
حكاية الفلسفة (21)
أبو بكر الصديق على أحمد مهدي
طبيعة الوجود وطبيعة المعرفة:
هل البست وجودك، يوماً ما، عباءة المعرفة؟ وهل رسمت له هدفاً ما، يوماً ما؟ وهل تستطيع أن تكون موجودا وغير موجود، يوماً، وجوداً بلا معرفة ما؟ وهل حملت بين جنبيك غايةً ما، يوماً ما، وحياتك نفسها لم تكن تحتضن معنيً ما؟ وهل رأيت عورتك الوجودية، يوماً من الأيام، وهي مكشوفة ومباحة ومستباحة للملأ العريض يتغزل فيها ويغازلها، دون أن تحرك، أنت، ساكنا من أجل أن تسترها وترحمها بعفاف المعرفة؟ أرجو ذلك كذلك!!! … يقول اربش فروم…: «إذا سألت رجلاً طيباً: لماذا تحب الله؟ سيجيبك: لا أعرف… لأنه الله!»
«لماذا تحب الحقيقة؟ «
…»لأنها حقيقة»
«لماذا تحب العدالة؟ «
…»لأنها عدالة!»
«لماذا تحب الطيبة؟»
… «لأنها طيبة!»
«ولماذا تعيش؟»
… «أقسم بشرفي لا أعرف… أنا أحب أن أعيش!»…
وهكذا بكل البساطة المتوفرة فيه!!!
أما بعد… لقد اتفق الواقعي مع البراغماتي في تفسير طبيعة المعرفة، وقالا بانها تستند الي شيء موجود خارج العقل، ولكنهما لم يتفقا في نوع العلاقة التي تنشأ بين العقل العارف والشيء المعروف. ففي الوقت الذي جعلها الواقعيون علاقة حميمية بين الصورة والأصل (فالمعرفة عند الواقعي -الواقعية الساذجة على وجه الخصوص-هي صورة لما يحدث في الوجود من أحداث ووقائع، فالحقائق الخارجة عني هي الأصل، ومعرفتي بها هي الصورة)، جعلها البراغماتي علاقة سلوكية عملية (أي خطة يتبعها الانسان العارف في سلوكه، وفي معالجته للحاجات الخارجية).
واتكاءً، واعتماداً على نظرة الواقعيين لطبيعة المعرفة، فأنت، اذن، تعرف بمقدار ما في عقلك أو رأسك من موجودات العالم وأشياء الوجود، وأيضاً، من أحداث ووقائع تفرض نفسها وجودياً على الواقع. وقد تحمل في مخيلتك كل هذه الصور دون أن يقودك ذلك الي أي عمل تعمله أو فعل تفعله، أي عند الواقعيين، المعرفة لا تتضمن سلوكاً محدداً يقوم به الانسان العارف كما عند البراغماتي.
ويرى المذهب البراغماتي بأن طبيعة المعرفة ليست مجرد تصوير لعالم الواقع الخارجي كما يظن ويعتقد المذهب الواقعي، ولكنها بمثابة وسيلة أو أداة للسلوك العملي، بمعنى أن الفكرة عندهم تعتبر خطة عمل تحفز صاحبها الي القيام بعمل محدد ومعين، والفكرة التي لا تحرض أهلها، وتفشل في أن تقودهم الي عمل يمكن أن ينجزونه لا تعتبر فكرة، وانما لا شيء على الاطلاق، فهي باطل يعشش في رأس صاحبها.
أما المثاليون أهل المذهب المثالي، فهم لا يعترفون بوجود شيء خارج العقل الانساني، فلا وجود الا لما يدركه عقلك أو عقله أو عقلها. وإذا عجز العقل عن إدراك شيء ما، يستحيل أن يكون لهذا الشيء وجود، فمعرفة الشيء ووجوده وجهان لحقيقة واحدة. وتكون إجابة المثالي عن السؤال (ما طبيعة المعرفة؟) كالآتي: «طبيعة المعرفة هي نفسها طبيعة الوجود». فليس هناك فرق بين الشيء باعتباره كائن من كائنات العالم وبينه باعتباره مدركاً من مدركات العقل. فمعرفتي للشيء الذي أمامي هي نفسها عين الشيء، أي ليس هناك صورة وأصل (أصل في الخارج، وصورة عقلية في الداخل) بل كل الموجود عن الشيء هو الصورة العقلية وحدها. وهكذا يتفق المثاليون في المبدأ القائل بتطابق المعرفة والوجود، فهما (المعرفة والوجود) على حسب ذلك المبدأ شيئاً واحداً، ولكنهم، أي المثاليين، لا يتوافقون حول ما يصلون اليه من تفصيلات، فهذا هو الفيلسوف «هيغل» الذي يعتبر من أعظم الفلاسفة المثاليين في قروننا الحديثة، يقول عن طبيعة المعرفة الآتي:
… (المهمة الرئيسية للمعرفة هي أن تفسر لنا العالم، بحيث نهتدي من خلال ما نعرفه الي حقيقة هذا العالم الذي نعيش فيه، لكن «التفسير» نفسه ما هو؟ ما معناه؟ يعني متي نقول عن حقيقة يراد شرحها، ويراد تفسيرها ان هذا الشرح وهذا التفسير قد تم وكفى، ولم تعد هذه الحقيقة بحاجة الي شرح أو تفسير؟
اذن، ما هو التفسير أو التعليل؟ باختصار، «التفسير هو نسبة الشيء المراد تفسيره الي حقيقة أعم منه تشمله وتحتويه.» أما إذا كانت الحقيقة الأعم والأشمل هي ذاتها في حاجة الي تفسير، والي تعليل نسبتها الي ما هو أشمل منها وأعم منها، ويحتويها مع أشياء أخرى، وكذلك، وكذلك، وهكذا دواليك، الي أن نصل الي مبدأ أول يفسر ذاته، ويشرح كل شيء يترتب عليه. وإذا نجحنا في الوصول الي هذا المبدأ الأول بالنسبة للكون كله نستطيع أن نفسر الوجود ونفهمه.
وللحكاية بقية… وكمان نهاية…
المصادر:
•زكريا، ف.، 1991. نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان. مطبعة مصر: دار مصر للطباعة.
•فروم، أي.، 2011. فن الوجود: (ترجمة: ايناس نبيل سليمان). الطبعة الأولي. دار الحوار للنشر والتوزيع.
•كانط، أي، (د. جمال محمد أحمد، اشراف د. أحمد عبد الحليم عطية).، 2009. أنطلوجيا الوجود. دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع.
•محمود، ز.، 2017. نظرية المعرفة. مؤسسة هنداوي سي آي سي. المملكة المتحدة