوره التوعوي الذي لا يستطيع الخطاب القيام به.

التشكيلي والناقد الفني بنيونس عميروش

يتحدث عن الصورة كأداة للاحتجاج

نجح الشباب في تطويع الصورة وجعلها أهم سند موضوعي

وتعبيري في احتجاجاتهم

عملت التكنولوجيات الرقمية الجديدة على تكريس تحولات كبيرة في حقل الفنون البصرية بعامة، كما أضحت آلية فعالة في إنتاج الصورة المتناسلة بشكل مفرط عبر مختلف وسائل الاتصال ضمن فيض بصري يبعث على ضرورة المزيد من تفعيل الوعي بأدوات الإبصار، إذ أصبح إنسان اليوم مُرغَما على التعامل مع التحولات المتسارعة للصورة التي تحيط به من كل حدب وصوب، حيث اخترقت الأزقة والشوارع والأسواق والملاعب الرياضية وغيرها. فيما تظل تتناسل عبر الحواسيب وشبكات الأنترنيت والفضائيات والسينما والفيديو ومختلف وسائل الإعلام، كما تحضُر في الملصقات والمأطورات، وفي صناعة النجوم الخاصة بمجالات السينما والتلفزيون والسياسة والرياضة وسواها.

في حين، تبقى الصورة بالغة التأثير في بناء شخصية الأفراد والجماعات التي صارت متقاربة ومتفاعلة فيما بينها مهما اتسعت القارات والجغرافيات، في اتجاه تكثيف بؤر ضاغِطة وقمينة بفرض التَّغَيُّرات وقلب الموازين كما هو الأمر في وقائع وخلفيات ما نُعت بثورات «الربيع العربي» وامتداداته، ومنها الامتداد الذي طبع الأحداث المحلية التي تدعونا لمراجعة هذا المنعرج في ذات السياق، لمقاربة كيفيات وحيثيات استثمار «الصورة» من لدن الشباب، إذ شكلت لديهم أحد الركائز الأساسية التي قامت عليها احتجاجات ومطالب «حركة 20 فبراير» (1) حينها في المغرب (2011).

   تنحدر كلمة صورة Image من الكلمة اليونانية القديمة أيقونة Icone، والتي تشير إلى التشابه والمحاكاة، وترجمت إلى Imago في اللاتينية وImage في الإنجليزية، فيما ذكر ميتشل أن كلمة إيديولوجيا تمتد جذورها داخل مفهوم الصورة والتفكير بالصورة، وقد أتت من الفعل رأى To see في اللغة الإغريقية، وهو فعل كثيرا ما كان يتم ربطه بالفكرة العامة حول الصنم Eidolon أو الصورة المرئية Image visible باعتبارها فكرة جوهرية في البصريات ونظريات الإدراك، بينما يضيف شابيرو إلى أفكار ميتشل هنا قوله إن فكرة Idea ترتبط كذلك بكلمة Idolum اللاتينية، وتعني: صورة بلا مادة وهي مشتقة كذلك من الجذر اليوناني القديم Eidolon الذي يعني الشكل Form أو المظهر الخارجي Shape، وهكذا تكون الأفكار عبارة عن تشكيلات عقلية لمجموعة متفرقة نوعا من الصور التي تكون موجودة في عقل الفرد وعند مستوى نشاطه العقلي الأيقوني أو المتعلق بالتفكير بالصورة، وهكذا ترتبط الإيديولوجيا بشكل أو بآخر بالصور والتفكير من خلالها، كما يؤكد شابيرو دائما (2). أما في اللغة العربية، فإن كلمة صورة تعني هيئة الفعل أو الشيء وصفته، ومن معانيها في لسان العرب (مادة: صَوَرَ): وتصورت الشيء: توهمت صورته فتَصَوَّر لي، والتصاوير: التماثيل.

موازاة مع هذه الإضاءة، نَتَلَمَّس إلى أي حد استطاعت فئة الشباب من تطويع «الصورة»   وجعلها أهم سند موضوعي وتعبيري في حركاتهم الاحتجاجية، باعتبار هذه الفئة الأكثر حيوية وتفاعلا في أنشطة المنتديات والمدونات ونوادي الدردشة ومختلف أشكال التواصل التي تتخذ فيها الصورة مركز الصدارة عبر قنوات شبكة الأنترنيت. وقد أكدت الدراسة التي أنجزها أستاذ علم الاجتماع مختار الهراس حول «الشباب ووسائل الإعلام» وقتئذ في 2011، أن التلفزيون ما زال هو الجهاز الرئيس الذي يلجأ إليه الشباب المغربي بشكل يومي كوسيلة إعلامية، حيث 90 % منهم يشاهدون التلفزيون بوتيرة يومية. واتضح من خلال الدراسة أن الهاتف المحمول يبقى أكثر الوسائط التكنولوجية جلبا لاهتمامات الشباب المغربي، حيث يجمع هذا الجهاز الكثير من التطبيقات التي تدخل في صلب اهتمامهم، سواء تعلق الأمر بالموسيقى أو بالصورة أو بالكتابة، وهو ما يبرر الاستهلاك المفرط لهؤلاء الشباب تجاه الهاتف المحمول الذي يشكل بالنسبة لهم في الآن نفسه وسيلة إعلامية وترفيهية. وتوصلت الدراسة إلى أن من بين 900 مستجوب ينتمون لشرائح اجتماعية مختلفة ويسكن نصفهم بأحياء شعبية، 97 % يتوفرون على جهاز تلفزيون، و85 % يتوفرون على جهاز بارابول، و52 % منهم يمتلكون هاتفا محمولا، و37 % لديهم حاسوب، غير أن حواسيب 62 % من هؤلاء غير مرتبطة بشبكة الأنترنيت. كما كشفت الدراسة حقيقة أن 9,1 % يقرؤون الجرائد بشكل منتظم، مقابل 39 % لا يقرؤونها أحيانا، بينما 31 % قالوا إنهم لا يقرؤونها مطلقا و12 % نادرا ما يقرؤونها (3). بينما نسبة الشباب الذين لا يتوفرون على حواسيب، أو الذين يتوفرون عليها دون ربطها بشبكة الأنترنيت، جميعهم يمتلكون الرغبة في ولوج الشبكة العالمية كسائر أقرانهم عبر حواسيبهم الخاصة، لو توفرت لديهم الشروط المادية لذلك، إذ ينتمون لعائلات مُعْوِزة، لكن ذلك لا يمنعهم من التردد على نوادي السيـبير Cyber للاستفادة من شبكة الأنترنيت، خاصة حين يكونوا ملزمين بتحضير البحوث والوثائق ضمن أنشطتهم التعليمية، بإيعاز من أساتذتهم.

من ثمة، تمكنت «حركة 20 فبراير» الشبابية من فرض وجودها ضمن الحراك الاجتماعي ككل، من خلال اعتمادها الإمكانات الهائلة التي توفرها شبكة الأنترنيت في التنسيق والتواصل المرن. وإذا كان في إمكاننا تصور مكانة الصورة في التواصل والإبلاغ والإعلام والإعلان لدى هؤلاء الشباب، وتفحص ذلك بشكل فردي حين اطلاعنا على أنشطتهم، فإننا -لا محالة – ندرك بالملموس مدى وعيهم بتوظيف الصورة في المناداة بمطالبهم والتعبير عن رغباتهم ومطالبهم. فلهذه المسيرات الاحتجاجية الشبابية وجه آخر يجمع بين البُعدَيْن الفني والتجاري المتعلقين بطباعة اللّافتات والمُلصقات Affiches التي تحمل شعارات ومَسْبوكات Logos وعلامات Signes وصورا ملونة (الفوتوغرافيا الرقمية) وجملا وكلمات مطبوعة على القبعات والقمصان، حيث انتعشت فرص عمل استفاد منها الشباب المهتم بالصورة وتقنياتها، بما فيها فنون الغرافيك والتصميم الفني بعامة، وذلك ضمن اشتغال فردي أو لحساب بعض المطابع. وتغطي هذه الأعمال أياما قبل موعد المسيرات التي يتم خلالها الاتفاق على النقط الأساسية والقيام بإعداد دراسات وتقارير مسبقة تمس شكل اللافتات والمقاسات والشعارات والصور التي ينبغي أن تتسم بالتجديد وتواكب الأحداث والمستجدات، حيث ابتكار الشعارات وتنوعها يفرض على المنظمين وضع أشكال مختلفة ومتعددة للافتات المعالجة بالحاسوب والموسومة بحضور الجانب الإبداعي الملاحظ بشكل جلي، كما تؤكد جميلة أوتزنيت (4).لقد أدرك شباب 20 فبراير جيدا الوقع المؤثر للصورة، لذلك عملوا على تطوير رسائل الاحتجاج؛ فشعار «الرحيل» الذي رفع صد بعض المسؤولين السياسيين مثلا، انتقل من مجرد كتابة الاسم بخط اليد على ورقة بيضاء متوسطة الحجم إلى طبعه على لافتة كبيرة بخط واضح وبلونين مختلفين، حيث يتم إبراز  كلمة «ارحل» باللون الأحمر فيما يبرز اسم الشخص المقصود باللون الأسود مصحوبا بصورته، كما ورد في تحقيق جميلة أوتزنيت، مضيفة أن تجديد الشعارات وتنوعها فرض على المنظمين وضع أشكال مختلفة ومتعددة للافتات التي حضر فيها الجانب الإبداعي بقوة، وبذلك أصبحوا مطالبين بالإتيان بكل جديد، مع ما يتطلب ذلك من جهد ووقت ومال أكثر، وفي مقابل إعداد المأطورات Les panneaux التي يزيد ثمنها في حالة صناعتها بنوع البلاستيك المستخدم في الطباعة (أربعة دراهم للمتر المربع بمادة الورق)، تشير إلى ارتفاع الطلب على اللوحات الصغيرة أو ما يعرف بـ»البوستيرات»؛ مقاس A3، لكونها تختزل المال والوقت والجهد، إذ يتم طبع عدد منها على قطعة واحدة تبلغ مساحتها حوالي خمسة أمتار على متر واحد، يتم تقسيمها إلى «بوستيرات» بثمن 10 دراهم للقطعة الواحدة كمتوسط (5). في حين، يعمل هؤلاء المصممون على الاستعانة بـ»المتخصصين» من ذوي الدُّرْبَة والمِراس بالمطابع وكذا المشرفين على نوادي السيـبير والخطاطين، بينما نسجت «الحركة» شبكة علاقات ذات بال تمدها بالإمكانات المادية، ومنها المجلس الوطني لدعم حركة 20 فبراير الذي ظل يقدم لها الدعمَيْن المادي واللوجيستيكي، ويضم ما يزيد عن 100 هيئة ونقابة وجمعيات المجتمع المدني (6).

كل ذلك يؤكد مدى وعي الشباب بقوة الصورة وسلطتها، وقد أبانوا على إرادتهم في التطبيق السليم للقواعد والمبادئ الأساسية ذات الصلة بتلقي المرئيات عموما، من الخط واللون والمساحة إلى التركيب والتوازن والتوافق، مع اعتماد الرمز والإشارة والعلامة وتقنيات تكثيف الخطاب المرئي الذي جسد مفهوم الحركة (Mouvement) من داخل تكويناته الصورية في حد ذاتها، لتمسي الصورة في مظاهرها البصرية محفزا للتأمل والتفكير وتطوير ملكات النقد وتفعيلها، في الحين الذي يصير فيه التفكير بالصورة موازيا للتفكير البصري الذي يُعَرِّفُه أرْنْهايم، بوصفه محاولة لفهم العالم من خلال لغة الشكل والصورة، على اعتبار التفكير بالصورة يرتبط بالخيال، والخيال يرتبط بالإبداع، والإبداع يرتبط بالمستقبل، والمستقبل ضروري لنمو الأمم والجماعات والأفراد، على اعتبار المستقبل ضروري- يضيف أرنهايم – لخروجهم من أسر الواقع الإدراكي الضيق المحدود، إلى آفاق المستقبل الرحبة الأكثر حرية والأكثر إنسانية. ومن ثمة، فتحت «حركة 20 فبراير» أوراشا لتفعيل الصورة في إطار الصناعات الإبداعية، لتدفع بولادة دستور جديد (2011)، وتعمل بالموازاة على تشخيص الصورة «السياسية» وجعلها تتصدر الصحافة المكتوبة، فأضحى «بورتريه» Portrait السياسي سندا للتشريح والتعقب والمُساءلة، فيما لحقته أنماط الانمساخ مع تنامي الكاريكاتير والصورة المركبة الموصولة بالسخرية والمكاشفة، بينما توسع حقل الديمقراطية، ليتصالح الشعب مع الفضاء العمومي الذي طالما بات حكرا على السلطة وخطب السياسي وأتباعه، ما حقق الانفراج الذي نشأت على إثره حركة «نايْضَة» بداية في المجال الموسيقي، من خلال أنماط الـ»تيكتونيك» Tektonik والـ»هيب هوب» Hip Hop (ذي الصلة بالسود الأمريكيين خصوصا)، وهو الأسلوب الذي اعتمدته فئة من الشباب المغربي المَيّالة إلى لغة «الشارع» المباشرة للتعبير عن تردي الأوضاع الاجتماعية ورفض الواقع، بالدق على الطابوهات، سائرين في تشكيل تكتلاتهم عبر شبكة الأنترنيت بعيدا عن التنظيمات الحزبية، مؤكدين على الاختلاف البَيِّن في اللباس والتَّحَدُّث وتصفيف الشعر والرقص والعلاقات العاطفية وفضاءات التقاسم واللقاء، وسرعان ما جددت «الحركة» توجهها من جديد نحو الشارع والفضاءات الخارجية عبر أشكال الغرافيتي Graffiti المنفذة على الواجهات Façades والجدران الحضرية، ليتوسّع أفق الفن المعاصر الموصول بقدر من النقد الناعم لدى محترفيه المتناغمين مع أساليب ما بعد الحداثة. بعد أن اكتملت معالم حركة «نايضة»، تم تشبيهها آنئذ بموجة «لاموفيدا» La Movida بإسبانيا، باعتبارها الحركة الثقافية التي كانت وراء الانتقال الديمقراطي بعد وفاة فرانكو في 1975.

اليوم، بعد أن قطعنا شوطا آخر يقدر بعقد من الزمن، صرنا منبهرين بما ينجزه الشباب من لوحات فنية هائلة في ملاعب كرة القدم، حيث يتم تطبيق تمارينهم البالغة التنسيق والتنظيم، في الموعد المحدد، والفضاء المحدد الذي يستوعب الآلاف من الجماهير التي تمسي مشاركة ومتدخلة في تنفيذ «التيفو» Tifo الخاضع لقيادة (مايسترو) تعمل على ضبط توليفات وتراكيب القطع الملونة (الورق والبلاستيك) ورَقْصها الذي يغطي المدرجات (Tifo originale, voile, chorégraphie) لتوجيه الرسائل، بحيث صنفت تيفوهات نموذجية ضمن مراتب متقدمة في مواقع دولية متخصصة، ما يؤكد تطور ثقافة «الألتراس» لدى هؤلاء المشجعين ضمن عمليات مُبْتَكَرَة للتَّنْفيس المُبْدِع، الذي لا يقتصر على المرئيات القريبة من البوب آرت Pop’art والفن البصري Op’art لما تتضمنه من أشكال التوهم الحركي، بل يعتمد أيضا تأليف الأناشيد والأغاني التي تعكس دهاءً تواصليا نافذاً، بأداء جذاب للغاية، ولعل أغنية «في بلادي ظلموني» بتوقيع الألتراس المساند لفريق الرجاء الرياضي المغربي،  تمثل أوج مراتب التعبير عن معاناة تكتلات الشباب ومطالبهم بتحسين أوضاعهم ورغبتهم في تأمين حياة أفضل، وهي الأنشودة المؤثرة الذائعة الصيت التي تجاوزت النطاق المحلي، إذ نالت ملايين المشاهدات في العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعدد من القنوات الإعلامية العربية والدولية مثل قناة الجزيرة والعربية ووكالة الأناضول وروسيا اليوم.           

الهوامش

ضمت حركة شباب 20 فبراير نشطاء شباب طالبوا بإصلاحات في المغرب، وأعلن أعضاؤها عن إيمانهم بالتغيير وعن هدفهم في العيش بكرامة في مغرب حر وديمقراطي، فيما انضمت لها قوى سياسية وحقوقية، في معزل تام عن جل التنظيمات والأحزاب السياسية.

• Shaoiro.B, Reinventing Dramas and Acting, Inconicity, Performance, London : Greenwood press, P.47.

• نقلا عن شاكر عبد الحميد، عصر الصورة، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ع 311، 2005، ص 16.

• عماد عادل، «الهاتف المحمول والأنترنيت الأكثر استقطابا لاهتمام الشباب المغربي»، الاتحاد الاشتراكي، ع 9763، 21- 04- 2011.

• جميلة أوتزنيت، «الوجه التجاري لمسيرات التغيير»، المساء، 09 و10- 04- 2011.

• Ibid.

• Ibid.

الشاعر والناقد الجمالي عز الدين بوركة يُشَرّح «حقيقة» الصورة بين الفني والسياسي

تتمتع الصورة بخاصية الدهشة، فأن تستعين بالصورة يعني أنك تستعين بالسحر

أهمية الصورة، لا تكمن في حقيقة أنها إبداع، ولكن وقبل كل شيء، في حقيقة أنها أحد أكثر الوسائل فعالية في تشكيل أفكارنا والتأثير على سلوكنا، باتت غير منفصلة عن جل المجالات العلمية والصناعية والإنسانية. وقد عزز مكانتها هذه قوة حضورها في وسائل الإعلام، التي تعدّ الصورة أصلا لها، بما في ذلك السينما والتلفزيون والأشرطة المصورة، واليوم شبكات الانترنيت بكل ما تحتويه من المنصات الإخبارية والتواصل الاجتماعي وعرض المحتوى. مما يجعلها غير منفصلة عن المجتمع بكل فئاته ومكوناته، فالكل منبهر بـقدرتها على إعادة إنتاج الواقع الخارجي بالضبط – وهي القوة المتأصلة في تقنيتها- التي تضفي عليها طابعا وثائقيا وتجعلها تبدو على أنها الطريقة الأكثر إخلاصا وحيادية لإعادة إنتاج الحياة الاجتماعية. يعدّ التصوير الفوتوغرافي ذريعة للتعبير عن رغبات واحتياجات الطبقات المهيمنة بطريقتها الخاصة.

• سحر الرؤية:

يوسم عصرنا هذا بـ»عصر الصورة»، فأينما وليتَ وجهكَ فثَمّ صورة.. محاطون بكل أنواع الصور الإعلانية والفنية وغيرها… فهي تلعب الدور الدعائي والتحسيسي والجمالي وحتى البروباغندي، إذ يستغلها كلٌّ حسب رغباته وتوجهاته وميولاته وأفكاره. لقد غزت الصورة الفوتوغرافية خاصة، حياتنا اليومية، وباتت جزءا لا يتجزأ من عاداتنا وتأريخا لأدق تفاصيل عيشنا.. إنها تترأس كل أحداثنا الخاصة والعامة، المكشوفة والسرية. بل في زمن «المواقع الاجتماعية ومنصات العرض» لم يعد للحياة الحميمية أي وجود، فالصورة تعري عن «روتيننا اليومي». غير أننا لا يمكن أن نلغي عنها دورها الفعال في تحريك مشاعرنا أو تبليغ رسائلنا، أو توجيه الرأي العام لصالح قضايا إنسانية تكاد تُنسى في كواليس المسرح السياسي. وإن كانت الصورة دائما عرضة لاستراتيجيات التلاعب، سواء الآلي أو ما يرافقها من تزييف في مستوى الخطاب المصاحب. وهو ما لا يجعل تاريخ الصورة بكل أنواعها، وخاصة الفوتوغرافية، مجرد تاريخ لتقنية، إذ إنه لا ينفصل عن التاريخ الفني والاجتماعي والسياسي، حيث تلعب الصورة دورا جوهريا ورئيسا، سواء في تخليد منجزات وجعلها قابلة للعرض في أكثر من مكان وفي أي وقت، أو كونها أداة لنضال سياسي واجتماعي رهيب، ووسيلة لاقتناص اللحظات العابرة.

وهو ما يقودنا للتأكيد على أنه في حياتنا المعاصرة، تمتلك الصورة مكانة رئيسة، حيث قلما توجد أنشطة إنسانية لا يستعان فيها بالصور بشتى أنواعها الثابتة والمتحركة والرقمية.. بل إنها باتت غير منفصلة عن جل المجالات العلمية والصناعية والإنسانية. وقد عزز مكانتها هذه قوة حضورها في وسائل الإعلام، التي تعدّ الصورة أصلا لها، بما في ذلك السينما والتلفزيون والأشرطة المصورة، واليوم شبكات الانترنيت بكل ما تحتويه من المنصات الإخبارية والتواصل الاجتماعي وعرض المحتوى. مما يجعلها غير منفصلة عن المجتمع بكل فئاته ومكوناته، فالكل منبهر بـقدرتها على إعادة إنتاج الواقع الخارجي بالضبط – وهي القوة المتأصلة في تقنيتها- التي تضفي عليها طابعا وثائقيا وتجعلها تبدو على أنها الطريقة الأكثر إخلاصا وحيادية لإعادة إنتاج الحياة الاجتماعية. أيضا، وأكثر من أي وسيلة أخرى، يعدّ التصوير الفوتوغرافي ذريعة للتعبير عن رغبات واحتياجات الطبقات المهيمنة بطريقتها الخاصة. لأن التصوير الفوتوغرافي، على الرغم من ارتباطه الصارم بالطبيعة، إلا أنه لا يتمتع إلا بموضوعية مصطنعة. العدسة، أو ما يسمى بالعين المحايدة، تسمح بكل التشوهات الممكنة للواقع، لأن طبيعة الصورة تتحدد في كل مرة بزاوية نظر المصوّر ومتطلبات زبنائه. لذا فإن أهمية الصورة، لا تكمن في حقيقة أنها إبداع، ولكن وقبل كل شيء، في حقيقة أنها أحد أكثر الوسائل فعالية في تشكيل أفكارنا والتأثير على سلوكنا. يُضاف إلى ذلك قدرتها على جعلنا نتعاطف مع فئة أو جماعة دون أخرى، أو نهتم بحدث دون آخر.. دونما الإغفال عما يطالها من تحريف وتزييف يوجه الأحداث صوب ما ليست عليه، وكم استعانت بها القوى السياسية للتغطية على جرائم أو تشويه حقائق أو توجيه نظر العامة عكس الوقائع…!

تتمتع الصورة بخاصية الدهشة، إنها الوسيلة الناجحة في شد الانتباه، إنها بألف نص لا بألف كلمة. فليس الذي رأى مثل الذي قرأ! «تفرض الرؤية المسافة، وقرار الانفصال، والقدرة على عدم الاتصال، وتجنب الارتباك في الاتصال. ومع ذلك تعني الرؤية أن هذا الانفصال أصبح لقاءً». يتجلى اللقاء في قدرتها على ملامسة مشاعرنا وتحريك عواطفنا، كأنها وسيلة سحرية عن بعد، ولعل أول ما فكر فيه الإنسان البدائي وهو يضع رسوماته على جدران الكهوف وينقش الحجارة، هو «الطابع السحري» الذي قد تهبه له الصور للسيطرة على الطبيعة والمفترسات والفرائس! إنها بهذا المعنى تمنحه المماهاة معه، أن تمتلك روحه.. لهذا وُجدت الطوطميات. وأليس كلمتا صورة image وسحر magie مكونتين من الأحرف [اللاتينية] نفسها؟ فأن تستعين بالصورة يعني أنك تستعين بالسحر.

تلامسنا إذن الصورة عبر الانفصال، إنها اتصال بالانفصال، اتصال عماده السحر الذي يحوّل البعيد إلى قريب، واللامرئي للعين إلى مرئي منظور ومحسوس. لهذا يحدث كثيرا أن نتعاطف مع أحداث اجتماعية وسياسية عبر ما نراه من صور، أكثر من تعاطفنا معه ونحن وسط الحدث وقريبين منه. لهذا ما يستدعي النظر المسافة دائما، كما يقول موريس بلانشو؛ فالقرب عمي. أليست الأعمال الفنية تستوجب خطوة إلى الخلف لرؤيتها وتأويلها؟ أو كما يقول مارسيل دوشان فـ»المشاهدة هي التي تصنع العمل الفني». وأن ترى هو أن تنحت العالم، بتعبير جوزيف بويس.

كل ما هو سحري يستدعي الافتتان، الذي «يحرمنا من قوانا في تقديم معنى، والتخلي عن الطبيعة ‹الحساسة›، وعن العالم، والانسحاب إلى ما وراء العالم ويجذبنا إليه، لم يعد يكشف عن نفسه لنا ومع ذلك يكرس نفسه في حضور غريب لحاضر من الزمن والحضور في الفضاء». وهذا ما تستعين به الصورة للتأثير في وعينا لصالح ما تريدنا أن نؤمن به.. إن الافتتان بالشيء يجعلنا نربط معه علاقة عاطفية. بالتالي، يصير جزءا منا وجزءا من ذكرياتنا، يسكننا بمعنى من المعاني.. فكم تعاطفنا مع طرف دون آخر، فقط بفعل صورة واحدة لعبت لعبة الافتتان، ولو كانت كاذبة، إنها فتنة حاسة البصر!

• الصورة بوصفها موقفا:

ولأن الصورة بوصفها فعلا ثوريا، كانت – وما تزال- أداة من أدوات الإعلام الحربي منذ العقود الأولى من القرن الماضي- فقد حاولت الدول توظيفها في إعلامها الحربي بغاية ترويج الإيديولوجية التي تحرك هذه الحروب، أو توضيح تحركاتها الميدانية وتبرير غزواتها و»شرها» في أحايين كثيرة. بوصف «الصورة هي التعبير الصادق عما يقع داخل ميدان الحرب، والأداة ذات المصداقية التي يعتمدها القارئ لإدراك الأحداث!».

وكانت الصورة، اللوحة الصباغية في هذه الحالة، وسيلة لتخليد المعارك أو الكشف عن ويلاتها، أو الوقوف موقف المعارضة والاحتجاج ضد قضايا سياسية.. وقف فرانسيسكو غويا Goya (1746-1828) موقف احتجاج، تجاه قضايا متعددة في حاضره، عبر لوحاته الصباغية، معبرا عن ‹تراجيديا› عصره. في لوحة «نيران 3 ماي» أو «Tres de Mayo»، جسّد بشكل مباشر الأحداث الموصوفة بالإسبانية بـ»دوس دي مايو» Dos de Mayo، حيث على امتداد يوميْ 2 و3 مايو 1808، قام الجنود الفرنسيون -ردًا على ثورة 2 مايو- بإعدام المقاتلين الإسبان الذين تم أسرهم أثناء المعركة. رسم لوحتين تخليدا للمذبحة سنة 1914، واحتجاجا ضد الأحداث الدموية. إن موضوع اللوحة وطريقة عرضها والعاطفة التي تثيرها في المتلقي تجعل هذه اللوحة من أشهر التمثيلات للتنديد بالفظائع المرتبطة بالحرب. على الرغم من أنه مستوحى جزئيًا من الأعمال الفنية التي سبقته، إلا أن Tres de Mayo يمثل قطيعة مع تقاليد ذلك الوقت. إذ تختلف هذه اللوحة عن الصور التقليدية للحرب المصوَّرة في الفن الغربي وتُعرف بأنها واحدة من أولى اللوحات الفنية في العصر الحديث التي انتهجت موقف الاحتجاج ضد الحرب، بل شكلت ثورة في الأسلوب الموضوع والغاية.

ابتدع غويا «الموقف السياسي» للفنان التشكيلي، إذ لم تعد اللوحات تمثيلا للحرب بعَدّها فعلا بطوليا، بل بوصفها حدثا فظيعا وشنيعا. إذ ينتمي عمل «نيران 3 ماي» إلى سلسلة من الأعمال الموسومة بـ»ويلات الحرب»، والتي رسمها ما بين 1808 و1815. سوف يتأثر ديلاكروا بأسلوب غويا ليتجسد في لوحة «الحرية تقود الشعب» (1830)، وقد تم تناول موضوع لوحة الفنان الإسباني وتكوينها لأول مرة من قبل إدوارد ماني في منجزه الشهير «إعدام ماكسيمليان»، الإمبراطور المكسيكي في عهد نابليون الثالث، وهو العمل الفني الذي اشتغل عليه في عدة نسخ بين عامي 1867 و1869. وقف ماني موقف المعارضة والاحتجاج ضد إعدام القائد المكسيكي.

مهّد غويا لعصر فني جديد، سواء عبر أسلوبه الثوري، أو عبر الثورة ضد الصورة النمطية للحرب في الأعمال الفنية.. في القرن العشرين، قرن الحروب العالمية، قرن الدمار بامتياز، تأثر بيكاسو بالحرب وفواجعها، فوقف موقف المثقف المحتج عبر لوحته الشهيرة «غيرنيكا» (1937)، التي تجسد قصف المدينة الإسبانية التي تحمل اللوحة اسمها. بالتالي، بات للفنان موقف سياسي واضح، وإن انتمى بعض الفنانين إلى هيئات حزبية وسياسية جعلت أعمالهم في خدمة التوجه الإيديولوجي الذي ينتمون إليه، أكثر من تعبيرهم عن المواقف الإنسانية، كما هو الحال مع الذين انتموا إلى الاتحاد السوفيتي..

مع الفن المعاصر، صار هذا الفنان أكثر التزاما بالقضايا السياسية بشكل أكبر من الماضي، لأنه لم يعد مجبرا على نقل الطبيعة وتصويرها، بل إنه يعتمد على التصويرية الحكائية أو التشخيصية أو الفوتوغرافية وغيرها والأساليب شبه التجريدية والواقعية القصوى وغيرها، بغاية طرح قضاياه اليومية من خلال طرح تشكيلي فني، فهو لا يبتغي المباشرة قدر الدهشة. لهذا نجد فنانين غربيين معاصرين جعلوا من القضايا السياسية أرضا يستندون عليها في أطروحاتهم التشكيلية. نستحضر هنا مينجون يو Yue Minjun الفنان الصيني (1962- فنان معاصر) الذي يعتمد في أعماله على قضايا سياسية في الغالب، عبر أسلوب التهكم والسخرية عبر رسومات شبه تجريدية وتشخيصية. وفنان الشارع بانكسي Banksy (اسم مستعار) الذي اشتغل حول مواضيع سياسية أهمها حرب نيبالم وقنابل أمريكا الحارقة، بالإضافة إلى قضايا اجتماعية متعلقة بالجنس (مثل الخيانة الزوجية). ولويس غوميز Luis Gomez الذي يتهكم على السياسات الأمريكية عبر منتجاته الفنية التي تجمع بين الماركات الاستهلاكية والرموز الدينية والسياسية. وباتريك ماكغرات الذي يعالج أعماله بفنية عالية تجمع بين الأيقونوغرافيا Iconographique في بعدها الميثولوجي والتعابير الاستهلاكية المعاصرة عبر الماركات العالمية التي تستحوذ على السياسات العالمية. وأشهرهم إسحاق كوردال Isaac Cordal الذي تناولت أعماله مجموعة من القضايا السياسية المتعلقة بالاقتصاد أو العدالة أو السياسيين أنفسهم بشكل فيه من التهكم ما فيه والترميز والفنية، عبر منحوتات سواء بارزة أو نحت ناتئ relief أو نحت مجسم ronde bosse، إذ سيعمد إلى إنشاء إحدى أهم أعماله المتعلقة بشأن الانتخابات والساسة، المعروضة في برلين سنة 2011.

وإن كان الفنان غير المنوط به أن يكون ذراعا إعلاميا وبوقا لتيارات سياسية توجهه وتستغله حسب أيديولوجيتها… إلا أن تاريخ الفن هو تاريخ سياسي ضمني، فأعمال رامبرانت Rembrandt، الذي يعد من أهم الفنانين في التاريخ، كانت تحمل أطروحات سياسية ضمنية، فقد اهتم بالسياسة الهولندية التي صارت جزءا لا يتجزأ من أعماله. بينما جاء الـ»بوب آرت» Pop’art كنوع من الاحتجاج الفني على مجموعة من الممارسات الاستهلاكية، خاصة في أوروبا. هذه الممارسات الاستهلاكية التي ترتبط بالضرورة وبشكل كبير بجل القضايا السياسية الراهنة. أما فن الشارع Street art أو الجداريات (غرافيتي) التي يبدعها فنانو الشارع، فقد اهتمت بشكل كبير بالقضايا الدينية والسياسية بالضرورة كموضوعين هامين يعمد الفنان لطرحهما عبر رسوماته التي تكون في الغالب مفرطة في الحجم وتهكمية. لهذا ظل فنانو الشارع مطاردين من قبل الشرطة في كل البلدان التي ظهروا فيها..

في هذا يمضي نقَّاد ما بعد الحداثة قُدما طارحين مزاعم سياسية حول طبيعة «التابع». من بينها أن خطابات السلطة المتنازعة، التي تنتشر عبر الأفراد وفي ما بينهم، هي في الواقع ما يشكل الذات. ومن ثم من المستحيل على التابع أن «ينأى بنفسه» عن الظروف الاجتماعية الراهنة وأن يحكم عليها من وجهة نظر مستقلة وعقلانية، كما يزعم الفلاسفة الأخلاقيون المنتمون للاتجاه الكانطي الأنجلو أمريكي أمثال جون راولز وتوماس ناجل. على سبيل المثال، يُنظر إلى أفكار الفرد الذكر وتعبيراته على أنها جزء من نمط خطابات أبوية فاسدة – تتنازع فيما بينها على أي حال- وهو مجرد ظاهرة ثانوية لها. وهذا يستبعد نظرة الذات الكانطية الموحدة لصالح التحديث ما بعد الحداثي للنموذج الفرويدي الذي يرى أن الأفراد ضحايا لصراع داخلي بين الأنظمة. تصف شيلا بن حبيب – الأستاذة بقسم الإدارة الحكومية في جامعة هارفارد- هذه الرؤية (مستخدمةً كعادتها أسلوبا يمزج بين أسلوبَي دريدا وفوكو عند التحدث عن اللغة):

«حلَّت محل الفرد منظومة من البنى، والتناقضات، والاختلافات التي -كي تصبح مفهومة- لا يلزم اعتبارها نتاج ذاتية حية على الإطلاق. أنا وأنت لسنا سوى «مواقع» لخطابات السلطة المتنازعة تلك، و»الذات» ليست سوى موضع آخر في اللغة». (تحديد موضع الذات، 1992(.

ففن الشارع عموما هو ذلك الفن الذي يرتبط بالشارع بوصفه معرضا مجانيا للإبداع والعرض، إذ يعتبر فضاء بصريا ليعبر الفنان عبره عن رؤيته للواقع وللحياة الاجتماعية والسياسية… فهو مصطلح يُطلق تحديداً على أشكال الفنون البصرية التي تم إنشاؤها في الأماكن العامة، كفَن الملصقات والنحت والكرافيتي (الجداريات)… وكذلك الأعمال الفنية دون حسيب أو رقيب خارج سياق أماكن الفن التقليدي وقد اكتسب المصطلح شعبية خلال فترة ازدهار فن الكتابة على الجدران في ثمانينيات القرن العشرين. ويتعلق هذا الفن بقابليته المنفلتة والزائلة والعابرة ما يجعله فنا معاصرا.

ساهم فن الشارع بشكل كبير، في التعبير عن هموم الشارع العربي وخاصة في فترة ثورات الياسمين أو ما سمي بالربيع العربي، وقد اشتهر في هذا السياق الفنان المصري Keizer (اسم مستعار)، الذي يعد من أوائل الفنانين الذين نشروا هذا الشكل من التعبير مع صعود الثورة، كما تعتبر أعماله ذات طابع هزلي تجاه العسكر… ويعمد فنانو الشارع غالبا إلى اخفاء وجوههم وأسمائهم، أو الاعتماد على الأسماء المستعارة والترميز… فالشارع مِلكٌ للعموم. ولأنهم دائما مطاردون من قبل رجال الأمن لا يظهرون إلا بأسماء متخفية… إلا أن هذا لا يمنع وجود فنانين طبعوا أسماءهم على الجدران وعلى شاشات الإعلام (آل سيد /مصر، ضياء رامبو /السعودية، سامي الديك /فلسطين، ليلى عجاوي /الأردن، يزن حلواني /لبنان، الأخوان عمر ومحمد قباني (أشكمان) /لبنان، يوسف الزاوي /المغرب…). فقد ساهم هذا الفن إلى حد كبير في العالم العربي في تقريب الفنون البصرية إلى المواطن العادي، وجعله يحتك بها ويتفاعل معها، لأنها بالضرورة، تخاطب مشاعره وهمومه اليومية والراهنة.

في المغرب ستظهر موجة كبيرة نوعا ما من فناني الشارع والغرافيتي، إلا أنها موجة ظلت دائما في الجانب المظلم من الليل، إذ لم يتح لها الظهور أبدا لما عانته من ويلات المطاردة البوليسية. وإن نجد مجموعة من الأعمال الغرافيتية مرخص لها، في بعض الأزقة، إلا إنها تظل أعمالا ساذجة وتنحى إلى ما هو بيئي وعام لا يرتبط بما هو اجتماعي وسياسي.

في مجموعة من الشوارع الرئيسية بالمغرب ستظهر موجات من التعابير المكتوبة بالخط، في دلالات لها علاقة بالمد الحراكي الذي شهده المغرب في فترة الربيع العربي، ما سيؤزم العلاقة بين الفنان الغرافيكي والسلطة السياسية.

هذا ما سنشهده مؤخرا، وذلك عندما عمدت الشرطة بالدار البيضاء إلى اعتقال يوسف الزاوي وأحد أصدقائه، والتحقيق معهما لساعات طوال وعجاف قبل إطلاق صراحيهما. بعدما عمد الفنان إلى محاولة للتعبير عن رؤيته الاجتماعية والسياسية. وذلك عبر إلصاق ملصق مركب من أجزاء عدة (قُرب المحطة الطرقية بالدار البيضاء، 14 نونبر 2017)، يُجسد جسد شاب عارٍ، وُضع بدل رأسه شاشة تلفاز وبدل القلب وضع أيقونة الدولار، (بعدّ القلب مركز التفكير في العقلية العربية)، وبدل جهازه التناسلي وضعت أيقونة قلب. في دلالة عميقة تحيل إلى كون الشاب العربي بات محكوما بالإعلام (الخاضع لسيطرة الدولة) الذي يتحكم بعقله وتفكيره ويوجهه نحو ما يريد ويبتغي في تبليد وتبليه وإفراغ العقل من كل إمكانية الوعي والإدراك. بالإضافة إلى التعبير عن الكبت الذي يعاني منه الشاب العربي اليوم، كبت قد يبلغ إلى المستوى السياسي، بالإضافة إلى إبدال التأزم المادي الذي أضحى همّ وتفكير الشاب العربي…

فالفن والسياسة لا تربطهما علاقة تنافر بالمعنى القطعي، فالفن كان حبيس السياسي في فترات من الزمن، إلا أنه كان دائما منفلتا ومتحررا خاصة مع ما شهده من ثورة في الفن المعاصر، هذا الفن الذي سعى الفنانون المنتمون إليه للتعبير بالضرورة عن اليومي والاجتماعي والسياسي، وذلك بوصف الفنان ملتزما تجاه مجتمعه والإنسانية وذاته الهشة كمنطلق وغاية فنية، إلى جانب الانتصار لما هو إنساني.

• بين الصدق والكذب:

لقد استحوذت، إذن، الصورة على عالمنا، ولم نعد نفكر إلا من خلالها وبها وعبرها، إذ إنها تحيط بنا من كل الجهات بشكل كامل.. مما يجعلنا غير قادرين على التمييز بين الصورة الحقيقية والصورة الخديعة. بل هل نستطيع فعليا وصف الصورة بـ»حقيقية»(؟) إن أدركنا أنها مجرد نسخة للحظة معينة مسروقة من الزمن، داخل إطار محدد يجعلها مقطوعة السياق ومبتورة الزمن، ما يجعلها رهينة التأويل فقط..! فالإطار هو بمعنى من المعاني «وجهة نظر» صاحب الصورة، ملتقطها وقناصها. حيث أن «الإطار هو المجال الذي يحتوي الصورة ويوحي بأبعادها ودلالتها».

أدرك الفنان التشكيلي السريالي البلجيكي رونيه ماغريت Magritte هذا الالتباس بين النظر والتسمية والإيمان بما ننظر إليه. حيث أنه في لوحته الشهيرة «خيانة الصور»، «La Trahison des images» 1929، يضع هذا الفنان المتلقي أمام إشكالية فلسفية معقدة تتعلق بالشيء واسمه وإدراكه. إذ يقدم مارغريت صورة مرسومة ثنائية الأبعاد للغليون (بلا دخان) رفقة نص كاليغرافي صغير بأحرف بارزة في أسفل اللوحة «هذا ليس غليونا». في تناقض بين الصورة والنص المصاحب لها، هذا التناقض الذي سيوضحه مارغريت في إحدى حواراته الصحفية، إذ يتساءل صحافيون عن شرح للعمل، ويجيب ماغريت بدوره عبر مساءلتهم: «هل جربتم تدخين هذا الغليون؟». هذا السؤال «المستفز» سيجبر الصحافيين على الإجابة بالنفي، فـ»هو مجرد تمثيل لغليون»… وهذا في نظر ماغريت ما لا يجعله «غليونا حقيقيا». بل مجرد صورة لشيء «يُسمى» غليونا.

حاول ماغريت في لوحته هذه، إلى جانب سلسلة لوحاته التي رسمها ما بين سنتي 1928 و1966، أن يناقش العلاقة الرابطة بين الشيء ودلالته وتمثيله. الشيء الذي سيتطور على يد فنانين غربيين أمثال جوزيف كوزيت J. Kosuth، المنتمي إلى جماعة «فن ولغة» art et langue، وخاصة عمله المفاهيمي «كرسي وثلاث كراسي»، 1965، إذ سيعرض كوزيت كرسيا حقيقيا إلى جانب صورته الفوتوغرافية وملصقا على جدار للتعريف اللغوي لكلمة كرسي كما يوردها القاموس. وبهذه الطريقة يوضح الفنان مختلف التمظهرات في تمثيل الشيء، فالشيء ليس ما نراه فقط، فهو يتجاوز ذلك، بل إنه يتجاوز تعريفه واسمه وصورته (التي تحضر كخيانة له) وحتى ماديته. فالصورة وحدها لا تكفي، «إنها تخدعنا». ما يجعل الحكم على «حقيقة» الشيء المرئي أمرا مثيرا للاضطراب.

مؤخرا ظهرت بعض التحقيقات التي تؤكد أن الإعلام البريطاني قد استعان بمصورين احترافيين، إبان الحرب العالمية الثانية، أمثال آرثر كونان دويل، اتش جي ويلز، وروديارد كيبلينغ… لنشر نصوص تنسب جرائم وهمية للعدو الألماني «. والشيء بالشيء يذكر فقد عمد النظام النازي الألماني عبر الصورة المتحركة، السينما، إلى صناعة أفلام سينمائية تُعرض للعموم الألماني، في قاعات العرض، لتبرير اعتقاله الهمجي ليهود ألمانيا، ووضعهم في سجون مغلقة، إذ عمد إلى تزييف أفلام يُظهر فيها أن اليهود يعيشون في مستوطنات خاصة برفاهية عالية.. وذلك كان غاية في إنجاح دعايته الإعلامية الكبيرة والمُضَلِّلَة.

ولقد كان من الأنشطة الأولى التي قامت بها ثورة 1917 في روسيا أن قامت الحكومة الجديدة بتحويل الكنائس إلى قاعات لعرض الأفلام الدعائية للثورة دون مراعاة لمشاعر الناس الدينية أو الإنسانية. كذلك كان من الأهداف الرئيسة لحلف الناتو خلال الحرب في كوسوفو العام 1999 قصف مبنى التليفزيون في بلغراد وتدميره، بسبب ما كان يبثه من صور دعائية مضادة. وفي كل الثورات وعمليات التمرد يفهم قادة التمرد والثورة أن السيطرة على الصورة هي الخطوة الأولى للسيطرة على الدولة.

فالصورة إذن لم تكن قط بريئة من الزيف والكذب منذ ظهورها، فقد «رأينا منذ جون هيرتفيلد التنميق البروباغاندي (الدعائي)، والتركيب- الفوتوغرافي (فوتومونتاج) وأمناء الأرشيف في القرن 20». جسد جورج أورويل ذلك عبر سرد تخيلي باهر، في عالم من إمبراطوريات ثلاثة، حيث يتم التلاعب باستمرار بالأرشيف وتزويره، النص المكتوب والمصور، لصالح ما تريد الدولة أن تجعله التاريخ وما الذي تريده أن يكون هو الماضي.. فيغيب الفارق بين الصدق والكذب، بين الحقيقة والخداع. ومن ثم فإن الصورة (الثابتة أو المتحركة) تعتمد على أسلوب السرد، الذي بدوره يعتمد على الخيال fiction بوصفه نوعا من الكتابة التوليدية، أو ما يمكن أن نصطلح عليه مجازفين بـ»كذب أدبي الصادق». وألا يكفي التأكيد أن الصورة لا معنى لها دونما تأويل، والتأويل يحمل الوجهين، «الصواب/ الخطأ» و»الصدق/ الكذب»، وكل تأويل هو تأويل ممكن.

قد تكون أشهر صورة استعملت بروباغنديا سياسيا وخدمة للدعاية الحربية في المشرق، هي صورة الفتاة نيرة (ابنة السفير الكويتي) وهي تلقي كلمتها /شهادتها -باللغة الانجليزية السليمة- أمام جمع لجنة حقوق الانسان في مجلس الكونغرس الأمريكي، أيام الغزو العراقي للكويت، زمن حكم صدام حسين. هذه الشهادة التي تم نقلها تلفزيونيا على نطاق عالمي، كانت وسيلة استغاثة للتدخل الأمريكي في عهد رئاسة جورج بوش الأب، دعما للكويت في هذه الحرب. فقد زعمت في شهادتها بكون «القوات العراقية التابعة لصدام حسين، تقوم بمجازر تمثلت في انتزاع الجنود العراقيين لأطفال كويتيين رضع من الحضانات ورميهم على الأرض، ليلقوا حتفهم». إلا أنه سيتبين فيما بعد كون أن نيرة تحمل اسم شهرتها الصباح، وأن اسمها الكامل هو (نيرة سعود الناصر الصباح) ابنة السفير الكويتي بالولايات المتحدة «سعود الناصر الصباح» آنذاك. فقد كانت شهادتها عبارة عن أداة لتبرير الغزو الأمريكي الأول للعراق، وكون ما ذكرته كان مجرد سيناريو كُتب لها لتقوله أمام الكونغرس. فقد كانت هذه الصورة ذات فعالية في قلب الموازين وتحريك العالم وقيام الحرب.

ومن جهة أخرى، قد تكون للصورة فعالية مغايرة ومضادة للدعاية لقيام الحرب، بالعمل على إخمادها وإنهائها. إذ من بين أشهر الصور صورة من حرب الفيتنام للفتاة «كيم فوج» التي تبدو وهي تركض عارية، وتصرخ من أثر الاحتراق الناتج عن قنابل الـ»نابالم». التقط المصوّر «نيك أوت» هذه الصورة الشهيرة أثناء تصويره «فيلمه الوثائقي الواقعي» عن سقوط قنابل «نابالم» على الفيتنام. كانت الفتاة تصرخ عارية من شدة الحريق، باحثة عمّن يخمد ألمها بالماء. لعبت هذه الصورة، بعد انتشارها على نطاق واسع، دورا كبيرا في تأجيج المشاعر العالمية وتحريك مظاهرات واسعة وحاشدة في الولايات المتحدة لإنهاء حرب «الفيتنام»، بل كانت أداة حاسمة في إنهاء هذه الحرب.

إن حرب الخليج كانت حروبا بصرية، كما قال ريجيس دوبري، ومن ثم، حربا لامرئية، ومن دون آثار لدى المقيمين في الغرب خاصة، وكانت حرب فيتنام حربا بالصور لأننا كنا نرى فيتناميين وأمريكيين بأرجلهم ووجوههم وظهورهم وليس لهم طابع التمثيلية والتفويض والإنابة، في وضعية حرب وبثيابهم، تم عرضها من خلال شاشات التلفزيون والانترنيت.

إلى جانب كون الصورة أداة «للكذب» عن قصد أو غير قصد، لما تحمله من إضمار أكثر من إظهار، ومن إخفاء أكثر من كشف… فإنها في أحايين كثيرة يكون لها دور فعال في إظهار «جزء من الحقيقة»… فالصورة، على امتداد العصور، كانت أداة لتخليد ما يراه الإنسان وما يعيشه، ومع بزوغ العالم الرقمي، لم تعد فقط أداة، بل جزء لا يتجزأ من يومه وتفكيره وحياته، بل باتت أكثر حضورا، إذ إننا لا يمكن الحديث عن الإنسان المعاصر دون الحديث عن الصورة (الرقمية خاصة) بعدها عاملا فعالا في تطوره وتقدمه… فهل هذا يعني أن الإنسان سائر إلى عالم وحياة أكثر زيفا؟ فنحن على علم في حاضرنا، وهو ما يريحنا، أن الصور كلها تعد كذبا (وستصير أكثر كذبا مع الرقمنة).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق