ثقافة وفن

عرض وقراءة في نقد البروفيسور فدوى عبد الرحمن علي طه لكتاب (محمود محمد طه والمثقفون)

وتعقيب مؤلف الكتاب الدكتور عبد الله الفكي البشير عليه (16-18)

بقلم بدر موسى

بعد عرضنا لتعقيب لدكتور عبدالله الفكي البشير على نقد البروفيسور فدوى عبدالرحمن علي طه، الذي أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه كان تعقيباً رصيناً ويضج بكم هائل من المعلومات، كثير منها كان جديداً حتى على المتخصصين في مجالات التاريخ والعلوم السياسية، فضلاً عن كونه عامراً بالفكر، وحافلاً بتقديم الفهم الجديد للمغاير في مسار السودان السياسي والفكري، إلى جانب أنه اشتمل على الدعوة لدراسة «ما بعد التاريخ المعلن»، ممن تجاوزتهم صحائف المؤرخين، وممن قاطعتهم الأكاديميا السودانية، وممن هم خارج السجلات الوطنية. كشف التعقيب عن نشاط ضخم ونوعي للحزب الجمهوري اتسم بالاستمرارية والحرص على التوثيق. كذلك استطاع هذا التعقيب بما قدمه من معلومات جديدة مع التزامه بالمنهج التوثيقي الصارم أن يساهم في إخراج الحزب الجمهوري من التنميط الذي وضعه فيه المؤرخ والأكاديمي، خاصة أساتذة تاريخ السودان الحديث والمعاصر، بأن الحزب الجمهوري كان حزباً صغيراً ولم يكن له نشاط يذكر. ومن ثم توارثت الأجيال هذا التنميط، دون فحص وتنقيب، وللأسف وقعت في هذا العوار الأكاديمي والعيب العلمي والأخطاء التاريخية الكثير من رسائل الدكتوراه والماجستير. لقد كانت الرسائل الأربع التي تناولها تعقيب الدكتور عبد الله، والتي أشرفت عليها البروفيسور فدوى. وجاءت هذه الرسائل الأربع كنماذج من بين 32 نموذجاً من أطروحات الدكتوراه والماجستير بجامعة الخرطوم التي تناولها الدكتور عبد الله في كتابه. السؤال الذي يطرح نفسه هو هل استفادت فدوى من هذا التعقيب المفصل الذي كتبه عبدالله، وانتبهت للقصور في نقدها بغير حق لكتابه، وقد تجاهلت الكثير من التاريخ الموثق الذي رصده عبدالله؟

الإجابة، للأسف الشديد والكبير، لا، لم تستفد فدوى، وإليكم الأدلة:

بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على نشر تعقيب عبدالله على نقد فدوى لكتابه، قام برنامج (الوراق)، في يوم الاثنين 15 أكتوبر 2018، الذي يقدمه الإعلامي البارز والنشط غسان علي عثمان بقناة سودانية 24، في حلقتين استضاف خلالها فدوى، والتي استهلت اللقاء مجيبة على سؤال لمقدم البرنامج، بأن حبها لتاريخ السودان الحديث هو الذي شدها للتخصص في دراسته، وجذبها بصورة خاصة نحو دراسة فترة الحكم الثنائي، والفترة التي تلتها مباشرة، وأهم أحداث تلك الفترة، بطبيعة الحال، كان خروج المستعمر وإعلان استقلال السودان من داخل البرلمان. قفز لذهني سؤال لمجرد سماعي لقولها هذا: هل يعقل أن يدرس متخصص في تاريخ السودان، عند الحديث عن أحداث تلك الفترة بالذات، ولا يلتفت لدور ونشاط الأستاذ محمود والحزب الجمهوري في مقاومة المستعمر بكل تلك الصلابة والحماسة، التي رصدتها وسجلت وقائعها وتفاصيلها معظم الصحف المحلية المقروءة؟ هل حقيقةً غاب عنها مثلًا أن الأستاذ محمود كان هو أول سجين سياسي في الحركة الوطنية بعد حركة اللواء الأبيض؟ أم لا بد أنها تعلم، ولكنها لأمر ما قررت أن تتجاهل ذكر الأستاذ محمود والحزب الجمهوري، فانطبق عليها تقريرها في نفس ذلك اللقاء التلفزيوني عندما سئلت عن احتمال أن يقوم المؤرخ بالسكوت عمدًا، وعدم ذكر بعض الحقائق: وأجابت، بما معناه، أن المؤرخ يحب أن يكون صادقًا ومحايدًا، (لكين تقعد تدس حاجة، أو حاجة ما تكتبها، ما تبقى مؤرخ)!

