
التشكيلي عباس مكي محاكاة الواقع بالرمز سرد بصري ملون
بشرى بن فاطمة
لكل فنان تشكيلي لغته وأسلوبه التعبيري ورموزه التي تحاكي تفاصيل مواقفه الفنية من واقعه ووجوده وانتمائه لإنسانيته، التي تفتح له أبواب التواصل مع المُتلقي حيث يقرأ واقعه ويغُوص في كل بعد من أبعاده، فيتجاوز السطحية ويعبُر نحو العمق، وما يتميز به الفنان التشكيلي اللبناني عباس مكي من رموز يعيد تفعيل حضوره البصري مع وحدة الأسلوب الذي يتوافق مع تفاصيله المجازية في تقريبه الفهمي من المتلقي.
ولعل الرمز في تجربة اللبناني عباس مكي لم يتفعّل من فراغ بل من معرفة وإدراك استطاع أن يستوعب حضوره في منطقة وأرض لها تاريخها البصري والحضاري ولها مخلّفاتها الواقعية الصادمة للذاكرة ولنفسية التعايش الإنساني، حيث يكمن الرمز في القدرة الحرفية التي تمنح العمل الفني الغزارة التعبيرية في قراءة الواقع بتأن يروّض انفعالاته الحسية العميقة حتى يتجاوز سطحية الظاهر، ويغمس تلك الحواس والانفعالات في الفكرة التي تنعكس داخله وتتمازج معه فتسطع في منجزاته بجمالية مُختلفة عن مخزون الأحاسيس المُختلطة والمُتداخلة ليتركها تعبّر عن ذاتها وكأنها على خشبة المسرح تؤدي دورها في رحم واقع معاد الصياغة على مساحة اللوحة مُشبع أيضا برمزية اللون الذي يعبّر عن الحالة المنقولة ذهنيا لا كرسم مستهلك بل كرؤية.
فهو يستوحي رموزه من الأمكنة ومن ملامح الوجود ووجوه الناس بكل تجلياتها ومظاهرها، والفن عنده يولد من كل الأحاسيس الإنسانية التي تتساوى في الانفعال وتختلف في الظهور فبين الحزن والفرح الكثير من الأفكار المحكية أو الصامتة التي تحاول أن تتواصل لتخلق الأمل في البقاء والاستمرارية. لأن الإنسان يتأثر بكل ما يحيط به وبالأشياء التي تستقبله سواء تلك التي تخلق انفعالاته وتفاعلاته أو التي تحدّد فكرة تقبله أو التي إليها ينتمي وتحتويه نفسيا ومزاجيا.
في الأعمال التي يقدّمها مكي تتنوع الأمكنة بشكل مقصود وبارز لأنها تعكس العمق الداخلي النفسي فتصبح اللوحة نفسها مكان واختلافها يخلق داخله ذاكرة متوهجة ليست مُجرّد حبس داخلي يربطه ويعيق أحلامه، بل انتماء والانتماء بنظره ليس معتقلا ولا سجنا يكتم فيه المنتمي أحاسيسه وأفكاره، الانتماء تفاعل فكر وعطاء أمل وإنجاز.
يراكم مكي رموزه في صور يشكّل بها المعاناة الإنسانية التي تتجلى مع الواقع في ذهنه فيتماهى معها دراميا وتنتقل به في الأمكنة وتتجول في إحساسه مثل كابوس مُنفلت من مشهد مُفعم باليأس يحاول النفاذ نحو اللوحة بفلسفة عميقة تطرح إشكاليات واقعية متقنة الإخراج تتفاعل مع مسطح اللوحة وتحركها من مكانها إلى مدارات وذهن المتلقي فيندفع نحوها بدوره باحثا وتواقا للتحرر من قيوده وهمومه وأتعابه. فالرمز الذي يعيد تشكيله يثير تساؤلات ملونة ومخضبة بالوجع والأمل صارخة في وجه الصمت المبهم في حركة اللوحة، فمن عتمة الخيبة يصل اللون إلى مداه ومن بؤر النور ينفذ بحثا عن الانفتاح، دون أن ينفصل المنجز عن بعده الجمالي ولا عن دوره في خلق متعة في الفكر ولا في خلق رؤية تنعكس بصريا تلتقي مع الذاكرة وما تخزن من حنين وتُخرج ذلك الصمت والقلق وكل تلك الفوضى والعبث الذي يعيق الحياة في منجزه الذي ينبش سواء في مساحة اللوحة أو في تشكل المنحوتة فيبعث فيها صوتا يحاول أن يصرخ ويفتت اليأس، فصوت الموهبة داخله يخترق جمود الصمت المُوجع في صراخ الواقع وعنف الأحاسيس ما يمنحه حرفية الكتابة.
لعباس مكي ثقافة بصرية تخزن كمّ التعبيرات النفسية التي تغمره من الملامح التي تتوالى في حضورها في منجزه مع الألوان المتداخلة بين الداكن والفاتح بين الملون والقاتم يحوّلها إلى صياغات رمزية تسرد نفسياتها التي قاستها مع فتراتها الزمنية من خلال الخطوط وانحناءاتها والأشكال وهندستها، فوضاها وترتيبها بين الظلال والأضواء، فيسلك طريق الإيحاءات التعبيرية وكأنه يبني نصا فلسفيا أو يكتب ملحمة فهو يحط تركيزه على تفتيت النفسية وقلق وجودها وكأنه ينبش داخلها يفتش عن صورة ومعنى آخر للانفعال حزنا كان أو فرحا قلقا أو سكينة، فيتجاوز التعبير المباشر ويخلق له رؤية بمدلولات ورموز تقدم المنجز كطرح فكري قابل للفهم.
تتحكم الأبعاد الرمزية للألوان والظلال والفراغات في اللوحة في البعد الحسي المنسجم معها فيلتقي اللون القاتم في الفكرة مع اللون الداكن في اللوحة ويشكل علامة ودلالة ومن هذا المنطلق تبدأ التداخلات الرمزية للألوان تتجاوب مع الفكرة وتتصارع معها بين الضيق.
الارتباط بالإطار المكاني يعبر عن الذات كذاكرة وكحكايات ويندمج في مركبات اللوحة كانفعال مكثف بالإحساس «الذاكرة بالنسبة لي هي خزان الصور والمشاعر والروائح وأشياء كثيرة قد تصعب ترجمتها أو صياغتها الذاكرة هي خلاصة كل ما مضى مليئة بالألوان والظلال والخوف والسعادة واللهو والعبث.. فيها فضاءات تتسع لكل ما يمكن أن أرسمه الآن وما لم أرسمه، طبعا الأماكن التي عشتها تؤثر بي كثيرا.. فأنا لا أزال أعيش كل الأماكن والأشخاص الذين مضوا.»
يخضع الموضوع الجمالي في منجز عباس مكي لمزج السيكولوجي والنفسي والفلسفي والواقعي مع الرمزي فيخلق مؤثرات تتفاعل مع الأحاسيس يخضعها للملاحظة والتجريب حتى يصنع منها عنصرها الجمالي فالمراوحة بين العاطفي والواقعي بين الفكري والحسي تدمج الذوق مع الموهبة والعقل مع الحرفية فتظهر اللغة الفنية بتلقائيتها منبعثة في المساحات التي تتسع للفكرة.
عباس مكي فنان تشكيلي لبناني تتسم أعماله بإنسانية ورقي يكتسح المنجز الفني متجاوزا سطحية الواقع فهو إنسان علمه واقع المكان وأحداثه أساليب التعبير الفني وتوظيف الانفعالات وتراكمات المزاج والتحولات النفسية، فأضاف له هذا التعبير فرصة التحليق بعيدا بفكرته وتأملاته ورموزه ليدعم انتماءه ويحقق ذاته ويخاطب متلقيه بمنطق فكري. في بداية الثمانينات وقفت الظروف السياسية في بلاده أمامه فلم يتمكن من إكمال دراسته الجامعية في كلية الفنون الجميلة بلبنان في خضم كل تلك الصدامات التي شهدها ولأجل تحصيل معاليم دراسته قرر عباس مكي البحث عن فرصة للعمل فكان سفره إلى الإمارات حيث عمل في مجال الهندسة الداخلية ليعود إلى لبنان بعد الاستقرار المرحلي سنة 1991 ويستكمل دراسته ويصقل مشواره الفني، وفي كلمات يقول مكي عن تجربته وذاته «عباس مكي اسم لمسار يبدأ منطلقا من نقطة الشغف بالفن باللون وبالضوء فيخط دربه الفني بعفوية وتلقائية بالنسبة لي اللوحة هي مجالي الخاص الغير محدود وهي محاضر يومياتي الملونة والرمادية كما أنها منبري الذي أخاطب من خلاله ذاتي والآخرين.»
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections