
يمّة شكو!
بقلم: إيثار يوسف
في ذاك الزمان كنا ننتظر رنّة جرس الحصة الأخيرة بمدرسة الأساس على أحرّ من الجمر ومن ثمّة تدافع البنات، الواحدة تلو الأخرى وفي هذا وذاك يحيطنا صخب الطفولة ولذته الدافئة. تشرئب أعيننا إلى الأفق باحثين عنها، فنجدها مقتعدة مكانها المعهود تحت تلك النيمة القائمة في العراء أمام سور المدرسة الشرقي. يعلو صياحنا (يمة شكو) أديني فول أحمر، وتصرخ من الجانب الآخر أخرى: أنا عايزة حلاوة شعيرية وتجاهد فوق رؤوسنا ثالثة بصوتها الحاد: هييييبي شكو تديني أنا أول! وكل ذلك دونما أدنى أسس لهؤلاء الأطيفال بمبادئ السبق ناهيك الاحترام: حينها ترد علينا جُلنا بصوت فخيم ولسان أعجميّ يتكسّر: “إنتَ يشكوك في الفندك قول يامين”. فنضحك ملئ أشداقنا بجزالة ونشوة بعثها فينا نطقها السلس وايقاع لكنتها البهيّ. لن أنسى ما كان، مداعبتها لنا بكلمات في غاية البساطة، ولعناتها المرحة الوئيدة، التي هي أقرب إلى الدعاء منه إلى اللعن، بل أقرب إلى قلوبنا من حبل الوريد.
مضت السنون الطوال مذ أن تخرجنا من المدرسة وتفرقت بنا السبل في كل جنبات دنيا الله الواسعة، لكنني لازلت أتذكر “يمة شكو”،
كلما رأيت إحدى بائعات الفول تحمل طبق الفول المدمس ودعاباتها معطونة بوجه تحفّه الألفة والمحبة.
ذهبت في غضون شهر كانون الثاني (يناير) الماضي كعادتي إلى السوق الشعبي ولدهشتي أراها بكامل بهائها القديم وجمال صوتها وهو ينطق الحروف مقلوبة حينا ومدغمة حين آخر، ناديتها ببقايا فرحي الطفولي القديم: “يمة شكو”
فالتفتت إلى بدهشة معقبة: “يشكوك في الفندك يا المسخوتة إنتِ”. ذكرتها بالسور الشرقي وصخب الطفولة فقالت ضاحكة: “لو في فندك نشكو توالي”. سألتها عن حالها وأحوالها فابتسمت بحزن فاضت له عيناها، ثم قائلة: “الله نهمدوا ونسكر فدلها”. ابتعت منها ما استطعت من بضاعة وافية بيد أنني لم أكن في حاجة إليها بذلك المقدار وعقدت العزم ونويت أن أعيد الكرّة أسبوعيا وأن أبلّغ كل احبابي ومعارفي بمكانها حتى يدعموها دون أن تشعر بتفضلنا عليها. أعلم جيدا أن مثلها الكثيرين والمثيرات، يرزحون تحت عوذ الحاجة ويمنعهم في هذا وذاك تعففهم وكبريائهم عن التسول.
“يمة شكو” وجه من وجوه قد تصادفنا في كثير من محطات حيواتنا فلنلتفت إليها ولنرد العطاء القديم صاعين دون منّ أو أذى حتى ولو بابتسامة كأضعف الإيمان.