وكما جاء في تعريف مقدم البرنامج، فإن فدوى هي أول امرأة تنال درجة الأستاذية في جامعة الخرطوم، وهي قد تخرجت في عام ١٩٧٩، أي أنها سبقت تخرجي من نفس كلية الآداب بهذه الجامعة بعام واحد، وهو ما يعني أيضًا تزامن سنوات دراستنا لأربع سنوات تقريبًا، كانت خلالها حركة أركان نقاش الجمهوريين، وأنشطتهم السياسية والفكرية المكثفة، في أوجها، وكان من المستحيل أن تمر بقهوة النشاط، حتى تدلف إلى قاعات ومكاتب ومكتبات الكلية، أو مكتبة السودان، أو المكتبة العامة، بدون أن يلفت نظرك هذا التجمع الكبير المتحلق حول أركان نقاش الجمهوريين اليومية، بحضوره الكبير، حيث كان يؤمها المئات من الطالبات والطلاب. ومن الطبيعي جدأ أن يكون هذا قد استرعى انتباه فدوى، فكيف يعقل ألا يثير فيها الفضول والرغبة في تقصي تاريخ الجمهوريين، وهي المحبة والمتخصصة في تأريخ السودان الحديث، منذ ذلك الوقت المبكر وحتى يومنا هذا؟

في نفس لقائها التلفزيوني تحدثت فدوى عن الزخم والمد الشعبي الضاغط الذي كان يطالب بالاستقلال التام، والذي حاصر ودفع باسماعيل الازهري، رئيس الحكومة الانتقالية، للتحول في اتجاه الاستقلال التام، بعيدًا عن فكرة الاتحاد مع مصر التي كان يتبناها حزبه الوطني الاتحادي، حيث لم يجد مناصًا من الاستجابة لهذه المد الشعبي الطاغي. عددت فدوى الأحزاب والكيانات التي شاركت في تشكيل هذه القوة الشعبية الهائلة المطالبة بالاستقلال، وذكرت من بينها الجبهة المعادية للاستعمار، والحركة الوطنية للتحرر الوطني، والعمال والطلاب، وحزب الاستقلال الجمهوري الذي شكله ثلاثة وزراء انشقوا من حزب الأزهري الاتحادي، والحزب الجمهوري الاشتراكي، الذي كتبت عنه ورقة، خلصت فيها إلى أن هذا الحزب الضئيل قد تأسس بتشجيع من الحكومة الاستعمارية، ولم تذكر الحزب الجمهوري الأشهر والأكبر، ولم تذكر زعيمه الأستاذ محمود، وهو الحزب الذي تأسس عام 1945، وسجل حضورًا سياسيا دائمًا، وقاد كفاحًا قويًا ضد المستعمر، كما فصل عبدالله، وأشار إليه التجاني عامر وفيصل عبدالرحمن على طه، ومنصور خالد وغيرهم. فهل هي لم تسمع بعد بالأستاذ محمود، ولا بحزبه، ولم تسمع بعد بتاريخه، ولا بنشاطه المكثف، ولم تسمع بنضاله الموثق ضد الاستعمار، حتى بعد أن نشر عبدالله تعقيبه عليها، الذي عدد فيه 112 بندًا ومساهمة ونشاطًا من تفاصيل (مع الاختصار الشديد كما قال عبدالله) كل ذلك السجل التاريخي الحافل؟

وتحدثت فدوى في البرنامج عن ثورة أكتوبر التي وسمتها بأنها كانت (انتفاضة)، وفصلت معالم قصورها وفشلها، ولم تذكر من بين تلك (محكمة الردة)، ١٩٦٨، التي مثلت عار القضاء السوداني، حتى بعد أن أهداها عبد الله وسلمها بيده نسخة من كتابيه: (الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والموافق، وكتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان)! فهل هي لا تزال تجهل هذا الحكم الذي تم استدعاؤه وتنفيذه في 18 يناير 1985، وأشعلت مؤامرة اغتياله شرارة انطلاق ثورة أبريل التي أطاحت بجعفر نميري بعد سبعين يومًا فقط من تنفيذ حكم الإعدام على الأستاذ محمود؟ هل حقيقةً تجهل فدوى كل حلقات هذا التاريخ الحديث الذي تناولته أقلام المؤرخين والكتاب والشعراء، السودانيين والأجانب، من الذين لا يكاد يحصيهم العد؟

سأواصل في الحلقة القادمة وهي الأخيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق